كثير من قادة العالم قدموا نماذج سياسية اعتمدت على صورة “المتحدى للغرب” الذي أخذ في بعض الأحيان صورة المستعمر أو السلطة العالمية غير العادلة. واختلفت النتائج التي قدمها هذا “المتحدي” من خبرة إلى أخرى ومن زعيم إلى ثاني. إلا أن صورة الزعيم الذي يقول لا للنظام المسيطر عالميًا وتقوده أمريكا كانت دائمًا لها جمهور واسع في الشرق والجنوب، وكثير من المتضامنين معهم في الغرب.
منذ لحظة الهجوم الروسي على أوكرانيا وجدنا في العالم العربي مؤيدين كثر للرئيس بوتين، باعتباره تحدي الغرب وأمريكا. مثلما حدث حين قرر صدام حسين منذ 32 عاما أن يغزو الكويت. كان هناك من يؤيده باعتباره قائد يواجه الغرب. وتعزز هذا المشهد حين أطلق صواريخ على إسرائيل “فنال الحسنيين” عند الكثيرين: أي مقاوم للغرب وإسرائيل.
وحين قرر الزعيم جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس في عام 1956 وصموده شعبيا وعسكريا في وجه العدوان الثلاثي، تشكلت منذ ذلك التاريخ أحد الروافد الأساسية لشعبية الرجل الكبرى في العالم كله. وخاصة دول العالم الثالث، وعلى رأسها العالم العربي باعتباره تحدي الغرب المستعمر.
لقد مثل التخلص من الاستعمار قيمة عليا آمن بها غالبية الناس في الشمال والجنوب والشرق والغرب. وهذا ربما ما يفسر انتصار كل معارك التحرر الوطني التي خاضتها كل الدول المحتلة ( ماعدا فلسطين). لأنها لم تؤسس فقط على تحدي الاستعمار. وإنما حملت قيمة عليا في العدالة والمساواة بين شعوب الأرض. فانتصرت على دول احتلتها لعقود، وكانت أقوى منها بمراحل.
إن انتصار مصر بقيادة عبد الناصر في 56 كانت لأن الرجل لم يتحد الغرب باحتلال السودان. إنما بتأميم قناة السويس المصرية، وامتلاك أدوات مشروعة إخلاقيا، وأوراق ضغط شعبية وسياسية ناجعة.
تحدي الغرب بأدوات وأساليب خاطئة وبأوراق ضغط واهية وبغياب أي بعد أخلاقي مثله غزو صدام حسين للكويت. وكانت نتيجته الفشل والهزيمة. أما تحدي الغرب على طريقة بوتين أي بامتلاك أوراق ضغط مؤثرة لقوة عظمي، واستخدام وسائل غير مقبولة قانونيا وأخلاقيا بغزو دولة ذات سيادة، فإن هذا سيعني أن حسابات النجاح والخسارة متوقفة على قدرته في التفوق على أوراق الضغط التي يمتلكها الغرب. دون أن يعني ذلك أن أدوات بوتين مشروعة أخلاقيا، إنما هي حسبة مصلحية وبراغماتية تماما.
والحقيقة، أن تحدي الغرب في ذاته لا يقدم بديلا ولا يحقق نجاحا حتى لو نسج صورة مؤثرة في الخيال الشعبي ونال تعاطف قطاع واسع من الناس. لأن تحدي الغرب أو تحدي أي منظومة مسيطرة يتطلب عدالة القضية التي يدافع عنها الطرف “المتحدي”. كما تطلب أيضا أداء جيدا على المستوى المهني والسياسي، وحساب دقيق لأدوات القوة وأورق الضغط. ولا تكتفي بالقول لقد أعلنا الحرب وقررنا مواجهة النظام العالمي والقوى الغربية “الظالمة” بالشعارات أو عبر استخدام أدوات غير فعالة تؤدي حتما إلى خسارتك المعركة.
إن معركة بوتين مع الغرب في أوكرانيا تقول إنه على الأرجح سينجح في تغيير جانب من معادلات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومن الممكن أن يفرض قواعد جديدة في التعامل مع مجال روسيا الحيوي ومع الدول المتاخمة لحدودها. وربما يصل إلى تفاهمات مع الغرب بخصوص حياد أوكرانيا وعدم انضمامها للاتحاد الأوربي أو حلف الناتو.
نجاح الاستراتيجية الروسية متوقف على اكتفاء بوتين بضمان حياد أوكرانيا وعدم نقل هذا الصراع إلى أماكن أخرى أو دول مجاورة مثل بولندا أو جمهوريات البلطيق التي هي جزء من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وإنهاء الحرب في أقرب فرصة، وبذل قصارى الجهد لتقليل الخسائر بين المدنيين.
نجاح روسيا ليس انتصار أخلاقي، ولا يعني أن هذا الأسلوب بغزو دولة ذات سيادة يجب قبوله أو اعتماده. إنما يعني أن الرئيس الروسي حسب حساباته بشكل جيد واختار أداة عسكرية لتحقيق أهدافه في بلد يقع على حدوده ومنقسم عرقيا وسياسيا بين مؤيد ومعارض لروسيا.
تحدي بوتين للغرب نال دعم البعض في العالم العربي. وهو لا يشكل في ذاته ضمانه لربح المعركة. خاصة أنها لا تحمل أي رسالة إنسانية أو تدافع عن قيمة عليا، كما حدث حين رفعت روسيا لواء الاشتراكية وحاربت النازية، وكانت السبب الرئيسي في دحرها بالتضحيات البشرية والمادية التي قدمتها. ومن الصعب تصديق الرواية الروسية الحالية بالقول إن هدفها “نزع النازية” من أوكرانيا. فالمؤكد، أنها معركة قومية لدولة عظمي تدافع فقط عن أمنها القومي بوسيله عسكرية تظل غير مشروعة.
التحدي الروسي للغرب هو معركة روسيا وليس العالم. على عكس كل معارك التحرر الوطني التي شهدها العالم الثالث، وكانت معارك كل الأحرار في العالم كله.
من الصعب على روسيا أن تقنع هؤلاء أنها تحارب الإمبريالية أو الاستغلال أو تسعي للتحرر والاستقلال. إنما هي حرب من أجل بسط نفوذها على دولة مجاورة اعتبرتها مصدر تهديد لأمنها القومي. صحيح، أنها لا تسعي لاحتلالها أو ضمها للاتحاد الروسي، وربما لا تستطيع في ظل توازنات القوى الحالية. ولذا وضعت شروط لإيقاف الحرب أبرزها ضمان عدم انضمام أوكرانيا لحلف للناتو من أجل تحقيق هدف أكبر هو تعزيز حضور روسيا على الساحة الدولية كقطب ثاني بجوار أمريكا والصين.
نعم تحدي بوتين الغرب في معركة تخص بلاده وأمنه القومي والاعتراض على أسلوب الغزو العسكري لا يمنع تحليل أدوات قواته وهي كثيرة، والتي غالبًا ستسمح له بربح معركته.