لم يكد الناس يفرغون من صلاة الجمعة، حتى جاءت الأنباء تحمل تفاصيل الانفجار المروع الذي استهدف مسجدا في مدينة بيشاور بباكستان، حيث قتل على الفور أكثر من 30 مصليا، وسقط عشرات الجرحى.. لم تنقلب صفحات التواصل الاجتماعي، ولم يغير أحدهم صورة “البروفايل” إلى علم باكستان.. لا إدانات.. لا تدوينات للمشاهير.. لا كلمات حزينة.. ولا أي شكل من أشكال التعاطف.. تلك هي الحالة الشعبية التي لا يغيرها البيانان الرسميان الصادران عن الأزهر ودار الإفتاء.. لا تعاطف، لأن القتلى ينتمون إلى المذهب الشيعي.. وإذن، فلا داعي للحزن.
وفي كارثة الحرب الروسية على أوكرانيا.. وبحكم أغلبي، يمكن أن نرصد متابعة لا اكتراثية للمأساة.. متابعة باردة، لا تحمل تعاطفا حقيقيا، ولا شعورا بمعاناة الآخرين.. فقط لأن الآخرين غير مسلمين.. بل قد يصل الامر إلى مستوى من الشماتة، لأن الغرب لا يستحق التعاطف أصلا..
وهكذا، يبدو المسلم المعاصر، وبعد أن تراكمت عليه آثار الخطاب الحركي الذي انطلق منذ السبعينات وإلى اليوم وكأنه لا يدخر جهدا لتقديم البرهان تلو البرهان على أزمته، وانفصاله عن الدائرة الإنسانية العامة.. فهو لا يعرف الانتماء أو التعاطف أو التضامن إلا على أساس ديني فقط.. ومن منظوره الضيق فإن الحرب الدائرة الآن هي بين فريقين، كلاهما مسيحي، وإذن، فالموقف منها يتلخص في عبارة “اللهم أهلك الظالمين بالظالمين”.
هل تريد الحقيقة؟.. إذن فاسمع: نحن لا ندين القتل لأنه قتل، ولا نتعاطف مع المقتول أصلا، وإنما ندين القتل تبعا لهوية القاتل.. وإلا فما الفرق بين استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة بين أحضان والده وبين استشهاد الأطفال في مسجد بيشاور؟ والفرق واضح لمن يصدق مع نفسه.. في واقعة “الدرة” القاتل إسرائيل.. لكن في مسجد بيشاور فالقاتل من “الأهل والعشيرة”.. والمقتول شيعي، لا بواكي له.
لا داعي للكذب، فأثر الجماعات السلفية والحركية يتحكم في عقل المسلم المعاصر، حتى ولو ادعى رفضه لأفكار هذه الجماعات.. التربية المحضنية والعلنية لهذه الحركات أنتجت أجيالا من أدعياء الالتزام الديني، يكرهون كراهية شديدة لفظة “إنسانية” أو “إنساني”.. يسخرون منها ومن أصحابها.. لا يجد أحدهم إشكالات في تكفيرك إذا طالبت بـ”أنسنة الفقه”، ليساعد على إدماج المسلمين في الحالة الإنسانية العامة ليكونوا جزءا طبيعيا من العالم، لا أمة تنشر الفزع والقتل والإرهاب باسم الدين في أرجاء الأرض.
يفقد الحركيون صوابهم عند سماع أي صوت يضعف فكرة المؤامرة العالمية على الإسلام.. يصيبهم سعار وهياج، إذا كتب كاتب أو مفكر أن الدين في ذاته ليس مستهدفا، وأن راية الدين حين تُرفع في حرب فإنما يجري توظيفها لا أكثر ولا أقل.. فوهم المؤامرة، ووهم مواجهة المؤامرة هو قوت الجماعات الحركية وغذاؤها، والمصدر الأول لوجودها وللمشروعية الشعبية لتنظيماتها.
ويمكن أن نضيف إلى آفات العقل المسلم المعاصر آفة النسيان، لأن الذاكرة الحية تنسف كثيرا من الأوهام التي رسخها الحركيون فيه.. وتكشف تلك الذاكرة القريبة عن أن اجتياح الاتحاد السوفيتي لأفغانستان لم يكن يستهدف محاربة الإسلام، ولا القضاء على “النهضة الإسلامية” الأفغانية.. كما تكشف أن المساندة الضخمة من المخابرات الأمريكية لما يسمى فصائل المجاهدين، لم تكن نصرة للإسلام والمسلمين، ولا لإقامة دولة إسلامية على الأرض الأفغانية.. كما تكشف أن “المجاهدين” حين دخلوا كابول منتصرين، لم يلبثوا أن تنازعوا على السلطة، وقصفوا العاصمة التي حرروها بالصواريخ والمدافع، وبوحشية لم يعرفها الأفغان طوال سنوات الغزو السوفيتي… في كل هذا كانت اللافتة الدينية حاضرة، لحشد آلاف المتدينين، وتوظيفهم ليضعوا أنفسهم طوعا في خدمة أمريكا التي “يعادونها”.
أطلق خيالك، وحاول أن تتصور كيف يكون موقف المسلم المعاصر لو أن الغزو الروسي لأوكرانيا كان لـ”أوزبكستان” مثلا؟.. فالمؤكد أن الصراخ والتباكي ودعوات الجهاد ونصرة الإخوة كانت ستشق الفضاء، استنقاذا للمسلمين من العدوان الروسي الأرثوذكسي، وانظر كيف سيتصاعد الأمر حينما يستصرخهم مفتي أوزبكستان للموت دفاعا عن ضريح الإمام البخاري في طشقند.. فنحن الأمة التي عرفها العالم، بأنها سهلة الاستفزاز الديني، ويمكن لأي كاتب، أو رسام كاريكاتير في صحيفة محلية أن يفجر مظاهرات الغضب في 50 دولة، وهو يدخن سيجارته منتشيا من “الجنون” الذي اشتعل.. لكننا لا نتأثر ولا نغضب لقتل الأطفال ولا لتشريد العجائز في عز البرد.. لأنهم ليسوا على ملتنا.
وبالطبع، فلو أن الغزو الروسي كان على أوزبكستان، لما رأيت تلك التعليقات المخجلة عن انتظار اللاجئات الأوكرانيات.. فالمسلم المعاصر لن يسمح بمزاح يطال أعراض الأوزبكيات، لكنه يتخلى عن كل قيم الحق والعدل والإنسانية عند اختلاف الدين.. هو لا يحترم قيمة لذاتها، وإنما يحترمها فقط في حال الاتحاد العقائدي، بل إن إخوة الإسلام في عمومها لا تكفيه، إذ لابد معها من اتحاد المذهب، وإلا فهو لا يعرف التعاطف مع إمامي أو زيدي أو إسماعيلي أو إباضي.. لو قتل ظلما وهو يؤدي فريضة الجمعة في بيت من بيوت الله.
وإذا كان المتعارف عليه بين العقلاء أن الأديان تدفع أصحابها لأن يكونوا أهل سلام ومحبة، وأن الإسلام بخاصة جاء “رحمة للعالمين”، وأن شريعته تأمر بالعدل والإحسان، فيمكننا أن ندرك حجم التحريف الذي أصاب الدين على يد جماعات الغلو الحركي والسلفي حتى جعلت أتباعها والمتأثرين بها مضرب المثل في الغلظة والفظاظة والكراهية والعنصرية والاستعلاء.
وبمجرد أن نشر شيخ الأزهر بيانه مستنكرا هذا الإجرام، أمطره “مجاهدو الإنترنت” بوابل من التعليقات الساخرة، و”المصوبة”: هؤلاء روافض لا مسلمين.. هذا معبد شيعي لا مسجد.. باكستان تحارب أهل السنة فيجب القضاء عليهم قبل أن يقتلونا في بيوتنا.
هذه الحالة الفكرية الكارثية البائسة لا تكاد تلفت انتباه أحد، ولم نر أحدا من أدعياء الغيرة الدينية، الذين أشعلوا البلد الشهر الماضي بضجة لم تهدأ حول إبراهيم عيسى، لم نر أحدا منهم حاول أن يتصدى بكلمة أو مقالة أو فيديو لهذه المأساة.. مأساة الغرق في أفكار دموية مدمرة للأفراد وللمجتمعات ولما بقي من سمعة المسلمين.. لم يدينوا القتل.. ولم يستنكروا الإرهاب.. ولم يتعاطفوا مع من استشهدوا وهم ساجدون بين يدي الله.
وفي المسألة الروسية الأوكرانية، وبعيدا عن المواقف السياسية، أو الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، فلا يمكن لأحد أن ينكر أننا أمام مأساة إنسانية، تتمثل في نزوح مئات آلاف اللاجئين الأوكرانيين، الذين اضطروا لترك منازلهم هربا من جحيم الحرب.. وقد رفع شيخ الأزهر عنا كثيرا من الحرج ببيانه الذي أصدره أمس بمختلف اللغات الحية في العالم، حيث اعتبر أن “ما نشاهده من ترويع الأوكرانيين الآمنين، وخروجهم من ديارهم بحثا عن الأمن والأمان، يمثل اختبارا حقيقيا لإنسانيتنا”.. ودعا الإمام الأكبر لوقف الحرب، وبذل جهود أكبر لمساعدة اللاجئين الأبرياء.
لا ترضي هذه المواقف الإنسانية من شيخ الأزهر أصحاب النفوس المريضة والعقول الخربة، ممن تلقى أوهام الجماعات باعتبارها دينا.. لا يرضون من الإمام أن يتضامن مع النساء والأطفال المهجرين من بيوتهم بلا ذنب اقترفوه.. لكن هذا الموقف من شيخ الأزهر كان لينال قبولا وتأييدا من “مجاهدي الإنترنت” فقط في حالة واحدة.. اترك نص البيان كما هو.. احذف “أوكرانيا”.. ضع مكانها “أوزبكستان”.