مع كل حديث عن حقوق المرأة، ومع كل مناقشة لقانون يخص الأسرة، أو الأحوال الشخصية، يثور الجدل حول مسؤولية المؤسسة الدينية عن ما يعتبره كثيرون ظلما واقعا على النساء في مصر.. الاتهامات تتلخص في أن المؤسسة الدينية تتمسك بآراء تقليدية تتناقض مع مبادئ المواطنة والمساواة، وتضع الذكور في مكانة أعلى تسمح لهم بالتفوق والهيمنة، لتعيش المرأة المصرية زوجة كانت أو ابنة أو أختا في حالة مستمرة من القهر والعجز.. وفي المقابل تؤكد المؤسسة الدينية متمثلة في الأزهر أنها خطت خلال السنوات الماضية خطوات مهمة لإنصاف المرأة، عبر تقديم رؤى فقهية تنصف النساء، وتراعي التطور المجتمعي، وتلبي كثيرا من مطالب العدل والمساواة ومبادئ الدستور.
ومما يعمق الهوة بين الأزهر من جانب وبين التيار النسوي من جانب آخر أن الحوار يكاد يكون مفقودا تماما بين الطرفين.. ومع مرور الزمن قويت الحواجز، فمن ناحية، لم تعد المؤسسة الدينية قادرة على فهم ما يريده “أنصار المرأة” ولا إدراك حقيقة مطالبهم، مع شعور يتعاظم بأن هناك حالة من التربص بالأزهر وشيخه، ورفض أو انتقاد أو تجاهل كل ما يصدر عنه من مقررات تمثل خطوات تضيف إيجابيا إلى مكتسبات النساء.. بل إن كثيرا من الأزهريين أصبح مستيقنا أن أصحاب الأصوات الزاعقة في الميدان النسوي لا يريدون للظلم أن يرتفع، ولا للمشكلات أن تُحل، ولا للأزهر أن يقدم رؤية مستنيرة، وأن بقاء الأحوال على ما هي عليه يصب في صالح أفراد ومؤسسات تتكسب من هذه القضايا.. ومن ناحية أخرى، لا يبذل التيار النسوي أي جهد لفهم المؤسسة الدينية، وإشكالاتها، ولا المعوقات التي تقف في طريقها لتقديم رؤية أكثر إنصافا للمرأة، مع اختزال المعاناة النسوية كلها في “الجمود الفقهي” الذي يهيمن على المشايخ.
ويمكننا أن نقول إن الطرفين واقعان في حالة من التبسيط لإشكالات شديدة التعقيد، متعددة الجوانب، مع تغافل تام للأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وإهمال مؤثرات النشأة والتعليم والمحيط المجتمعي، وأنماط التربية في البيت والمدرسة واختلاف الطبائع الشخصية.. ومع كل هذا، فإن الحاجة ملحة وضرورية للاطلاع على ما أنجزه الأزهر في قضايا المرأة، وتحديدا في الجوانب التي تتماس مع الشريعة والفقه، إذ ليست كل القضايا النسوية على صلة مباشرة بالدين، وليس للأزهر فيها كلمة أصلا.
من الصعب جدا أن يُنكر أحد أن الأزهر في السنوات العشر الماضية، أي خلال مشيخة الدكتور أحمد الطيب، قد قطع شوطا معتبرا في حل الإشكالات الفقهية التي اعتبرت عقبة في طريق المساواة ورفع الظلم عن النساء.. وقد جاءت هذه الخطوات في أشكال متعددة، مثل إدراجها ضمن الوثائق الرسمية للأزهر، أو في صورة فتاوى وتصريحات ولقاءات لشيخ الأزهر بنفسه، أو من خلال هيئة كبار العلماء أو مجمع البحوث الإسلامية.. ويمكن أن نرصد هذه الخطوات فيما يلي:
- أجاز الأزهر للمرأة أن تتولى جميع المناصب بما فيها رئاسة الدولة، والقضاء، والإفتاء.
- أجاز للمرأة السفر دون محرم.
- قال بوجوب تعويض الزوجة عن اشتراكها في تنمية ثروة زوجها قبل تقسيم تركة الزوج.
- أفتى بتحريم ختان الإناث.
- أفتى بتحريم كل أشكال العنف ضد المرأة.
- أفتى بتجريم التحرش، واعتباره سلوكا لا يمكن تبريره لا بزي المرأة ولا بسلوكها.
- أفتى بتحريم إجبار الفتيات على الزواج.
- أفتى بتحريم زواج القاصرات.
- قال إن “بيت الطاعة” لا وجود له في الإسلام.
- اعتبر أن الزوجة الواحدة أصل، وأن التعديد استثناء للضرورة.
- أفتى بأن “ضرب الزوجة” في عصرنا يصل أن يكون حراما.. وفي الأقل، مجرد مباح، يجوز منعه بالقانون.
لكن الأوساط النسوية لم تلتفت إلى هذه التطورات الأزهرية، بل كانت بعض الأصوات ترى في صدور هذه الفتاوى مناسبة لتوجيه سهام النقد الشديد للمؤسسة الأزهرية، ولشخص شيخ الأزهر، باعتبار أن كل هذه الاختيارات الفقهية “دون المطلوب”.. أو “تحصيل حاصل” بالرغم من أن المؤسسة الأزهرية تبنت في هذه القضايا آراء وأقوالا تخالف غالبا ما هو مستقر في الفقه الإسلامي عموما، والمذاهب الأربعة على وجه الخصوص، وهذا ليس سهلا ولا معتادا داخل المؤسسة الكبيرة التي يغلب التفكير المحافظ على أعضائها.
كما أن كثيرين من نشطاء الحقوق النسوية يتغافلون عن أن الأزهر ليس جهة تشريعية.. صحيح أن الدستور والقانون أوجب العودة إلى الأزهر عند إصدار التشريعات أو التعديلات التشريعية الخاصة بقوانين الأحوال الشخصية، إذا كانت متعلقة بأحكام في الشريعة، لكن السلطة التشريعية تبقى للبرلمان.. والرسالة التي أراد شيخ الأزهر إيصالها إلى الدولة وإلى المجتمع وإلى النشطاء والحقوقيين تتمثل في أن الأزهر لا يقف عقبة تحول بين البرلمان وبين ممارسة دوره التشريعي كاملا، في إصدار القوانين أو التعديلات اللازمة لإنصاف النساء.. وعندما يتأخر البرلمان عن التصدي لهذه القضايا، فلا يعقل أن نحمل الأزهر المسؤولية.
ومن الأمثلة الصارخة هنا، مسألة ختان الإناث، فمنذ العام 2008، وفر الأزهر البنية الفقهية اللازمة لتجريم هذا الختان ومعاقبة من يتورط فيه.. لكن القانون المطلوب لهذا التجريم لم يصدر إلا بعد سنوات طويلة، فلم يتحمل الأزهر مسؤولية هذا التأخير؟.. ومن المهم هنا أن ننبه إلى أن “التهيئة الفقهية” لتجريم ختان الإناث لا تنحصر في الإفتاء بتحريمه، فالقول بإنه مجرد مباح، أو مكرمة، أو عادة، كل ذلك لا يمنع المشرع من إصدار قانون بمنعه وتجريمه.. وإنما يكون التعارض في حالة واحدة، إذا كان الأزهر يقول بأنه واجب شرعي يأثم تاركه.. وهذا لم يحدث في أي مرحلة من مراحل مناقشة هذه القضية.
وأيضا في مسألة “الضرب”، التي انتهى شيخ الأزهر فيها إلى “التحريم”، وطالب بـ”التجريم”، فتح الأزهر الباب أمام البرلمان لإلغاء المادة 60 من قانون العقوبات التي تنص على أنه: “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة”.. وهو نص يحمي الزوج “الضارب” من أي إجراء قانوني يمكن أن تتخذه زوجته ضده.. لكن بعض الإعلاميين والنشطاء تركوا الموقف الذي انتهى إليه شيخ الأزهر، وأمسكوا بكل قوة في كلام يشرح فيه الشيخ معنى الآية المشهورة في سورة النساء، مبينا أن الأمر بالضرب فيها لا يعدو أن يكون مباحا يمكن منعه بالقانون.. ولأن الأجواء تربصية من الأصل، فقد أصر بعض خصوم الأزهر على أن الشيخ يقول بأن ضرب المرأة “مباح”.
وبالطبع، فقد جاءت ردود الأزهر في الصحف والإعلام قوية لتوضيح حقيقة موقف شيخ الأزهر، لكن هذه الأزمة عمقت الشعور الأزهري بالتربص، لاسيما بعد أن رأى الأزهريون أن الأجواء هدأت تماما بمجرد أن تأكد للجميع أن الأزهر لا يقف مانعا من تجريم الضرب، أو إلغاء المادة 60 من قانون العقوبات.. ارتفعت داخل الأزهر الأصوات التي تقول إن هذه الضجة لا تثار إلا في وجه الأزهر، وإلا فلماذا لا يكمل النشطاء الحقوقيون نضالهم ضد البرلمان “المتقاعس”، وهو المسؤول في الأخير عن أي تعديل تشريعي.. إذن، هذا نضال ضد الأزهر فقط، فلما ثبت أنه ليس طرفا في المسألة عم الهدوء والصمت.
ويرى الأزهريون، أن كثيرا من خصومهم يريدون توريط المؤسسة الدينية في مواجهة مع الشعب، بتحميلها وحدها مسؤولية الإصلاح التشريعي فيما يخص الأحوال الشخصية عموما، وحقوق المرأة على وجه الخصوص.. فعندما طالب شيخ الأزهر بأن تنال المرأة –قبل تقسيم التركة- نصيبها من الثروة التي ساهمت في تنميتها، تعالت أصوات نسوية بالرفض والتشكيك، وقال كثيرون: لا نحمل كلام شيخ الأزهر على محمل الجد، ولا نصدقه حتى يفتي بمساواة المرأة والرجل في الميراث، واعتبار قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” حكما تاريخيا جاء في ظروف مغايرة، ويمكن وقف العمل به، كما توقف العمل بالحدود والجزية وغيرها.
ومن دون التورط في مناقشة فقهية، فإن قضية المساواة في الميراث لا تتوقف فقط على تأصيل فقهي جديد، وإنما هي بالأساس قضية مجتمعية، تتعارض مع أعراف موروثة ومستقرة وراسخة، وفي كثير من محافظات الصعيد وأرياف الدلتا، لا تنال النساء نصيبهن من الميراث وفق الشريعة أصلا، وبعض العائلات تقولها علنا: لا نورث البنات.. بمعنى أن قطاعات واسعة جدا من المجتمع، لم تصل بعد إلى مرحلة “للذكر مثل حظ الأنثيين”..
وليس من المنطقي أن نطالب الأزهر وهو المؤسسة الكبيرة ذات المكانة في مصر وخارجها، بأن يتصدى وحده لقضايا التحديث دون مراعاة التطور المجتمعي.. فمسائل مثل الميراث، الزواج المدني، تعدد الزوجات، مرهونة بمدى القبول المجتمعي، والتطور في تشريعاتها يكون وفق تطور الحالة المجتمعية، التي يواكبها الأزهر، نعم، قد يتأخر عنها خطوة، أو يتقدم أمامها خطوتين.. لكنه في كل الأحوال لا يستطيع أن يواجه هذه الحالة بقفزات بعيدة، قد تُسقط مكانته في أنفس الجماهير داخليا وخارجيا، وهو ما يصب حتما في حساب جماعات الغلو والتطرف.
تحتاج المؤسسة الأزهرية اليوم إلى أن تكون أرحب صدرا تجاه النقد، وأن تنظر في المطالب النسوية نظرة موضوعية بعيدا عن الضغوط.. وأيضا عليها أن تتأكد من أن الرؤى الإصلاحية التي يتبناها الإمام الأكبر أو هيئة كبار العلماء هي نفسها الرؤى التي يتبنها عشرات آلاف الأزهريين المنتشرين في طول البلاد وعرضها.. فكثير منهم يتمسك بأقوال جامدة تجاوزها الزمن، وتخطاها الفقه المعاصر.
ولأن الأزهر هو المؤسسة الأعرق، ذات التاريخ والمكانة، فإن الجانب الأكبر من عبء التواصل والحوار مع الحقوقيين والنسويين يقع عليها.. فالجدران العازلة لا تزيد الهوة إلا عمقا، وانعدام التواصل يهدر ما تم إنجازه فعليا.. وعبر الحوار يمكننا أن نتعرف جيدا على الجانبين المهمين في قضايا المرأة: الأول، جانب الإمكان، فليس كل مطلب مشروع بذاته ممكن فعليا، لأسباب كثيرة ومعقدة، هي إلى الاجتماع والثقافة السائدة أقرب منها الفقه والدين.. وثانيها، المسؤولية، فأكثر المطالب الموجهة اليوم إلى الأزهر، ليست من اختصاصه أصلا، أو له فيها قول لا يعيق السلطة التشريعية من إقرار أي تعديلات لازمة لإنصاف المرأة.. فكل الفتاوى والآراء الصادرة عن الأزهر، تظل بلا قيمة فعلية، ما لم تنعكس في صورة قوانين ملزمة.. فمصر تُحكم بالقانون لا بالفتوى.