في أفلام السينما وحواديت ما قبل النوم والقصص المثالية، يكسر الأبطال دائرة العنف الموجه ضدهم فيحولوه إلى سلام وأمل، ويرفض من ذاق القهر أن يذيقه للآخرين، ويبذل الفقير قصارى جهده كي لا يعيش أبناؤه الفقر الذي نشأ فيه، ويخشى أن يمسّهم بكلمة فضلا عن العنف الجسدي لأنه لا يزال يتذكر كم كانت صفعات والديه تؤلمه صغيرا.
أما في الحقيقة وفي كتب علم النفس، فالواقع ليس بهذا اللون الوردي، بل هو ببالغ الأسف، يكاد يكون على العكس تماما، فالعنف -ككل شيء تخبرنا عنه قوانين الفيزياء- له رد فعل مساو لما تلقّاه المعنَّف (بفتح النون)، فمن نشأ على الضرب غالبا سوف يضرب أولاده، ويعتقد أن تلك هي الطريقة السليمة للتربية، ومن رأى أمه تّضرب من أبيه سوف يضرب في المستقبل زوجته، ومن اضطر للعمل طفلا وتلقّى التعنيف من صاحب الورشة، أو جرّب خرزانة المدرّس، سوف يكبر معتقدا أن هذه هي طبيعة العالم، وحتى إن لم يعتقد ذلك فإن كل ما اختزنه الوعي والذاكرة، واللاوعي كذلك، سوف يجد مخرجه عبر عشرات الطرق للتعنيف المادي والمعنوي إزاء الآخرين.
والأفراد والأسر هم بطبيعة الحال الوحدات المصغرة للأمم، لذا فليس غريبا أن معظم تنظيمات العنف والإرهاب الأشد دموية نشأت في ظل أنظمة لا تقل دموية كالبعثين العراقي والسوري. ولا يعني ذلك أن تلك التنظيمات ليس لنشوئها أسباب فكرية كامنة في المجتمعات، وإنما يعني أنها وجدت في المجتمع المعنّف طوابير لا تنتهي ممن هم على استعداد للمشاركة في العنف،
وإن لم يكن الفرد مشاركا بنفسه في العنف السياسي فإنه كثيرا ما يكون مؤيدا لأحد أطرافه، فإما يتبنى فكرا فاشيا ضد طوائف وفئات أخرى في المجتمع، أو يرى أن ضحايا التعذيب والعنف السلطوي يستحقون ما يلحق بهم، ضمن سياق أوسع من ثقافة لوم الضحية، إن الرغبة في استبطان العنف وإعادة إطلاقه لا تتسق والتضامن مع الضحايا، ولا تستقيم سوى بافتراض أن العيب فيهم، سواء كان السياق ضحايا عنف سياسي أو جنسي أو ما يسمى بجرائم الشرف.
لكل ما سبق، فإننا أمام الأزمة التي تشغل العالم حاليا، أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا، قد بدونا كما تقول كتب علم النفس، لا الحواديت الخيالية التي كانت ستفترض أن دولا تعرضت طويلا للغزو والاستعمار مثل دولنا، وسقط منها ملايين الضحايا بصواريخ وطائرات وحصار الدول الاستعمارية والقوى الكبرى، كانت ستتذكر ماضيها -وحتى حاضرها- الحزين فتتعاطف مع مأساة الشعب الأوكراني في وجه الهجوم الروسي، لكن لأننا لسنا في تلك الحدوتة الخيالية، فإن معظم تعاطفنا الواضح انجرف نحو بوتين وروسيا، وصور اللاجئين عبر الحدود البولندية والرومانية التي ذكرتنا بصور لاجئينا على الحدود نفسها، لم تدفعنا للتعاطف مع أولئك اللاجئين.
بل العكس ذكرتنا بما عاناه لاجئونا من عنصرية ورفض وإقصاء، هكذا بدا العنف الذي تلقيناه غضبا مختزنا، سرعان ما أطلقناه من جديد نحو الضحية لا نحو الجاني، وربما نمد الخط على استقامته نحو الأوكران والبولنديين أنفسهم وكافة شعوب شرق أوروبا التي عانت الأمرّين طوال القرن العشرين، فإن في مثل تلك المعاناة تنتعش الأفكار المتطرفة والرغبة العارمة في إيجاد ضحية تصلح لممارسة العنف عليها، وهكذا بيننا وبينهم تكتمل الدائرة وينجو الفاعل الأصلي.