في مطلع شهر مارس/آذار الجاري. تم إدراج دولة الإمارات العربية المتحدة على قائمة المراقبة العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وذلك من قبل مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force)‏ والمعروفة اختصاراً بـ FATF. هي منظمة تهدف لمحاربة الفساد وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وتأتي هذه الخطوة بعد أن أصبحت أبو ظبي واحدة من أهم مراكز الأموال المشبوهة في العالم وفق عشرات التقارير والتحقيقات التي تم نشرها خلال الأعوام الماضية.

قبيل هذا القرار بقليل، نشرت وكالة بلومبرج تحقيقاً عن أطنان من الذهب المهرب من قارة إفريقيا إلى إمارة دبي، ومناطق أخرى بدولة الإمارات. لم يستطع المحققون التوصل إلى تحديد الكميات المهربة على وجه الدقة، إلا أن بيانات الأمم المتحدة عن حجم الذهب الذي استوردته أبو ظبي بشكل رسمي وشرعي معلن يقل عما تم تصديره إليها من تلك الدول بشكل فعلي بمقدار 4 مليارات دولار، وفق المقابلات التي أُجريت مع مسؤولين حكوميين في تسع دول إفريقية. تلك المليارات المهربة عادة ما تستخدم في تغذية الصراعات والحروب، وتمويل الشبكات والمجموعات الإجرامية والإرهابية وغسيل الأموال، وفق ما نقله التحقيق عن منظمة التعاون الاقتصادي.

وقد فسر التحقيق كيف تتم عمليات التهريب بالضبط، وبشرح مبسط من وزير المناجم النيجيري، أولاميليكان أديجبيت قائلاً “إنه من المتعارف عليه أن الدول تطلب شهادات تصدير من بلد المنشأ، وإذا لم تكن مرفقة بالذهب المصدر فإنه يُصادر ويُعاد إلى الدولة المهرب منها، وفي دبي يطلب الشيء نفسه على الورق فقط”. وتوضح الوكالة بإن الجزء الأكبر من الذهب المُستخرَج بشكلٍ غير قانوني يصدّر بأوراق مزورة من مصافي غير قانونية أو عبر حقائب اليد، ثم يتم صهره بمجرد وصوله لإخفاء مصدره الحقيقي. وقد أشار التحقيق إلى أن 80 بالمئة من ذهب السودان غير موجود بسجلات رسمية نقلاً عن وزارة المالية السودانية، ووفق تقارير من الأمم المتحدة ومصادر أخرى فإن 95% من الإنتاج من شرق ووسط إفريقيا ينتهي في دبي.

عاصمة للمال المشبوه

احتلت الامارات ترتيباً متقدماً عالمياً فيما يسمى عالم “الأوفشور”، وهي الشركات العابرة للحدود التي تستخدم كمراكز لتدوير أموال التهرب الضريبي والأموال المشبوهة بشكل عام. وقد كان لها نصيب الأسد من الوثائق والمستندات المسربة التي كشف عنها التحقيق الشهير للاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين المعروف باسم “وثائق باندورا“، وهي عبارة عن تسريب ضخم لما يقرب من 12 مليون مستند كشف عن ثروات سرية، وتهرب ضريبي، وغسيل أموال. “أس أف أم ” لخدمات الشركات، جاء اسم هذا الكيان في 190 ألف ملف سري من الوثائق المسربة، والتي تصف نفسها بإنها “المزود الأول في العالم لشركات الأوف شور”. وبعد البحث والتحقيق في تلك الوثائق تم اكتشاف 2977 شركة في الملاذات الضريبية، اتضح أن حوالي 20 متورط في جرائم مالية حول العالم ضمن أصحابها وتم تأسيسهم بمساعدة ذلك الكيان الذي يعمل من داخل برج “ذا إتش دبي” المملوك للشيخ هزاع بن زايد شقيق الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي.

وقد كشف التحقيق عن بعض عملاء الشركات العاملة من هناك مثل رجل أعمال بلجيكي متّهم بتجارة الذهب المهرب من مناطق نزاع في جمهورية الكونغو الديموقراطية. وشخص آخر كندي أُدين سابقاً في الولايات المتحدة الأمريكية بتهم غسيل الأموال وعمليات أخرى مشبوهة مثل تحويلا مبلغ 250 مليون دولار لحسابات مزورين ومهربي مواد إباحية لأطفال. وقد كشف التحقيق عن مئات العمليات المشبوهة لأمراء وأعضاء من العائلة الحاكمة مثل حاكم دبي، محمد بن راشد، وولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد ونجله خالد، وشقيقه طحنون بن زايد وغيرهم كثير. وقد علق على تلك المعلومات خلال التحقيق “جراهام بارو”، خبير غسيل الأموال، قائلاً “الإمارات العربية المتحدة تقدم السرية والتعقيد والسيطرة. انها العاصمة النموذجية ودعوة للمجرمين إلى تحقيق الاستفادة القصوى”

وسابقاً كشف تحقيق حكومي بريطاني لوحدة التنسيق الوطنية للإيرادات والجمارك الخاصة بالجريمة المنظمة عن اكتشاف بحر من الأموال المهربة والتي يتم تدويرها في سوق العقارات الاماراتي، وأن بريطانيين استخدموها في إخفاء قرابة 16.5 مليار جنيه إسترليني كانت عبارة عن ضرائب مستحقة للمملكة المتحدة. وقد علقت الصحيفة على التحقيق قائلة بإن دبي قد تخطت جزيرة كوستا ديل كرايم الإسبانية التي كانت تعرف بأنها أسوأ مكان في العالم لغسيل الأموال.

وتحقيق آخر عن أموال تخص سياسيين وأصحاب تجارات مشبوهة من سوريا ولبنان وإيران وآخرين من باكستان مرتبطين بشبكة تدعى ألطاف خاناني، معروف تورطها في تهريب المخدرات وغسل أموال تنظيمات متطرفة مثل القاعدة. وكذلك أموال وعقارات في دبي مملوكة لشخص مكسيكي يدعى إدواردو فيغيروا غوميز، كان قد أدين في الولايات المتحدة الأمريكية بتهم استيراد كميات ضخمة من المواد الكيميائية لإنتاج مخدر الميثامفيتامين، المعروف باسم “الميث”

سرب عصافير بحجر واحد

في تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك فضيحة دولية تخص أحد البنوك الإماراتية والتي امتلكت حكومة أبو ظبي وعدد من أفراد العائلة الحاكمة معظم أسهمه، وهو بنك ” the Bank of Credit and Commerce International” والمعروفة باسم فضيحة “بنك المحتالين والمجرمين” وفق ما أسمته جريدة الواشنطن بوست، والذي تورط في عمليات رشوة وغسيل أموال وتجارة الجنس وتمويل الإرهاب وإخفاء أموال دكتاتوريين ومسؤولين كبار من دول العالم غير الديمقراطية. إلا إنه خلال العقد الماضي تضاعفت عمليات جذب وغسل الأموال المشبوهة في دولة الامارات. فوفق شبكة العدالة الضريبية لمحاربة الفساد قفزت الامارات من حيث ترتيبها في تصنيف ملاذات الأموال المشبوهة في العالم من المركز رقم 31 عام 2009، إلى قائمة العشرة الأوائل عام 2020، لذا فإنه لم يكن مستغرباً أن يأتي اسمها ضمن القائمة السوداء التي أعدها الاتحاد الأوروبي للدول المصنفة بالملاذات الضريبية عام 2017 ولسنوات عدة تالية.

وخلال عشرات التحقيقات والتقارير خلال تلك السنوات العشرة الماضية، كشف عن مسؤولية الامارات في تسهيل العمليات المالية الخاصة بالثروات المشبوهة وعلى رأسها أموال المسؤولين والقيادات السياسية والعسكرية والاستخباراتية في الدول، بجانب مجرمي الحرب وممولي الإرهاب ومهربي المخدرات، منها عدة تقارير مشتركة لمعهد كارنيجي ومركز الدراسات الدفاعية المتقدمة في واشنطن منها تحقيق عن عمليات غسل أموال في قطاع العقارات لمجموعة من السياسيين النيجيريين بحوالي 400 مليون دولار، والذي يعادل تقريباً ثلثي ميزانية الجيش النيجيري، وهو ما يشير إلى عدة مكاسب وأهداف سياسية لتلك العمليات بجانب الأهداف المالية والاقتصادية.

 

فعمليات إخفاء الأموال المشبوهة للمسؤولين تُعطي الدولة الحاضنة كروت ضغط على هؤلاء السياسيين لتنفيذ سياسات تخدم المصالح الإماراتية، وهو ما ضاعف النفوذ السياسي الاماراتي خلال العقد الماضي، ولا سيما في الدول الديكتاتورية التي ينتشر فيها الفساد ولا يوجد آليات رقابية أو محاسبة حقيقية، كما أن الكثير من المسؤولين الفاسدين يفضلون دولة مثل الامارات عن أي دولة أوروبية مثل سويسرا وذلك لوجود أنظمة قضائية في الدول الأوروبية يمكن من خلالها استصدار أحكام بتجميد الأموال أو استردادها، إلا أن الامارات دولة بلا نظام قضائي حقيقي ويتحكم الأمراء في كل صغيرة وكبيرة، لذا فهم يضمنون الأموال الفاسدة لهؤلاء المسؤولين لما بعد فترات حكمهم.

في أغسطس الماضي، استقبلت الامارات الرئيس الأفغاني السابق، أشرف غني، الذي فر من بلاده بعد استيلاء حركة طالبان على العاصمة كابول عقب سحب الجيش الأمريكي قواته بموجب قرار من الرئيس جو بايدن. ووفق معلومات أدلى بها سفير طاجيكستان فإن غني قد غادر بلاده بسيارات محملة بمبلغ يقدر بـ 169 مليون دولار نقداً، وهو ما يذكرنا بخبر مشابه عام 2011 عندما هرب رجل الأعمال السابق، حسين سالم إلى الامارات وبحوزته 500 مليون دولار كاش، لم يعرف عنها شيء لاحقاً، ليتكرر مشاهد هروب المسؤولين إلى هناك، ولم يكن مستغرباً أن تصبح هي الوجهة الأولى الطغمة الروسية الهاربة من العقوبات وآثار الحرب على أوكرانيا وفق ما أوردته وكالة رويترز، ونيويورك تايمز وغيرهما. كما يطرح أسئلة كثيرة حول ذلك من بينها: هوية المصريين الذين يتاجرون في سوق العقارات هناك، والذين يبلغ حجم مشترياتهم السنوي قرابة 15 مليار جنيه، وعما إذا كان من بينهم مسؤولين حاليين أو سابقين.