لولا فن «المعارضة» في الشعر لما استمتعنا ببعض أفضل القصائد في أدبنا العربي، يكفي هنا فقط معارضة شوقي قصيدة البوصيري نهج البردة التي حفرها الغناء الكلثومي في وجداننا، ولولا المعارضة واحتكاك الأفكار ما شهدنا هذا النضج للرأي العام والحوار العام في الدول الديمقراطية مقابل التعصب والكيدية في الحوار العام في بلداننا.
لهذا أريد أن أستثمر في هذا المنبر «مصر 360» في الاختلاف مع صديقي العزيز الكاتب الكبير الأستاذ عبد العظيم حماد ومعارضة مقاله الأخير «لماذا لا أتمنى فوز بوتين؟»، لعله يشجع وجهات نظر أخرى لكتاب آخرين تختلف مع كلينا، ويشجع -وهذا هو الأهم- القراء لاستنتاج ما يرون أنه الأقرب إلى الصحة في الموقف من هذه الأزمة.
أتفق مع الأستاذ حماد في أن التدخل الروسي في أوكرانيا لا علاقة له بتحدي بوتين النظام الرأسمالي الدولي أو سعيه لتغيير نمط التبادل الاقتصادي الإمبريالي غير المتكافئ بين المركز والأطراف، فروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي هي جزء من النظام الرأسمالي العالمي سواء في نظامها الدستوري والاجتماعي أو في نمط علاقاتها التجارية الدولية.
لكن إذا كانت «السردية الروسية» للحرب في أوكرانيا غير صحيحة فإن «السردية الأمريكية الأطلسية» كذلك وبصورة أفدح. فما تدعيه أمريكا والأطلسي من أنها تتدخل في الأزمة لأنها تريد أن تحمي النظم الديمقراطية مثل أوكرانيا هو كذب صريح، لأن أوكرانيا وكل دول حلف وارسو السابقة التي انضم قسم كبير منها إلى عضوية الأطلسي والاتحاد الأوروبي أخذت من الديمقراطية الليبرالية شكلها فقط دون جوهرها.
وبسبب عدم وجود القاعدة الاجتماعية القوية القادرة على توفير مستويات خدمات صحية وتعليمية وبنية أساسية وطبقة وسطى عريضة إثر مستويات اقتصادها المتخلفة مقارنة بأوروبا الغربية عجزت هذه الدول عن توفير نظم ديمقراطية ورفاه اجتماعي حقيقيي، وصار كل ما أنتجته في ظل نيوليبرالية متوحشة هو مجموعة من النظم القومية المتعصبة شبه الفاشية، -وهي ما قصر أستاذ حماد الوصف فيها للأسف على بوتين فقط دون أن يتطرق مثلا إلى تحالف فيشجراد الذي يضم زعماء فاشيين من وزن رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان ورئيس وزراء بولندا مورافسكي.
أما أوكرانيا نفسها فيسيطر عليها قيادات مثل زيلينسكي تتحالف مع كتيبة «آزوف» وكل الجماعات النازية اليمينية الفاشية المسلحة في البلاد وهي تكره كل ما هو غير أوكراني وعلى رأسهم المسلمين والروس.. إلخ، وسينطلق منها الآن وفي المستقبل جماعات مثل «بوليش» في بولندا و«ناشيونال أكشن» المحظورة في بريطانيا وغيرها إرهابا أبيضًا عنصريا لن يقل خطرا عن إرهاب «القاعدة» و«داعش».. ولكن لهذا حديث آخر!!.
بعبارة أخرى لا فرق بين زيلينسكي، مورافسكي، أوربان، وبين بوتين، ولوكشينكو، وقاديروف، ولاتوجد قاعدة اجتماعية ولا ثقافة ديمقراطية متينة تمنع تحويل الحكام الفاشيين المنتخبين ديمقراطيا في أوكرانيا وبولندا والمجر.. إلخ، مثل بوتين، في ممارسة ما سماه حماد «قومية عسكرية متطرفة وعدوانية».
بوتين، نعم لا يهمه فقر العالم الثالث ولا استمرار أو اختفاء النظام الإمبريالي، فهو طلق الاشتراكية مثل يلتسين، لكن ما يفرقه عن سلفه هو أنه قومي روسي بامتياز، وكل ما يهمه هو القومية الروسية وحماية أمن روسيا واستمرار نفوذها الثقافي والسياسي، أي إشعاع قوتها الناعمة في محيطها الإقليمي، وهو وضع تاريخي مستقر لروسيا في هذا المحيط قبل الإمبراطورية القيصرية وقبل الاتحاد السوفييتي، ويعلمه أستاذ حماد كدارس جيد للتاريخ كما أعلمه أنا وغيري.
لكنني أشك كثيرا في أن بوتين يريد إحياء الكيانين الإمبراطوريين اللذين شبعا موتا وهو بصراحة غير قادر الآن ولا في المستقبلين القصير والمتوسط على ذلك، وباستثناء السردية الغربية التي تدعي ذلك، لم أجد دليلا أو قدرة روسية تدل على السعي الإمبراطوري المزعوم. لكن ما أتفق معه هو أن بوتين وأي قومي روسي سيسعي لإعادة نفوذ روسيا الناعم في إقليمها الأوراسي، وشخصيا أؤمن بأن الأقدار تختار دولا معينة للعب الدور الرئيسي في إقليمها ثقافيا وحضاريا، وهو ما ينطبق -مع فارق الحجم الجغرافي- على بلد مثل بلدنا مصر.
لا أخفي أستاذ حماد سرا في أنني وربما معظم المصريين نتمنى أن تعود مصر إلى امتلاك زمام قوتها الناعمة، والحضور كقوة رئيسية في محيطها العربي الذي تهدم حجرا على حجر بعد تراجع هذا الدور، وبالتالي لا أنكره على روسيا في إقليمها ولا على تركيا في محيطها الناطق بالتركية ولا على إيران في محيطها الناطق بالفارسية.
أما ما يريده الأميريكيون الأطلسيون والأنجلو- ساكسون، فهو بالضبط عكس ما دعا إليه بإنصاف ونزاهة أستاذ حماد، من تكريس مبدأ مسلم به في العلاقات الدولية من أن انضمام أوكرانيا لحلف لناتو هو تهديد صريح للأمن في دولة جارة هي روسيا، يتعارض مع مبدأ متفق عليه في ميثاق مجلس أوروبا بين روسيا والناتو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهو أن «الأمن للجميع وليس لطرف واحد كقاعدة معترف بها أوروبيا وعالميا تحكم العلاقات بين روسيا ودول الناتو وتحكم العلاقات الدولية ككل».
ما يريده الأطلسي بقيادة أمريكا هو التنكر لهذا الاتفاق وهذا المبدأ، وفرض الأمن لصالح دولة على حساب الآخرين وتهديد موسكو بصواريخ في بولندا ورومانيا قادرة على الوصول إلى قلب روسيا، ومختبرات بيولوجية اعترفت بعض المصادر الأمريكية أن واشنطن أقامتها في أوكرانيا لشن حروب بيولوجية بالغة الخطورة على روسيا في أي وقت، ولقد علمتنا جائحة كورونا سواء كانت إنتاج معمل بيولوجي أو ظاهرة متكررة في التاريخ البشري أنها حرب أخطر من المدافع والطائرات.
أما لماذا تريد أمريكا فرض إرادتها على العالم من طرف واحد فهو استقتال -وليس استبسالا- على استمرار هيمنتها المطلقة على العالم من خلال نظام القطب الواحد ومنع نظام -سيولد- كما ولد من قبل نظام القطبية الثنائية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونظام القطب الأمريكي المنفرد بعد انتهاء الحرب الباردة.
تريد واشنطن أن يستمر نظام سمح لها بقتل ملايين وتشريد ملايين آخرين في العراق بغزو اعترفت لاحقا أنه بُني على كذبة مخابراتية، زعمت أن بغداد كانت تبني أسلحة دمار شامل لم توجد قط.
وتقتل مئات الألوف وتشرد مثلهم في ليبيا بعدوان أطلسي دعم الميلشيات القاعدية والداعشية واعترف الرئيس أوباما بعده أنه كان أكبر خطأ ارتكبه كرئيس، وتشجيع مماثل لجماعات إرهابية في سوريا اعترف رئيس أمريكي آخر هو ترامب أن تدخلهم فيها جعلها والعراق وليبيا ملاذات للإرهاب أخطر على أمن أمريكا نفسها مما كانت عليه في أيام القذافي و صدام!.
مقارنة دوافع بوتين في التدخل العسكري في أوكرانيا في الحفاظ على أمن بلاده مع طموح لاستعادة نفوذ ثقافي وتجاري ومعنوي على إقليم لطالما تمتع فيه بوزن أو دور الدولة الأكبر تظل أقل عدوانية وخطرا على الأمن الدولي وأقل ذريعة لتفجير حرب عالمية، مقارنة بدوافع أمريكية إمبراطورية لإيقاف عجلة التاريخ تسببت كل الإمبراطوريات السابقة في كوارث بشرية مماثلة عندما حاولت منع انهيار نفوذها العالمي من أول الامبراطورية الرومانية إلى العثمانية إلى البريطانية والفرنسية في حروب دموية راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر من جرائم فرنسا في الهند الصينية وشمال أفريقيا وجرائم بريطانيا في شرق إفريقيا إلى العدوان الثلاثي وحرب السويس.. إلخ .
أتفق مرة أخرى في القاعدة المنصفة والنزيهة التي وضعها الأستاذ حماد في أنه كان يكفي بوتين أن يعلن عزمه استخدام القوة لمنع انضمام أوكرانيا للأطلسي بوصفها أحد أركان عقيدته الاستراتيجية، وأن من حقه أن يدافع عن الأقلية الروسية في إقليم دونباس، بل ويطلب اعتراف أوكرانيا باستقلالهما وانضمامهما إلى روسيا. الغريب أنه فعل ذلك ويفعله منذ ١٥ سنة -خطابه الشهير في مؤتمر ميونيخ للأمن في اوروبا- وأعاد تكراره بكل وسيلة ممكنة في الشهور الثلاثة بحشد عسكري ومناورات مع بيلاروسيا على الحدود مع أوكرانيا وبمذكرة ديبلوماسية تدعو للتعهد بعدم انضمام أوكرانيا للناتو وسحب الأسلحة المنصوبة في شرق أوروبا وتهدد روسيا في صميم أراضيها، فكان الرد ازدراء غربيا تاما أهاج عقدة إهدار كرامة روسيا والاستهتار بها في عهد يلتسين، تلاها الإعلان عن عقوبات غربية حتى قبل أن تبدأ العملية العسكرية الروسية.
الغريب أيضا أن بوتين طبق حرفيا ما اعتبره حماد حقا لروسيا وهو حماية الأقلية الروسية في دونباس، فالعملية الروسية مسماها العسكري حتى الآن هو «حماية دونباس»، وليس إنهاء سيادة أوكرانيا كدولة مستقلة والعملية الروسية بطئية بطريقة لا يبررها في نظري قياسا للإمكانيات الهائلة للقوة الجوية والصاروخية الروسية والتي كانت قادرة على تدمير معظم القدرات العسكرية الأوكرانية واحتلال كييف بسرعة.
إن الروس الذين يعلنون عن ممرات آمنة للمدنيين ووقف لإطلاق النار بشكل متكرر بما يعنيه من منع أنفسهم من تقدم نحو نصر حاسم، إنما يريدون فقط الضغط على أوكرانيا للتفاوض وقبول التعهد بعدم الانضمام للناتو في الحاضر أو المستقبل وعدم تسلحها بأي صورة تهدد الأمن الروسي ورفع يد كييف عن الإقليم الشرقي ذي الأغلبية الروسية، وحتى فكرة سعي موسكو لتنصيب زعيم أوكراني موال لها لا يبدو هدفا محتوما إذا وافق زيلينسكي على حياد عسكري واستراتيجي تجاه موسكو.
فاذا كانت السرديات من الطرفين هي مجرد دعاية وإذا كانت الحرب هي بين أنجلو ساكسونية توسعية وقومية سلافية مماثلة ولكن كلا منهما تحركه مصالحه، فهنا أوضح لماذا أتمنى أن تبقى أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة يقرر شعبها نظامها السياسي وليس مدافع بوتين.. ولكن في الوقت نفسه لا أتمني أبدا هزيمة بوتين.
لنفس السبب الذي يحرك الجميع وليس لأسباب أيدلوجية ألا وهو مصالحنا الوطنية كمصر ودول عربية، وعموما كدول متوسطة أو صغيرة، إذ سنكون أكثر المستفيدين إن لم يفز الغرب في هذه المواجهة ويتمكن بذلك من تأخير انبثاق النظام الدولي متعدد الأقطاب .
فلم نشهد وضعا كارثيا كعرب وشرق أوسط كما شهدنا تحت هيمنة القطب الواحد، إذ لم ينهر نظامنا العربي الإقليمي فحسب، وتوسعت على حسابه إيران وتركيا واسرائيل خاصة الأخيرة بل ودمرت دول عظيمة الحضارة عظيمة الأهمية الجيوسياسية وليس منظورا أن تعود كما كانت قبل عشرات السنين من العراق إلى ليبيا إلى سوريا انتهاء باليمن، وتكفلت ولازالت كل من الطائفية وعناصر الإرهاب الداعشي والقاعدي بتهديد وجود الدولة الوطنية في معظم الدول العربية الأخرى.
أما النظام الدولي التعددي الذي ستتقدم للقيادة المشتركة مع أمريكا فيه الدولة الصينية بشكل أساسي وليس روسيا فيتيح هامش مناورة كبيرة لدولنا، بدل الخضوع المطلق لأوامر قطب واحد وتنفيذ العرب الأوامر حتى على حساب مصالحنا.
لا أشير فقط إلى مكر التاريخ الذي جعل وزير الخارجية السعودي الأسبق المرحوم سعود الفيصل -رغم أن السعودية كانت أكبر طرف منغمس فيما سمي بالحرب على الشيوعية- يترحم في إحدى تصريحاته على الاتحاد السوفيتي ونظام القطبية الثنائية باعتبار أنهما كانا يتيحان هامش مناورة تعطل تغول القطب الواحد بعد الحرب الباردة، ولكن أشير أيضا إلى مثال حديث جدا في الأزمة الأوكرانية مقتضاه: هل كانت تتجرأ الإمارات والسعودية الأيام الماضية فترفضان طلبا أمريكيا بزيادة إنتاج البترول كدعم للغرب في مواجهة النقص الذي سيحدث من وقف الإمدادات الروسية من النفط؟ .
وحتى لو كان ذلك الموقف مؤقتا وعلى سبيل المناورة وسيعودان للتفاهم مع واشنطن بعدها فإنهما على الأقل كسبا أن واشنطن لن تتعامل معهما كتابع ذليل مفروغ من تبعيته وأنها ستولي قدرا أكبر من الاحترام لفكرة تبادل المصالح .
تبادل المصالح ينطبق على مصر أيضا فعلى الرغم من أن القاهرة أيدت قرار إدانة العملية الروسية في أوكرانيا في الجمعية العامة «غير الملزم»، إلا أن بيانها برفض أسلوب العقوبات الموقع على روسيا، واتصال الرئاسة المصرية مع الرئاسة الروسية، وما قيل إنه تأنيب دبلوماسي مصري غير معلن للقائم بالأعمال الأوكراني في مصر وتجاهلها لبيان دبلوماسي من السفارات الغربية في القاهرة حث المصريين على اتخاذ موقف أكثر وضوحا من الأزمة لصالح أوكرانيا كانت نتيجته (خاصة مع إشادة وإشارة لافروف بأن ثلاث أمم عظيمة هي الصين ومصر والهند رفضت فرض العقوبات على روسيا)، حصول مصر على مكسب ولو محدود هو أن تحسم واشنطن موافقتها على صفقة طائرات نقل عسكري ضخمة لمصر عرقلتها لفترة طويلة.
فما بالك إن استفادت دولنا بحق ودون مكايدات ومناورات سياسية ناقصة ووسعت من هامش المناورة في نظام عالمي تعددي وأقامت علاقات مع أطرافه المختلفة على أساس المصلحة الوطنية بما يعنيه أن نتعاون مع أمريكا أو مع الصين أو مع روسيا أو غيرهم بما يحقق هذه المصلحة وتنتهي بذلك أوضاع استراتيجية مختلة، تصنف فيها دولنا كتابع صاغر لقوة دولية متراجعة في نفوذها الإمبراطوري وفي مساهمتها في الاقتصاد وعناصر القوة الشاملة الأخرى.
كل ما أتمناه ألا أكون برأيي هذا قد أصبحت في المكان الذي حذر منه أستاذ حماد، أي في الجانب الخاطئ من التاريخ – وأن نقف موقفا عقلانيا لا ندافع فيه عن نظام نيو ليبرالي استغلالي غربي قضى على معظم إنجازات الديمقراطية السياسية وخلق وحشا قوميا شعبويا، ولا ندافع أيضا عن نظام أوتوقراطي روسي أخفق في تقديم نموذج سياسي جاذب بل ندافع عن نظم ديمقراطية اجتماعية تجمع بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، تقتدي في حدها الأدنى بنظم الديمقراطية الاجتماعية والرفاه الاجتماعي في دولة مثل السويد.