عصفت الحرب الروسية الأوكرانية بأمن الغذاء في كل دول العالم. حيث تنتج الدولتان نحو 30% من القمح العالمي. وتعتمد مصر في توفير احتياجاتها من القمح المستورد بنسبة 70% من البلدين. إضافة إلى الزيوت والأعلاف.
وانعكست آثار الحرب الروسية في أوكرانيا على أسواق الحبوب والطاقة العالمية. الأمر الذي أدى لرفع أسعار المواد الغذائية وتفاقم انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم. خاصة في ظل وجود تخوف من عدم حصاد محصول الربيع لهذا العام. بما في ذلك القمح والذرة والشعير. إضافة إلى ارتفاع أسعار تكاليف الزراعة. لأن روسيا وبيلاروسيا هما المنتجان الرئيسيان للأسمدة اللازمة للزراعة.
على الجانب الآخر قفزت أسعار الحبوب. حيث وصل القمح إلى 8250 جنيها بزيادة قدرها 59% للطن النخالة. وارتفع سعر طن الذرة الصفراء المستوردة إلى 7300 جنيه بزيادة نحو 2000 جنيه. ووصل سعر طن فول الصويا إلى 14000 جنيه بزيادة نحو 3000 آلاف جنيه.حرب روسيا-أوكرانيا وأزمة الغذاء العالميوقد جعلت الأزمة موضوع “الاكتفاء الذاتي” من المحاصيل الاستراتجية في مصر من قمح وذرة وفول كغذاء للإنسان والحيوان مطلبا ملحا يجب التخطيط له والسعي لتحقيقه سريعا. وذلك لتأمين حد الغذاء من المحاصيل الاستراتيجية.
الاكتفاء من الغذاء قديما وحديثا
كانت مصر في العهد الروماني هي سلة غذاء العالم. تصدر القمح إلي كل دول أوروبا. وكان يطلق على شحنات القمح المصرية إلى أوروبا وقتها “الشحنة السعيدة”. وكانت مصر تحقق اكتفاء ذاتيا من القمح قبل ثورة 1952 بعام واحد. حيث بدأت أول شحنة استيراد لتأمين احتياجات قوات الاحتلال الإنجليزي. بعدها زاد الاحتياج إلى القمح عندما توجهت الدولة إلى الاعتماد عليه بشكل أساسي في الخبز. حيث كان الذرة قبل تلك الحقبة مكونا رئيسيا في إنتاج الخبز -وفق الدكتور أحمد كامل أستاذ التاريخ الروماني بجامعة المنصورة.
حاليا تعد مصر أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم. إذ تستورد قرابة 10.6% من مجموع صادرات القمح العالمية. وتستطيع الدولة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وبعض المحاصيل الاستراتجية وفقا للعديد من خبراء الزراعة. فهل تعود مصر رائدة في مجال الزراعة لسابق عهدها وتستطيع الاعتماد على نفسها وتحقيق اكتفاء ذاتي من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية.
العديد من خبراء الزراعة في مصر يرون أن الأمر ليس بالمستحيل. بل سهل تحقيقه حتى مع ضيق مساحة الأراضي الزراعية حاليا. وذلك عن طريق التوسع الأفقي والرأسي في الزراعة والتركيب المحصولي.
هذا ما أكده الدكتور محمود إبراهيم -رئيس قسم المحاصيل البقولية بمركز البحوث الزراعية سابقا: “الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية الاستراتجية يمكن تحقيقه ومن أول عام في المساحة الحالية من الأراضي الزراعية. وذلك عن طريق التوسع الرأسي بتحميل محاصيل على أخرى”.
وأوضح أن منطقة مثل النوبارية بها آلاف الأفدنة من أشجار حديثة العمر يمكن زراعتها بالفول البلدي تحت الأشجار. حيث يحسن الفول التربة ويساعد على تركيز النيتروجين ويؤدي إلى تخصيبها. أيضا يمكن زراعة الفول على محصول بنجر السكر وتحميله على قصب الغرس الخريفي في الوجه القبلي بالصعيد ومع محصول الطماطم. وذكر أن إنتاجنا من الفول البلدي يمثل 30% فقط من حجم الاستهلاك المحلي والباقي يتم استيراده من الخارج.
التوسع في إنتاج الصويا
وأضاف أنه يمكن تحميل محصول فول الصويا على الذرة الصيفية بنسبة 75% من المساحة لزراعة فول صويا. و25% الباقية بالذرة. مبينا أن الذرة تعطي محصولا عالي الإنتاج في التوسعة. حيث ينتج الفدان 15 إردبا من الذرة وطنا من فول الصويا.
وأشار “إبراهيم” إلى أن ذلك يحقق عائدا ماديا كبيرا للمُزارع. حيث وصل سعر طن الصويا إلى 11 ألف جنيه قبل الأزمة الحالية. فيما يقلل استيرادنا له ويسهم في تخفيض نسبة مكونات الأعلاف المستوردة ويخفض أسعار الدواجن واللحوم.
وقال إن نتائج تحميل المحاصيل مع بعضها تم تجريبها في أكاديمية البحث العلمي وحققت نجاحات كبيرة. وأيضا في معهد “إيكاردا” المركز الدولي للزراعة في المناطق الجافة وبرنامج “آي- تي- بي”.
وأضاف لـ”مصر 360″ أن الأمر يحتاج فقط إلي إرادة تطبيق البحث العلمي وتوفير الدعم المادي والتمويل اللازم للمزارعين وتوفير التقاوي والمتابعة والإرشاد”.
وطالب وزير الزراعة بالنظر إلى البحث العلمي لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوفير العملة الصعبة. وكذا توفير مستلزمات الزراعة للمزارعين من أسمدة وبذور. مشيرا إلى أن عائد الفدان سيرتفع للمحصول الواحد من 10 آلاف إلى 15 ألف جنيه. مما يشجع الفلاح على الزراعة.
القمح ومعادلة الاكتفاء
تبلغ المساحة المزروعة من القمح حاليا في مصر نحو 3.4 مليون فدان. إضافة إلى 200 ألف فدان من الذرة.
الدكتور جمال صيام -أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة- قال إن أزمة الحرب بين روسيا وأوكرانيا ألقت بظلالها على أسعار القمح والأعلاف والزيوت. حيث ارتفعت أسعار القمح بنسبة 50% عالميا والزيوت بنسبة 80%.
وتعتمد مصر على استيراد 90% من مكونات الأعلاف والزيت وفول الصويا والذرة الصفراء من الخارج.
وأوضح “صيام” أن مصر لديها وقتا كافيا لتدبير استيراد القمح من دول أخرى حال استمرار الوضع وتأزمه بين روسيا وأوكرانيا. حيث يبدأ إنتاج الموسم الجديد من القمح المحلي في شهر مايو المقبل بطاقة إنتاجية 9 ملايين طن من إجمالي الاستهلاك الكلي البالغة 21.9 مليون طن في السنة. تكفي لمدة 5 أشهر إضافية على المخزون الاستراتيجي. ما يعني أن لدينا مخزونا كافيا لمدة 9 أشهر على الأقل.
الاستفادة من الأزمة بإنتاج الغذاء
وأكد “صيام” أنه يمكن الاستفادة من الأزمة الحالية في رفع الإنتاج المحلي من القمح في الموسم الجديد إلى 4 ملايين طن إضافية من خلال التوسع الأفقي في المساحة. حتى لو كانت علي حساب محصول البرسيم لترتفع من 3.4 مليون فدان إلى 4 ملايين فدان بإضافة 700 مليون فدان إلى المساحة المزروعة من القمح.
وتابع: “يمكن إضافة 2 مليون طن أخرى بزيادة من التوسع الرأسي برفع الإنتاجية من 18 إردبا للفدان إلى 21 إردبا. وذلك بانتقاء بذور عالية الإنتاجية وتوفيرها للمزارعين لتبلغ حجم الزيادة 6 ملايين طن. ليصل معدل الإنتاج إلى 14 مليون طن. وبالتالي نصل لمعدل اكتفاء محلي نحو 70% ويمكن استيراد 30% من الخارج لتقليل الفجوة”.
وشدد “صيام” على ضرورة اعتماد الدولة علي رفع المخزون الاستراتيجي من القمح والسلع التموينية لمدة سنة على الأقل لتأمين نفسها ضد مثل هذه الأزمات. مع تغيير نمط استهلاكنا للقمح والخبز وزيادة مساحة الصوامع التي يتم تخزين الحبوب بها. لافتًا إلى أن هناك فاقدا في الإنتاج من الصوامع يصل إلى 10% بسبب سوء التخزين. وحال المحافظة عليه يرتفع الاكتفاء المحلي إلى 80%. وقال إنه يمكن العودة أيضا إلى خلط دقيق القمح بنسبة 20% بدقيق الذرة فنصل إلى معدل اكتفاء ذاتي في غضون عام واحد من الآن.
وأشار إلى أن ذلك يتطلب الاهتمام بتطوير الصوامع والشون والهناجر الموجودة التي لا تستوعب زيادة على 8 ملايين طن من الحبوب. لذلك لا بد من الإسراع في معدل تنفيذ المشروع القومي لإنشاء الصوامع. بحيث لا يقل كمية استيعابها عن 10 ملايين طن للحبوب. والتي تعد الخطوة الأولى للوصول للاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية.
البدائل المتاحة
ويرى حسين عبد الرحمن أبو صدام -نقيب عام الفلاحين- أن أمام مصر عدة بدائل لتوفير القمح إذا استمرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا. حي يمكن أن نستورد الأقماح من عدة دول أخرى مثل أمريكا وفرنسا وكندا ورومانيا وأستراليا. بالإضافة إلى نحو 14 دولة أخرى.
وأوضح أن لدينا العديد من الحلول لتوفير احتياجاتنا من الدقيق والحد من استيراد الأقماح. أولها التوسع في زراعة محاصيل الحبوب التي يمكن خلط دقيقها مع دقيق القمح لزيادة قيمة المخبوزات الغذائية مثل محصول “الكينوا”. والذي يتجه إليه العالم ليكون البديل الأساسي للقمح. كما يمكننا التوسع في زراعة الشعير وخلط دقيق الشعير مع دقيق القمح وكذلك الذرة الشامية والذرة الرفيعة والبطاطا.
وتابع أنه بالتوازي مع هذه الإجراءات يمكننا التوسع في زراعة القمح أفقيا ورأسيا. مع ضرورة التوجه إلى ترشيد استهلاك استخدامنا الأقماح لسد الاحتياجات المتزايدة.
خطة الدولة للاكتفاء الذاتي
يقول الدكتور محمد القرش -معاون وزير الزراعة والمتحدث الرسمي للوزارة: “الدولة تحاول أن تصل إلى أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية بشكل عام. لافتا إلى أنه لا توجد دولة لديها اكتفاء في كل الاحتياجات. لكننا نحاول تعظيم قدراتنا من المنتجات في حدود المتاح لدينا وفي حدود المتوفر من البدائل.
واستكمل: نعمل على الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية في محورين. محور التوسع الأفقي بزيادة المساحات المزروعة للخروج من الوادي الضيق. حيث يتكلف الفدان الواحد استصلاحا 250 ألف جنيه. ويحتاج إلي عمل محطات معالجة وتحلية تتحمل الدولة تكلفتها للوصول للأمن الغذائي.
كما تقوم بضخ استثمارات لتحسين شبكة الري اللازمة للزراعة والتحول إلى زراعة بالمصاطب. والذي يحقق عائدا أفضل وإنتاجية أعلى.
والمحور الثاني هو التوسع الرأسي بزيادة إنتاج الفدان عن طريق استخدام أحدث أساليب الزراعة والبحث العلمي.
وقال: البحث العلمي من المجالات الواعدة لدينا في مجال الزراعة. ولدينا مركزان يعملان في ذلك. هما مركز البحوث الزراعية ومركز بحوث الصحراء. ولديهما باع كبير دوليا وإقليميا وأفريقيا. ويقدمان مجموعة من البحوث التطبيقية. ونعمل على أن تكون هذه الأبحاث واقعا ملموسا لخدمة الزراعة المصرية. وننفذها مع المزارعين عبر مراكز الإرشاد على شكل نصائح عملية يستفيد منها الفلاحون لتحقيق أكبر إنتاجية ممكنة خاصة في تطوير زراعة القمح والتوسعات.
وأكد أن مركز بحوث الصحراء يقوم بدور كبير جدا في مواجهة التصحر وحصر وتصنيف التربة التي يمكن زراعتها وإدارة ملف المياه وإيجاد آلية لتعظيم إنتاجية الأرض.
اكتفاء ذاتي في الفواكه
وأوضح أن لدينا اكتفاء ذاتيا من الخضر والفواكه. وأن مصر تحتل المركز الأول في تصدير أسماك المزارع والفراولة المجمدة والتمور والزيتون. وتحقق اكتفاء من السكر والقصب والبنجر بنسبة تتخطى 80%. وإنتاج 98% من تقاوي المحاصيل الاستراتيجية. ورفع نسبة تحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم بنسبة 58%. وزيادة عدد المستفيدين من مشروع البتلو إلى 30 ألف مستفيد بتمويل تخطى 300 مليون جنيه.
وقال القرش لـ”مصر 360″: ما زلنا في حاجة للتوسع الزراعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي بما يتواكب مع الزيادة السكانية. ونسعى إلى ذلك بكل ما أوتينا من قوة لتحقيق الأمن الغذائي.
وذكر أن الوزارة تقدم للمزارع مجموعة خدمات تساعده على تعظيم إنتاجه بتوفير التقاوي الجيدة والأسمدة ومستلزمات الزراعة وأنسب الطرق لترشيد المياه. منها مشروع تطوير الري الحقلي الذي تم تخصيص 55 مليار جنيه له. وهو يهدف إلى أن يحصل الفلاح على أفضل عائد من إنتاجه للمساهمة في استقرار الأسعار واتزان السوق. خاصة في ظل ما يشهده العالم من جوائح عالمية توثر بشكل كبير في حركة التجارة الدولية وحركة الإمدادات.
قرارات
وأشار “القرش” إلى عدة قرارات مهمة للنهوض بالزراعة. منها قانون الزراعة التعاقدية وقانون الزراعة العضوية وصدور اللوائح التنفيذية لهما لخدمة الفلاح. فضلا عن الحد من ظاهرة التعدي على الرقعة الزراعية ومعالجة أزمة المياه ومشكلات الري للتوسع الزراعي والتغلب على تحدي التغيرات المناخية وتقديم أفضل الوسائل لمواجهة تأثيراتها علي المحاصيل.
وأضاف أنه يجب الاهتمام بالتعاونيات وتنشيط دورها لتوفير وتسهيل مستلزمات الزراعة للفلاح عبر الاتحاد التعاوني المركزي. الذي يقوم بدور كبير عن طريق جمعيات الإصلاح الزراعي والاستصلاح والتواصل مع الفلاحين لتوفير الأسمدة لتحقيق إنتاج أكبر لدعم القدرات الإنتاجية في مصر. إضافة إلى مجموعة حوافز مشروعات الاستصلاح لمساعدة شباب الخرجين على الزراعة بتوفير الأراضي وأيضا بدعمهم بالمياه والخدمات وربطها بالطرق والمحافظات.