لا يلبث “أسبوع الصلاة من أجل الوحدة” أن ينتهي حتى تتصاعد اتهامات الهرطقة والتكفير قادمة كحمم اللهب من الشارع الأرثوذكسي. متجهة نحو بقية الطوائف الأصغر عددًا وربما تأثيرًا وكأن خلافات التاريخ الدامية لم تنطو مهما تغير العالم المسيحي أو حتى الواقع المصري. تظل قضية الخلافات بين الطوائف المسيحية أكبر مما يظنه البعض في مجتمع غالبيته من المسلمين.
ما هو أسبوع الصلاة من أجل الوحدة؟
أسبوع الصلاة من أجل الوحدة المسيحية هي فعالية ينظمها مجلس كنائس مصر سنويًا بهدف الصلاة من أجل وحدة كافة الطوائف المسيحية. فتستضيف كل طائفة رعايا بقية الكنائس في صلاة جماعية يشارك فيها قس من كل طائفة. يتبادلون فيها الوعظات ويرفعون فيها قلوبهم لله أن يوحدهم على رسالة المسيح الذي كان في كنيسته الأولى واحدًا. قبل أن تتشرذم الكنيسة إلى ملل ونحل مختلفة في سجالات بها الكثير من الشقاق اللاهوتي والتاريخي والسياسي أيضا. ولكنها انتهت إلى ما يعرفه العالم اليوم من تقسيمات طائفية في العالم المسيحي.
أما في مصر ففي الوقت الذي يضع فيه البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية قضية الوحدة الكنسية على عاتقه. فيصلي مع جميع الطوائف بلا استثناء بقلب منفتح وبرغبة حقيقية في التسامي عن جروح التاريخ. فإن سهام الهجوم تطاله كلما اقترب من هذا الملف الحساس لاسيما بعدما وجد نفسه مضطرًا لتعديل اتفاقية قبول معمودية الكاثوليك. عند زيارة بابا الفاتيكان لمصر عام 2017 حين واجهه صقور المجمع المقدس فتغير التعبير “قبول المعمودية” إلى السعي نحو قبولها.
حالة إكليروسية موروثة
حلل الكاتب كمال زاخر مشهد الهجوم المتنامي قائلا: “يمثل هذا الهجوم حالة إكليروسية (رجال الكنيسة) موروثة. بدأت مع تحول الكنيسة من كنيسة الإسكندرية ضمن الخمس كراسي الكبرى إلى الكنيسة القبطية، عقب مجمع خلقيدونية عام 451م. ولم يكن مجرد تغيير الاسم، إذ صار الصراع قومياً، وبالتوازي لم تعترف الكنائس الخلقيدونية بقانونية كنيسة الإسكندرية واعتبرتها طائفة هرطوقية. وتم رسامة بطريرك موالي عرف بالبطريرك الملكاني، بدعم من الإمبراطور. ليصبح للإسكندرية بطريركين أحدهما شعبي والآخر رسمي برأي الخلقيدونيين (الكنائس التي اعترفت بمجمع خلقدونية)”.
وأضاف: “اللافت أن هذا التسلسل البطريركي مازال مستمرا لكليهما”. وشدد زاخر قائلا: “كانت هذه الفترة بداية الانقطاع المعرفي بعد ان قاطعت الكنيسة المصرية اللغة اليونانية، واستبدلتها بالقبطية. كأحد تداعيات الخيار القومي، وتعاني الكنيسة من خلط السياسي بالديني، ليس في مواجهة الكنائس الأخرى وحدها. بل والدولة بقيادة الامبراطور، وكان ضحايا الصدام المذهبي أكبر منهم في الصراع الوثني. ربما الجرح الشعبي العميق يفسر حالة الاستنفار ضد مساعي التقارب وليس الوحدة”.
في أول أيام أسبوع الصلاة من أجل الوحدة، استضافت الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية تلك الصلاة. وقبل النهاية بقليل دعا القس الأنجليكاني الحاضرين إلى كسر الخبز معا تأكيدا على المحبة. موضحا: “هذا ليس تناول” حيث يرمز الخبز هنا إلى جسد المسيح وهو ما استدعى خلافات الماضي التي يحللها الباحث مارك فلبس من وجهة نظر أرثوذكسية.
“كسر الخبز” الممارسة التي أشعلت غضب الأقباط
يقول مارك فلبس إن ممارسة “كسر الخبز” التي اُختُتِم بها اليوم الأول، هي مجرد ممارسة استفزازية شكلية وليس لها ما يُبررها لاهوتيًا. فهي ليست إفخارستية (طقس التناول) تبني عليها قبول شركة كنيسة حقيقية، وهي كألعاب الأطفال، أو الاستعراض المسرحي. الذي يقف فيه كاهن قبطي ليضحك بجوار قس بروتستانتي لا يحمل نفس درجة رسامته الرسولية ليقسم قطعة خبز لم يحل عليها الروح القدس. ولم تستحيل إلى جسد الرب ودمه، ليوزعها على شعب لا يعرف معنى الوحدة ولا الغرض مما يحدث.
ويؤكد: “مَن كتب هذا المشهد نسي أن يوزع على من يؤدونه النص، فيتبادل القسيسان الابتسامات لأنهما لا يعرفان كيف يرتجلان. بينما فضَّل الكاهن الأرثوذكسي أن ينشغل بالحديث مع الأسقف القبطي ربما تجنُّبًا للحرج الذي وقع فيه الاثنان”.
بينما يشدد القس رفعت فكري الأمين العام المشارك لمجلس كنائس مصر على ما يسميه جروح التاريخ. فالمسيح جاء ليصنع السلام فعاش محبًا من غير ضعف وقاد الجموع بسلاح الوداعة. بينما الانقسام والتعصب يفتت المسيحيين اليوم مطالبا الجميع بقبول وصفه بالتعددية والتنوع
دعوات الوحدة الكنسية وثقوب في الثوب الأرثوذكسي
في المقابل يصف مارك فلبس أسبوع الصلاة بالفاعلية الشكلية بروتوكولية-خطابية. فيقول: “يأتي أُسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس كل عامٍ كحدث مُفرَّغ من أيّ مشاركة شعبية حقيقية. ومن أي أساس لاهوتي حقيقي تنبني عليه تلك الوحدة أو تبرر ممارسة “كسر الخبز” الغامضة في ختام اليوم الأول منه. بل وبلا أي تأثير حقيقي أو خطوات على طريق تلك الوحدة”.
ويؤكد مارك في تصريحات خاصة: “هكذا فاعليات تفقد روح الشركة الحقيقية، وهي شركة إفخارستية (التناول من جسد المسيح ودمه) بحسب تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية. وليست مجرد شركة في “قربانة” مُشتراه من أقرب كنيسة قبطية. مضيفًا: “من الممكن أن تذكرنا فاعليات الأسبوع بوحدتنا المكسورة وجسدنا المنقسم. ولكن لا يُمكن أبدًا أن تكون أطيابًا للجروح الغائرة التي سببها التاريخ على طول قسمات ذاك الجسد”.
كذلك فإن مارك رأى أن هذا الأسبوع بما يحمله من دعوات للوحدة الكنسية لا يُمكن أن يمثل حلًّا سحريًا للإيديولوجيا السائدة في الكنيسة القبطية. التي تعتبر ذاتها مالكة الحق المسيحي الوحيد والمُطلق، والقائمة على سرديات التاريخ المقدس لها والفاسد لغيرها. والعقائد القويمة لها والهرطوقية لما عداها. موضحا أن تلك السردية ذات الأساس النرجسي العميق والغائر في الذات القبطية هي المانع الحقيقي للمسكونية (وليس الوحدة). تلك المسكونية هي الترياق الوحيد لكي تنفتح تلك الذات على العالم المسيحي لتعرفه وتكتشفه من جديد، وتُجدد اكتشاف دعوتها فيه.
سردية الحق المطلق للكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي حذر منها مارك ظهرت في تجلي أكثر وضوحًا حين أصدر الأنبا أغاثون أسقف مغاغة القبطي. بيانًا يندد فيه بالمشاركة في الصلاة مع من وصفوهم بالهراطقة. محذرا من المشاركة في الصلاة وقراءات الكتاب المقدس مع بقية الطوائف لأن ذلك يعني إننا واحد في الإيمان. وهو ما لم يحدث على حد تعبير الأسقف القبطي الذي يطالب الجميع بمراعاة تقاليد الكنيسة القبطية المسلمة من الرسل دون مساس بها أو تغيير.