فيما وراء مشهد اقتصادي ضبابي وغضب اجتماعي ظاهر يتصاعد دخان غياب السياسة!
هذا أمر مؤكد وحكم قاطع!
غابت السياسة تماما طوال السنوات الثماني الفائتة، فدفع المجتمع ضريبة الحكم الفردي وإقصاء الجميع!
على وقع تغليب أهل الولاء على أهل الكفاءة تراجعت الأفكار والبدائل وانسدت الطرق وظهر المجتمع في أضعف حالاته!
ليست مشكلة الغلاء الأخيرة التي ضربت المجتمع وأشعلت غضب فئاته الفقيرة والمتوسطة إلا عرضا لمرض واحد هو الاستبداد وتغييب السياسة!
في المجتمعات المعاصرة لا تقدم اقتصادي حقيقي بدون حريات عامة وشفافية وإعلام حر وبرلمان منتخب بشكل ديمقراطي وقضاء مستقل..
هذه شروط التقدم، وهي حزمة واحدة لا يمكن فصلها أبدا!
في علم الاقتصاد السياسي هناك ربط مباشر ووثيق بين حدوث التقدم الاقتصادي ودرجة الشفافية التي يتمتع بها أي نظام سياسي، فتكلفة الفساد التي تصل للمليارات أحيانا هي أكبر مما يطيقه أي مجتمع فقير، والشفافية هي العامل الأهم والأقوى في مكافحة كل صور الفساد والانحراف بما يصون موارد المجتمع ويحفظ له قدرته.
الشفافية تعني في الأصل قانوناً يطبق على الجميع وصحافة تكشف كل صور الانحراف وتقدمه للرأي العام ولصاحب القرار ليتخذ إزاءه ما يلزم من إجراءات قانونية!
سيادة القانون والصحافة الحرة هي أدوات أي نظام ديمقراطي في الحكم وهو ما يعني أن النظام الديمقراطي بأدواته وآلياته يضمن للمجتمع مكافحة الفساد وتوفير الملايين أو المليارات المهدرة والتي ستعود بالطبع على المجتمع في صورة خدمات يحتاجها فقراءه وطبقته الوسطى!
السياسة ليست عاملا مهما فقط في خلق دولة القانون وتحصين المجتمع بالشفافية؛ بل أن دورها الأهم في لحظة الأزمات هو خلق البدائل السياسية ورسم طرق جديدة تساعد على تخطي الصعاب الاقتصادية، وهنا يكون دور الأحزاب السياسية مهماً في تقديم البدائل والخطط التي يمكن أن تستفيد منها السلطة في مواجهة المشكلات الاقتصادية.
التنوع ضرورة في أوقات الأزمات ولحظات المحن!
الأكيد أن حصارا قاسيا تعرضت له الحياة الحزبية في مصر طول السنوات الماضية، قيود خنقت حيوية المجتمع وأضعفت من قدرته على تقديم الحلول والبدائل، وأغلقت الباب تماما على المشاركة بالجهد والأفكار والكوادر في وضع السياسات الاقتصادية أو في رسم خرائط المستقبل!
مع تصاعد الأزمة وطغيانها على المجتمع غاب البرلمان تماما عن القيام بكل أدواره لأسباب نعلمها جميعا، فالبرلمانات المنتخبة ديمقراطيا يكون حضورها ساطعا في مثل تلك اللحظات، تسائل وتحاسب وتضع القوانين وتطالب الحكومة بضبط الأسواق وتعزلها أيضا إن رأت أنها فشلت في مهمتها أو في تحقيق مستوى معيشي مناسب للمواطنين!
مصر في مواجهة مشكلات اقتصادية كبيرة بلا صحافة حرة وبلا شفافية وبلا برلمان يقوم بأدوار جادة، وكلها أمور تضاعف من الإحساس بالأزمة وتضعف من وسائل مواجهتها!
والمؤكد أنه لا يمكن للحكم الفردي أن يواجه تلك العواصف الاقتصادية بدون استشارة كل العقول والأفكار وهي كثيرة إن رأي أبعد من دائرة الولاء!
غياب السياسة وتغييب الصوت الآخر هو السبب الرئيسي في إحساسنا العميق بالأزمة الاقتصادية، أو بمعنى آخر هو السبب في فشلنا في التعامل معها كما يجب بما فجر معه غضب قطاعات واسعة من الموطنين!
في القرن الحادي والعشرين كل محاولات تطبيق الليبرالية بمعناها الاقتصادي والتخلي عن الجزء السياسي منها محكوم عليه بالفشل، ولن يجني البلد من ورائه إلا تضاعف شعوره بالأزمات وبتأثيرها الكبير!
في التعامل مع الأزمات الاقتصادية فتشوا عن السياسة وأعيدوا ترتيب الأوراق من جديد، فالسياسة هي التي ترسم الطريق وتدير الموارد وتضع الخطط والسياسات، والمؤكد أنه لا تقدم اقتصادي بدون صحافة حرة وحياة حزبية نشيطة وشفافية وقضاء مستقل.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا