عشر سنوات مرت على وفاة البابا شنودة الثالث. عشر سنوات على رحيل الرجل الكبير. لم ينجح الموت في إطفاء جذوته. جعله خافتًا يبتسم من الصور. ينظر لما صنع كيف أصبح وكيف تغير. كيف جرت المقادير في كنيسة مارمرقس. كيف ظل البطريرك الكبير محركًا أساسيًا للكثير من الأحداث المعاصرة وكأن رحيله ذهب بجسده فقط وترك إرثه حاضرًا في كل شيء.
لم تكن الأربعون عامًا التي قضاها فوق كرسي مارمرقس هي السبب الوحيد في حضوره القوي رغم الغياب. بل الطريقة التي أدار بها تلك السنوات الشداد. أعوام تموج بالتغيرات. بلاد لا تصحو على ما نامت عليه. وعالم يتغير كلما سجلت الساعة دقات جديدة. كان البابا شنودة حاضرًا في كل ساعة إما بالصدام وإما بالصمت. بالعراك أو الانسحاب. بالكر أو الفر. ولكن البطريرك الكبير الذي أدار كل ذلك لم يكن يظن أن التاريخ ينتظره يحسب له فيلومه إن أخطأ ويعظمه إن أصاب.
البابا شنودة وعبد الناصر.. هموم واحدة
كان البطريرك الكبير قريب الشبه بجمال عبد الناصر. لم يتشابها في الشكل وإن احتفظا بالسمت المصري الجميل بالسمرة اللافتة والعينين الحادتين كفوهة مدفع. بل تشابها في المضمون. فقد كانا أبناء جيل واحد وهموم واحدة. كان عبد الناصر ولد عام ١٩١٨ وولد البابا شنودة بعده بخمس سنوات وتحديدًا في عام ١٩٢٣. لأسرتين تنتميان إلى أسيوط التي تركاها مبكرًا. فعاش ناصر سنواته الأولى في الإسكندرية. بينما عاش نظير جيد (البابا شنودة) سنواته الأولى في القاهرة. لتمتزج أحلام أبناء الأقاليم بصخب العاصمة وتلك النوافذ التي تفتحها والأسئلة التي تطرحها.
كان ذلك زمن الانعتاق من الاستعمار ومن أسرة محمد علي التي ملكت ربوع البلاد كلها. فلم تترك لأبناء الطبقة الوسطى إلا القليل. قليل كان كافيًا لظهور الرجلين ناصر ونظير.
كانت تلك سنوات البحث عن الهوية في زمن الأحلام الكبرى والأيديولوجيا والأفكار التي قسمت العالم لمعسكرين يميني ويساري. كان زمن البحث عن الذات والانشغال بالهم العام ولم يكن الرجلان بعيدين عن تلك الشجون. فقد كان ناصر قريبًا من كل الحركات السياسية وهو طالب في الثانوي. وهو التكوين الذي دفع به إلى صفوف الضباط الأحرار بعد تخرجه من الكلية الحربية.
وبالتوازي كان نظير جيد مهمومًا بالشأن العام وبالحالة القبطية كأحد الأجيال التي قادت نهضة مدارس الأحد. فتعلموا وعلموا فيها في أربعينيات القرن الماضي. حتى إذا ما جاءت الخمسينيات تحمل معها رياح التغيير قاد الضباط الأحرار حركتهم ضد الملك والإنجليز فنالت البلاد الجلاء.
لم تكن الكنيسة بمعزل عن المجتمع فلا يمكن النظر إليها إلا كجزء من كل. يتأثر ويؤثر في المناخ العام. فقد كان للكنيسة نصيب مما يدور خارج أسوار الكاتدرائية. وهو ما يمكن رؤيته عبر جماعة الأمة القبطية التي حاولت التخلص من الأنبا يوساب بابا الكنيسة عام ١٩٥٤. وذلك عبر شباب مسيحي متحمس يقودهم إبراهيم هلال بعد أن تأسست الجماعة عام ١٩٥٢.
الهوية القبطية.. حين وجد البابا شنودة ضالته
كان هذا ما عاشه نظير جيد من أيام عززت فيه انشغاله بفكرة الهوية القبطية. مع اهتمامه بالشعر والصحافة قبيل انجذابه لحركة الرهبنة التي جذبت إليها جيلا جديد من خريجي الجامعات. إذ نال ليسانس التاريخ من جامعة القاهرة. ثم انضم إلى دير السريان عام ١٩٥٣. مفضلًا حياة الرهبنة على صخب السياسة وكأنه يسد أذنيه عامدًا ليسمع صوت الله داخله.
تمر سنوات طويلة على سفينة البلاد التي تحتل الكنيسة ركنًا قصيًا فيها يظن من بداخله أنه منعزل عن الموج. ولكن دفع المياه أقوى من محاولات الاحتماء بركن من الخشب. كان نظير جيد قد انضم لدير السريان راهبًا فتغير اسمه وصار أنطونيوس السرياني. وظل داخل الدير عشر سنوات لا يبرحه حتى إذا ما جاء البابا كيرلس السادس ليجلس على كرسي القديس مارمرقس فاستدعاه ليعمل سكرتيرًا له قبل أن يصبح أول أسقف للتعليم في تاريخ الكنيسة عام ١٩٦١. يجمع الشباب القبطي حوله يلقي محاضراته في مطعم الكلية الإكليريكية. لتبدأ من هنا رحلة أسقف ذائع الصيت يعرف بتعاليمه وبكاريزمته الهائلة. بينما خارج أسوار الكنيسة رئيس جماهيري سلب عقول المصريين بكاريزما مماثلة وكأنها سحابة تغطي العقول ليهتف الكل “ناصر ناصر ناصر”.
البابا شنودة وعبد الناصر.. نمط القيادة الأبوية
كانت تلك القيادات الكاريزمية نتاج عصر واحد وجيل واحد حتى إنها تتبع مدرسة إدارة واحدة وتتشابه في كثير من الخطوط. يستند القائد الكاريزمي إلى قدرته على الإقناع وإلى إعجاب سامعيه ولكن إدارته تتسم بالأبوية وبسلطة هائلة ترى في نفسها “القائد الذي لا يخطئ”.
قيادات لا تتقبل النقد بسهولة بل تميل إلى إبعاد المعارضين جانبًا حتى تتمكن من تنفيذ الصواب الذي تؤمن به. ولكنهم ككل البشر يصيبون أحيانًا ويخطئون كثيرًا. يتركون إرثا من المحبين المتعصبين أو الدراويش لا يقبلون نقدًا أو مراجعة. وإرثا آخر من الأعداء ممن ظلمتهم الكاريزما فأطاحت بهم بعيدًا فظلت جراحهم تنزف.
في بلاد جرحتها هزيمة الحرب يموت ناصر عام ١٩٧٠. ولكنه يظل مؤثرا ولاعبًا أساسيا في التاريخ ربما حتى يومنا هذا. ثم يلحقه البابا كيرلس السادس في العام التالي لتستقبل الكنيسة ربانًا من نفس العصر. الأنبا شنودة أسقف التعليم يصبح البابا رقم ١١٧ في تاريخ الكنيسة العريقة. خطيبًا مفوهًا وقائدًا كاريزميًا كما كان عبد الناصر. يقول السادات: “عبد الناصر لم يمت فكلنا عبد الناصر”. لم يكن عبد الناصر شخصًا بل كان نمطًا.
البابا شنودة والسادات
بمجرد ما أن يجلس البطريرك القبطي على مقعده الباباوي الوثير تشتعل الفتنة الطائفية. فتنة الخانكة عام ١٩٧٢. ويبدأ صدام البابا والرئيس السادات مبكرًا. صدامات تتصاعد وتنتهي بالبابا محاطًا برجال الرئيس في إقامة جبرية عام ١٩٨١. تخصم من شعبية الرئيس وتزيد من كاريزما البابا فيتحول بطلًا شعبيًا مصريًا يدافع عن قومه. بينما الرئيس يراه رجلًا ينافسه الزعامة.
يقتل الرئيس بنيران حركات الإسلام السياسي عام ١٩٨١ في حادث المنصة الشهير. بعدها بسنوات خمس يعود البابا إلى كنيسه محمولًا على الأعناق في مجتمع يتبدل. لا يرى فيما يعيشه حلًا إلا إحكام أسوار الكنيسة حول الأقباط. سيدخل الأقباط الكنيسة وكأنها قفص يحميهم من جنون ورصاصات الإرهاب. انسحاب إجباري يكلف المصريين الكثير.
ستمر سنوات كثيرة ومتغيرات كبيرة ويصبح البابا مع الوقت وكأنه رئيس للأقباط. يبعد من يختلف معه ويبالغ في خصومته ويعلي من يقترب منه. في جيبه سيف “الهرطقة” يذبح مخالفيه وفي وجهه كاريزما تسلب عقول محبيه. يظل البابا هكذا لا يغيبه موت ولا يطفئ شمسه قبر.
للكاريزما دراويش وضحايا
يأتي أحد تلاميذه بعد عشر سنوات على وفاته فيقول: “من يطعن في تعليم البابا شنودة يبرهن على جهله أو حقده أو انحرافه العقيدي”. مع الوقت يصير البابا شنودة هو العقيدة نفسها. فمن يطعن فيه يصير منحرفًا. هكذا تخلف القيادات الكاريزمية دراويش وضحايا كهؤلاء الذين يبكون عبد الناصر حتى اليوم مبررين أخطاءه التي لم ينكرها هو.