مع التقدم التكنولوجي المستمر، تصبح الحياة أسهل وأسرع. بينما تزداد التحديات المرتبطة بهذا التطور، الذي فرض بنمطه المتسارع ضرورة استحداث أبعاد جديدة لحماية الحقوق الأساسية للإنسان. ومصر ليست ببعيدة عن هذا الواجب، ففي ظل ازدياد الاعتماد على الإنترنت والتوجه إلى بناء المدن الذكية والسير في اتجاه التحول الرقمي، صرنا أمام تساؤلات ملحة عن الخصوصية والحقوق الرقمية وما يرتبط بها من سرية البيانات التي يتم جمعها ومعالجتها. وأيضًا إمكانية وحق الوصول للتكنولوجيا والإنترنت. وهو أمر يرتبط بالطبقات المهمشة وتمكينهم من الوسائل الحديثة ومن ثم هو سؤال وثيق عن العدالة.
ولمحاولة الإجابة على هذه التساؤلات أصدر مركز التنمية والدعم والإعلام “دام“ ورقة سياسات جديدة. وقد ناقش فيها الباحث ماريو ميخائيل الحقوق الرقمية المرتبطة بالمدن والتحديات التي تواجهها في مصر. كما عرض توصيات لضمان تلك الحقوق.
للاطلاع على ورقة السياسات كاملة..
دخلت مصر في السنوات الأخيرة عصر المدن الذكية. وكان من أشهر تلك المدن العاصمة الجديدة والعلمين الجديدة. ليصل عدد المدن التي يتم العمل عليها كمدن ذكية 14 مدينة. وكان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أعلن عن مخططات لإنشاء 30 مدينة ذكية. وذلك بتكلفة 700 مليار، ولغرض استيعاب 30 مليون نسمة.
تناقش ورقة “دام” الأبعاد الحقوقية لهذا الاعتماد البادي رسميًا على التكنولوجيا في بيناء المدن الجديدة. تكنولوجيا تقوم في الأساس على جمع البيانات وتحليلها وتصنيفها ومشاركتها. وهي بهذا التوصيف تمثل مصدر قلق متزايد لمساسها بالخصوصية وحماية البيانات الشخصية. خاصة مع وجود تهديدات ومخاطر رقمية مثل التسريبات والاختراقات، وإمكانية إساءة استخدام تلك البيانات. وبشكل خاص مع ازدياد قدرة تلك التكنولوجيا على جمع البيانات الشخصية والحساسة.
مبادرات دولية
يشير الباحث ماريو ميخائيل -في ورقته- إلى الجهود الدولية في هذا الشأن. وقد وضع إعلان التحالف من أجل الحقوق الرقمية مبادئ أساسية لضمان حقوق الإنسان في عصر التكونولوجي. وهي: “الوصول الشامل والعادل للإنترنت والإلمام الرقمي. وكذا الخصوصية وحماية البيانات والأمان. بما يشمله ذلك من الخصوصية والقدرة على التحكم في البيانات الخاصة والحفاظ على سرية البيانات. وأيضًا الشفافية فيما يخص استخدام تلك البيانات والمعلومات. وكذلك الشفافية والمحاسبة وعدم التمييز فيما يخص البيانات والمحتوى والخوارزميات. على أن يتضمن هذا الوصول إلى المعلومات الدقيقة والتي يمكن فهمها بسهولة عن النظم الرقمية المؤثرة على الناس. ويتضمن أيضًا القدرة على نقد وتغيير النظم التي تعد تمييزية أو غير عادلة أو متحيزة.
كما تتضمن هذه المبادئ “الديمقراطية التشاركية والتنوع والادماج”. ويشمل هذا المبدأ تمثيل الجميع في الإنترنت من خلال آليات “تشاركية ومفتوحة وشفافة”. بالإضافة إلى المشاركة الجماعية في البنية التحتية الرقمية. وأيضًا المشاركة في صناعة القرار بشكل عام في المدن. أما المبدأ الأخير، فهو وجود معايير أخلاقية ومفتوحة فيما يخص الخدمات الرقمية. ويشمل هذا قدرة الجميع على استخدام التكنولوجيا التي يفضلونها. مع ضمان نفس المستوى من الادماج والفرص في الخدمات الرقمية.
هنا، أشار مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة إلى تنوع أشكال التدخلات في الخصوصية. ومنها استخدام الدول والأعمال الخاصة تكنولوجيا مثل البصمات الرقمية وأجهزة الاستشعار في المدن والمنازل الذكية والبيانات البيومترية وأجهزة التعرف على هويات المستخدمين وسلوكهم. وهي بيانات يتم جمعها دون علم الأشخاص. فيما يرتبط هذا الجمع بتحليل البيانات وتصنيف الأشخاص بناء على هذا التحليل. ما يشكل مخاطر على الأفراد والمجتمعات. وكلها أمور حذر منها مجلس حقوق الإنسان الأممي، وشدد على ضرورة التزام الدول باحترام الحقوق الرقمية واتخاذ التدابير اللازمة لضمان حماية الحق في الخصوصية الرقمية، وبشكل خاص مع ازدياد تدخلات مؤسسات الأعمال الخاصة في جمع ومعالجة البيانات.
المدن الذكية في مصر والحقوق الرقمية
وقد عرضت ورقة “دام” أمثلة من بعض أبرز الشركات المحلية والأجنبية والمؤسسات التي شاركت في بناء المدن الجديدة أو وضعت تقنيات جديدة لها، تتضمن جمع وتحليل معقد للبيانات والهويات الشخصية وغير الشخصية.
كما لفتت الورقة إلى التناول الإعلامي المحلي لهذه التقنيات بإبراز الجوانب الإيجابية فيها دون التطرق إلى الحقوق التي تمسها تلك المميزات والتهديدات المحتملة التي ترتبط بوجود هذا الكم الهائل من البيانات التي يتم جمعها من قبل المؤسسات والشركات المختلفة عبر تقنيات شديدة التعقيد. ما له بالغ الأثر على سكان هذه المدن. إذ أظهرت بعض البيانات أنها صممت بشكل فوقي عن طريق الشركات الخاصة والمؤسسات الرسمية دون إشراك سكان تلك المدن (الحاليين أو المستقبليين) في اتخاذ القرارات بشأن التقنيات التي تتحكم فيهم. ولا يتم الإعلان بشكل تفصيلي وشفاف كيف سيتم استخدام وحماية البيانات الحساسة والشخصية التي تجمعها شركات التقنية المؤسسة للمدن الذكية؟
كما أن بعض تلك التقنيات التي تسهل حياة سكان المدينة اليومية تظل متاحة للمدن التي سيكون أغلب سكانها من الطبقات الأكثر ثراءًا في المجتمع. ذلك بسبب التكلفة المرتفعة للمنازل هناك. وهو أمر يشير إلى غياب العدالة في توزيع تلك التقنيات على المدن. ذلك فضلًا عن غياب الشفافية بشأن تلك التقنيات وآثارها السلبية المحتملة التي تمتد حتى إلى زوار تلك المدن.
مفهوم الإلمام والحقوق الرقمية ومستوى الإنترنت في مصر
كما ناقش الباحث في الورقة أيضًا عمق مفهوم الإلمام الرقمي وتعقيده. وكيف أنه يتخطى أساسيات التعامل مع التكنولوجيا إلى التعامل من التقنيات الحديثة بشكل واع وذكي وإبداعي. وهو ما يرتبط بإدراك الحقوق التي تمسها تلك التكنولوجيا.
كما ناقشت الورقة مستوى الوصول إلى الإنترنت في مصر. وهو رغم التطور الذي شهده لا يزال يشهد عدم مساواة بين العملاء المستخدمين لخدماته فيما يتعلق بالوصول إلى الإنترنت. فضلًا عن عدم المساواة في الوصول إلى الأجهزة الإلكترونية المناسبة.
وقد عرضت الورقة أيضًا حالات لعدة مدن حول العالم مثل برشلونة وأمستردام وساو باولو ومدريد. حيث استطاعت إدارات تلك المدن ضمان الحقوق الرقمية فيها. ذلك باتخاذ عدة سياسات تحقق الشفافية وتضمن المشاركة الديمقراطية في صناعة القرار في المدن بمساعدة التقنيات الحديثة مع تفادي عيوبها في نفس الوقت.
توصيات لضمان الحقوق الرقمية في المدن
يختتم الباحث عرضه بالإشارة إلى توسع المؤسسات الرسمية والشركات الخاصة المصرية والأجنبية في جمع هائل للبيانات ومعالجتها وتحليلها. ذلك عن طريق آليات المراقبة في المدن وباستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي. وهو أمر يفرض ضرورة المشاركة الديمقراطية الفعالة في صناعة سياسات المدن والشفافية والرقابة بخصوص عمليات جمع وتحليل المعلومات تلك. فالأمر ليس مجرد رفاهية. خاصة في ظل أمية المصريين الرقمية والفجوة الرقمية بين الفئات المهمشة والفئات الأكثر ثراء.
ومن منطلق أن مصر ما تزال في بداية طريق المدن الذكية والتحول الرقمي. ووصولًا إلى احتمالية أن تصبح مستقبلًا نموذجًا ديمقراطيًا يحتذى به إذا تم إدماج المشاركة الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة في استراتيجيات بناء وتطوير المدن، يصل الباحث إلى عدد من التوصيات الهامة، وتشمل:
ضرورة إنشاء هيئة رقابية مستقلة لحماية البيانات. على أن تضم الحكومة والمجتمع المدني، ويتم تمثيل مختلف فئات المجتمع فيها.
إشراك سكان المدن في عملية تخطيط البنية التحتية الرقمية للمدن. وكذلك عدم اتخاذ قرارات تخص جمع ومعالجة بيانات سكان المدن دون عقد حوارات مجتمعية. على أن تراعى احتياجات ومتطلبات وتخوفات السكان.
مشاركة سكان المدن في صنع سياسات المدينة بشكل عام. ذلك عن طريق استخدام التطبيقات الذكية كأدوات تشاركية. ولغرض إدماج المواطنين في صناعة واتخاذ القرارات المتعلقة بالأحياء والمدن.
وضع آليات رقابية وضوابط مشددة على الشركات العقارية الخاصة فيما يتعلق بجمع البيانات ومعالجتها وتحليلها وتخزينها واستخدامها.
إلزام الشركات الخاصة بتحقيق الشفافية الكاملة في كافة المشاريع العقارية. ويكون ذلك بإتاحة كافة المعلومات للمواطنين والسكان بخصوص البيانات التي يتم جمعها. من حيث أغراض جمعها وحجمها ومدة الاحتفاظ بها.
وضع آليات رقابية صارمة على مسألة تخزين البيانات خارج مصر. وأيضًا وضع قائمة محددة بالدول المسموح تخزين البيانات بها. مع تشديد الإجراءات اللازمة للموافقة على نقل وتخزين البيانات خارج البلاد.
إتاحة المعلومات المتعلقة بإدارة المدن للسكان. ومنها ميزانية المدينة وحجم الإنفاق على الخدمات؛ لتحقيق الشفافية.
إنشاء المزيد من المكتبات العامة في الأحياء. وبشكل خاص في المناطق المهمشة. مع تطوير المكتبات العامة القائمة. على أن تحوي الأجهزة والخدمات الإلكترونية الأساسية. ومنها الحواسيب والإنترنت والأجهزة الحديثة مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد. وتوفير ذلك بشكل مجاني.
تقديم دورات تدريبية مجانية لتعليم المواطنين أساسيات الإلمام الرقمي بالمعنى الشامل الذي تم توضيحه سابقًا، وبشكل خاص في المناطق المهمشة لمحو الأمية الرقمية، وإنشاء مناهج دراسية، خاصة بالإلمام الرقمي في المدارس والجامعات.
دعم مؤسسات المجتمع المدني لتقديم دورات مجانية للإلمام الرقمي ودعم الجمعيات الخيرية لتوفير أجهزة إلكترونية وحواسيب للفئات المهمشة وغير القادرة.
دعم خدمات الإنترنت الثابت للأسر الأكثر احتياجًا.
تفضيل الاعتماد على البرمجيات مفتوحة المصدر في المؤسسات الرسمية والخدمات العامة.
تدريب فرق مهمتهم تقديم الدعم للأسر المهمشة غير القادرة على استخدام الخدمات الحكومية الإلكترونية ولمساعدة الأسر المهمشة في عملية التحول إلى نظام التعليم الإلكتروني.
محاولة تقديم خدمة الواي فاي المجانية في الأماكن العامة، وتحقيق التوازن بين التكلفة وعدم التعدي على خصوصية البيانات الشخصية للمواطنين.