بزيه الخاص المميز، يقف رجل يرتدي جلبابًا ذا غطاء للرأس، مخروطي الشكل مصنوعًا من الصوف، يُطلق عليه “الرجل الحر” وهو تعريفه كما ورد لدى علماء اللغة عند تفسيرهم لمصطلح “أمازيغي”، هؤلاء الذين انتشروا في ربوع مصر، إلى أن انتهى به الحال إلى منطقتين، هما واحة سيوة التابعة إداريًا لمحافظة مطروح، ومحافظة قنا بالصعيد.
بدأ تواجد الأمازيغ في مصر بشكل فعلي قبل مئات السنين، حاولوا طوال السنوات الماضية الحفاظ على هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم قدر المستطاع، وكانت لهم مطالب جميعها ارتبطت بالحق في الحياة والتنمية.
ويعود أصل الأمازيغ في مصر، إلى أمازيغ بن كنعان بن حام بن نوح، وقد دخلوا البلاد من خلال موجتين من الهجرة، الأولى في عهد الملك رمسيس الثالث، والثانية مع المعز لدين الله الفاطمي.
وذُكر في المراجع التاريخية، أن قائد الجيش الأمازيغي الضابط “شيشينق”، تزوج من ابنة الملك “بسونس الثاني”، وتولى الضابط الأمازيغي حكم مصر سلميًا بعد وفاة الملك، وكان ذلك عام 950 قبل الميلاد، ومن وقتها ظل تواجدهم في نسيج واحد مع المجتمع المصري إلى الآن، إلا أنهم يتميزون بطابع خاص، وتجمعهم عادات وتقاليد بعينها.
وعي
لم تسلم سيوة كغيرها من الأماكن في مصر، من إصابة بعض أهلها بفيروس كورونا، وهي تضم بداخلها التجمع الأكبر للأمازيغ في البلاد، وفقاً لـ”أماني الوشاحي” مستشارة رئيس منظمة الكونجرس العالمى الأمازيغى لملف أمازيغ مصر، إلا أنهم يتسمون بالحرص والحذر الشديد، فبعد ظهور الحالة الأولى المصابة بالفيروس لديهم أواخر مايو الماضي، تم فرض طوق أمني حول منزل المصاب، وحدث ذلك تحديدًا في قرية بهي الدين، حيث طالب الشيخ فتحي كيلاني، شيخ إحدى القبائل هناك، من جميع القيادات بالمحافظة، بضرورة إجراء مسح طبى على جميع القادمين إلى سيوة من غير أبناءها سواء للزيارة أو للعمل أو للإجازة، وذلك حتى يتم وقف التعرض للإصابة بالفيروس تمامًا في الواحة، ولا ترتفع نسب العدوى بينهم.
الاعتراف باللغة
من اللافت للنظر أن جميع مطالب الأمازيغ تتعلق باحتياجاتهم لعناصر الحياة الأساسية فيقول “محمود خلف” شاب عشريني من شباب سيوة، إن الواحة تحتاج إلى اهتمام صحي يتمثل في قوافل توعوية لمنع زواج الأقارب الذي نتج عنه كثير من الأمراض الوراثية لأبناء الواحة.
وأوضح أن السبب في ذلك هو تمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم التي يأتي في مقدمتها عدم زواج الأمازيغيين بغير أبناء عمومتهم أو أقاربهم من نفس القبيلة.
وأضاف “خلف” أن اللغة هي الأساس الذي تقوم عليه جميع الحضارات، لذلك يرغب أمازيغ مصر في الاعتراف بلغتهم وتدريسها، خاصة وأن هذه اللغة تدرس بالمدارس في المغرب والجزائر وليبيا، وهو أمر شديد الأهمية بالنسبة لهم، ليمكنهم من التعرف أكثر على حضاراتهم.
وأوضح أن هناك كارثة أخرى يجب مراعاتها والنظر إليها، وهي أنهم في حاجة إلى تطوير شبكات الصرف لوقف اختلاطها بمياه الشرب دون معالجة، مما تسبب في انتشار أمراض الكلى بينهم.
التعليم الليلي
ليس الزواج فقط الذي يتمسك الأمازيغيون فيه بعاداتهم وتقاليدهم، لكنهم يهتمون أيضًا بتقاليدهم في التعليم، فيقول الشيخ “طه عبد الله” أحد مشايخ الأمازيغ بواحة سيوة، إن دروس التعاليم الدينية واللغوية التي يتلقاها الأطفال ليلاً لها قدسية ومكانة خاصة أكثر من التي يتلقونها نهارًا.
وأكمل “يعد التعليم الليلي مخصصًا للمراجعة بالنسبة للأطفال، كذلك لتعليم القراءة والكتابة للحرفيين والرعاة ومدهم بالتعاليم الإسلامية الصحيحة، ويلتزم المجتمع الأمازيغي بهذه القاعدة لدرجة كبيرة حيث يتم تغريم المتخلفين عن الحضور لتلك الدروس، بغرامات يتم تحديدها داخل كل قرية، ومن مظاهر تلك الدروس أن يصطف البنين والبنات صفًا واحدًا أمام منزل العم أو كبير العائلة، حاملين الحطب في أيديهم، وذلك لإنارة المكان وهم يرددون بعض الأناشيد الأمازيغية القديمة، وبعد الانتهاء من الأناشيد يبدأ درس الدين ويشرعون في تلاوة القرآن بشكل جماعي وبصوت عال، وهو ما يطلقون عليه سلوكت، ومن شروط السلوكت لديهم أن يكون الأطفال في حالة جيدة على مستوى النظافة والصحة، مقلمين أظافرهم، متعطرين، ومتزينين في أحسن حال”.
وتابع “أن الأطفال هنا يقيمون فيما بينهم مسابقة تحت إشراف المعلمين، يتم خلالها قراءة القرآن برفع الصوت لأقصى درجة، وبالرغم من حفاظ الأمازيغ على شعائرهم الدينية بشكل منتظم، إلا أنهم يحبون الشعر كثيرًا، حتى أنهم يقيمون حفلات يُطلق عليها الترجيز، يقومون خلالها بإنشاد الأشعار العربية بطريقة خاصة، تعتمد على أن يتخصص كل فرد منهم بإلقاء البيت الشعري ثم يرددها باقي الحضور خلفه، على أن يتناوب الحضور فيما بينهم على دور القارئ المنشد الأول”.
خفة دم وألغاز
واشتهر الأمازيغيون بخفة دم كبيرة، حتى أنهم يضحكون في أحلك الظروف وأشدها.
تقول “أمنية طه” إحدى سكان الواحة، إنهم اعتادوا على إقامة المسرحيات الكوميدية بين أفراد القبائل الأمازيغية، كما أنهم يبتعدون قدر المستطاع عن الأمور الدرامية، سواء في حياتهم الجادة، أو في مجالسهم الاجتماعية.
كذلك لا تقل قيمة اللغز في الثقافة الأمازيغية، عن غيرها من الفنون كالشعر والحكاية، ولا يقل عنها انتشارا وتداولا في الثقافة الشعبية الأمازيغية، فاللغز هو اختبار القدرات العقلية، وامتحان الجالسين لأجل التثقيف والتربية، وتعلم الدروس الحياتية، وليس مجرد سؤال غرضه التسلية فحسب.
ويقول الباحث فرناندو بنطولا، حول اللغز الأمازيغي، “إنه يعكس صورة واقعية أقوى من الألغاز الشعبية في الثقافات الأخرى، فهو يقوم على إعمال العقل بشكل كبير”.
وتُمارس هذه اللعبة في المجتمع الأمازيغي في جو مفعم بالحيوية والمرح والمتعة، في إطار تنافسية قوية واختبار أقوى للقدرات العقلية وللذكاء، ويكون الهازل الأكبر هو صاحب اللغز حيث يستفز مخاطبيه، ويحرك مشاعرهم حتى ينفعلوا.