في الثالث من نوفمبر الماضي أصدر المركز الإعلامي لمجلس الوزراء تقريرا بمناسبة مرور 5 سنوات على قرار البنك المركزي بتحرير سعر الصرف الذي «عزز متانة الاقتصاد الوطني وأداء الجنيه المصري ليتصدر قائمة أفضل العملات الناشئة أمام الدولار الأمريكي».
القرار الذي وصفه التقرير بأنه «أهم خطوات الإصلاح الاقتصادي»، ساهم بحسب التقرير في تحقيق العديد من المكاسب المتمثلة في «تحسين مناخ الاستثمار وبيئة الأعمال وتنافسية التصدير وتنويع وتطوير أنماط الإنتاج المحلي وزيادة تدفقات النقد الأجنبي»، وهو ما انعكس إيجابا في دعم قدرة الاقتصاد المصري على مواجهة الأزمات.
وروجت الحكومة حينها لما اعتبرته شهادة ثقة من المؤسسات الدولية كنتيجة لتحرير سعر الصرف وللسياسات المالية والنقدية التي اتبعتها بعد تطبيق القرار الذي قال عنه محافظ البنك المركزي أنه خطوة تتسق مع المنظومة الإصلاحية المتكاملة التي تتضمن برنامج الإصلاحات الهيكيلية للمالية العامة للحكومة ويتم تنفيذه بحسم، مما يمكن الاقتصاد المصري من مواجهة التحديات القائمة وإطلاق قدراته وتحقيق معدلات النمو والتشغيل المنشودة.
قرار تحرير سعر الصرف الصادر في الثالث من نوفمبر 2016، كان خطوة ضمن ما يسمى برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وقعته مصر مع صندوق النقد الدولي لمدة ثلاث سنوات وحصلت الحكومة بمقتضاه على قرض بنحو 12 مليار دولار على 6 شرائح متساوية، قيمة كل شريحة ملياري دولار.
وكان سعر الدولار مقابل الجنيه قد ارتفع إلى مستويات قياسية، إذ تجاوز حدود الـ19 جنيها، قبل أن يتراجع تدريجيا إلى 15.66 جينه، وهو ما عدته الحكومة نجاحا مذهلا، معتبرة أن «الدواء المر» الذي أقرته في 2016 أنقذ الاقتصاد المصري الذي كاد أن يحتضر بفعل سياسات التسويف والتخدير التي اتبعتها الحكومات السابقة.
الحكومة حينها روجت لما اعتبرته «نجاح في تلافي تأثيرات القرار السلبية على المواطن محدود الدخل»، ذاك المواطن الذي دفع وحده فاتورة برنامج الإصلاح المفروض علينا من المؤسسات المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
وبالتزامن مع تطبيق إجراءات روشتة صندوق النقد التي شملت أيضا خطة تدريجية لرفع دعم الوقود والكهرباء وتغيير نمظ الدعم السلعي وزيادة أسعار العديد من السلع والخدمات، تم إطلاق حملة دعائية تحت شعار «بالإصلاح الجرئ نقصر الطريق»، تهدف إلى تخفيف حالة الغضب التي سادت المجتمع كنتيجة للقرارات الحكومية حينها، وكالعادة طالبت الحملة المواطن المصري بترشيد استهلاكه والاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه حتى يستطيع امتصاص آثار تلك الاجراءات «نقدر قَوي.. نرشد استهلاكنا.. نقلل وارداتنا».
وفي الوقت الذي كانت الحكومة تطالب فيه المواطن بالتقشف وترتيب أجندة أولوياته وترشيد استهلاكه، لم تتراجع عن الاحتفالات والكرنفالات التي كلفت خزانة الدولة مئات الملايين من الجنيهات، ولم تعد النظر في الكثير من مشروعات التشييد الضخمة التي لم نسمع عن إجراء دراسات جدوى لها.
وبدلا من أن تضع خطة لدعم مشروعات الإنتاج الزراعي والصناعي، حتى نقترب من تحقيق الكفاية في المنتجات الغذائية الرئيسية ونعظم صادرتنا ونقلل فاتورة استيردانا، أصرت على بناء مشروعات الإسكان الفاخر في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة والجلالة، وتوسعت في بناء الكباري التي أصبحنا نرى العديد منها في الصحاري. والأدهى أنها أنشأت مقرات جديدة فارهة لمجلس الوزراء وللوزارات والعديد من الهيئات في العاصمة الجديدة والعلمين الجديدة، لتضاف إلى مقراتها الحالية وكأننا دولة غنية لا تعرف أين نتفق الأموال المكدسة في خزائنها، في حين أن نحو ثلث شعبها تحت خط الفقر.
وهكذا أصبح للدولة المصرية التي يتسابق مسؤولوها في الشكوى من «ضيق ذات اليد» عندما تتعالى أصوات الشعب المطالبة بالكف عن الجباية وتوفير الخدمات الأساسية بتكلفة مقبولة، ثلاث مقرات، في حين أن الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم لم تفكر في بناء مقر جديد للبيت الأبيض رغم مرور أكثر من 200 عام على بنائه، كما لا يزال رئيس حكومة صاحبة الجلالة يدير مجلس الوزراء ويسكن في 10 دونينج ستريت والذي تم تشييده قبل 300 عام.
الآن وبعد أكثر من 5 سنوات على قرار التحرير الأول، قدمت الحكومة ذات المبرارت والحجج السابقة بعد إعلانها أمس الإثنين 22 مارس عن قرار جديد بتحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، ليرتفع من 15.66 إلى 18.26، ويفقد الجنيه نحو 15% من قيمته، ويفقد معها صغار المودعين المصريين نفس القيمة من مدخراتهم التي استقطعوها من كدهم ليسدوا بها احتياجات أساسية لم تسمح دخولهم الصغيرة بشرائها في حينه، كما فقد كبار المودعين من تجار ومستثمرين ورجال أعمال نفس القيمة، إلا أن الفريق الأخير قادر على جبر الفارق وتحصيل ما خسر من جيوب الفريق الأول الذي دهسه القرار الأول للتحرير وسيعيد القرار الثاني دهسه مجددا.
وكما أعقب القرار الأول موجة من رفع أسعار السلع بشكل أعجز الطبقات الدنيا والمتوسطة على سد احتياجاتها الأساسية ورفع نسب الفقر في مصر بشكل غير مسبوق، سيحدث القرار الثاني لتحرير سعر الصرف ذات الآثار، فأسعار السلع التي ارتفعت في الأسابيع الأخيرة متأثرة بالحرب الروسية الأوكرانية -بحسب الإدعاء الحكومي- من المنتظر أن تشهد موجة جديدة من الزيادات، ولن تفلح الإجراءات الحكومية في تحفيف أثارها لأنها ببساطة تفتقد إلى الجدية المطلوبة في مثل هذه الظروف.
قرار التحرير الأخير صدر بعدما تواترت الأنباء عن بدء الحكومة التفاوض مجددا مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد لدعم الاحتياطي الأجنبي، وتدراك تداعيات أزمة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة الأخيرة، وبحسب ما كشف عدد من وكالات الأنباء الأجنبية التي تناقلت أخبار المفاوضات، فإن الصندوق طلب من مصر الامتثال لقواعد السوق وترك سعر الجنيه يتحرك وفق آليات العرض والطلب أمام العملات الأجنبية.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أمس لشرح القرارت الاقتصادية الأخيرة بشأن انخفاض سعر الجنيه مقابل الدولار، قال طارق عامر محافظ البنك المركزي أن القرارت كانت حتمية لحماية مورادنا، معتبرا أن ما جرى «حركة تصحيح في سوق النقد الأجنبي»، موضحا أن الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة في 2016 حمت الاقتصاد المصري لمدة 5 سنوات ووفرت موارد ضخمة من استثمار أجنبي وأسواق رأس مال دولية وتضاعف تحويلات المصريين في الخارج.
لم يذكر عامر ولا رئيس الحكومة أن الدين الخارجي لمصر تضاعف نحو 3 مرات في السنوات الست الأخيرة ليقترب من حاجز 140 مليار دولار، فين حين أن الاحتياطي النقدي الأجنبي وصل إلى حدود 41 مليار دولار، وهو ما يعني أنه زاد نحو 21 مليار في نفس الفترة، ولم يصارح عامر ولا الحكومة المواطنين بأن نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت نحو 90%، فيما وصل معدل التضخم السنوي إلى 8.8%، أما معدلات النمو والتي بلغت 9% في النصف الأول من العام المالي الجاري، فلم تتساقط ثمارها على الفئات الأكثر احتياجا وفقرا.
تنفصل البيانات والتصريحات الحكومية بشأن المؤشرات الاقتصادية عن الواقع، وما يتم ترويجه من أرقام ونسب وكلام مقتطع من سياقه عن شهادات ضمان من مؤسسات مالية دولية، لا تهدف إلا إلى تسكين الناس وشراء صبرهم حتى يتجرعوا المرار في صمت ورضا، وإقناعهم أن الأحوال ستتحسن وأن جهود الحكومة وإنجازتها غير المسبوقة ستأتي ثمارها عما قريب.
مع كل إعلان عن حزمة قرارت اقتصادية قاسية تسميها الحكومة «خطوات إصلاحية»، يتم الترويج لحزمة موازية من إجراءات الحماية الاجتماعية التي تهدف إلى تخفيف آثار تداعيات الحزمة الأولى، وبالتدقيق فيما أعلنته الحكومة أمس عن عدد من قرارت «الحماية الاجتماعية» شملت ضم أعداد جديدة لمعاش «تكافل وكرامة» وزيادة سنوية في المعاشات وصرف علاوة دورية للموظفين.. إلخ، يكتشف المتابع أن معظم ما جاء في بيان وزارة المالية هو قرارت قديمة تم اتخاذها والإعلان عنها سلفا، وأن ما استجد أن تطبيق بعض تلك القرارت سيتم مع نهاية أبريل المقبل بدلا يوليو.
لم تكن السلطة تجرؤ على اتخاذ قرارات من شأنها تكدير الناس وإفقارهم في ظل وجود برلمان يُساءل ويُحاسب الحكومة على تنفيذ برنامجها التي مُنحت على أساسه الثقة، وصحافة ترصد وتتابع وتراقب نيابة عن المواطن، تقاعس السادة النواب عن القيام بدورهم وغُيبت الصحافة عن أداء وظفيتها ففرضت الحكومة أجندتها وأجندة المؤسسات المانحة على الشعب، وقدمت وأخرت في أجندة الأولويات دون أن تجد من يُرشد أدائها ويقوم أعوجاجها، أسرفت في الإنفاق على مشروعات لم يلمس المواطن مردودها حتى الآن وقترت على أخرى كان من شأن البدء في تنفيذها قبل 6 سنوات أن يقينا ذل السؤال في ظل الأزمات والصراعات.
حلم الديمقراطية الذي داعب مخيلة المصريين قبل دخولنا العقد الماضي، تلاشى في السنوات القليلة الماضية، لم يكن الطلب على الديمقراطية في نهايات عصر الرئيس الراحل حسني مبارك ترفا، إذ إن الملايين من الشعب المصري أدركوا بعد تجربة عقود من التسلط والحكم الفردي أن غيابها راكم أزمات اقتصادية واجتماعية، وعندما بلغ الاحتقان مداه انفجر الناس في 25 يناير 2011، فلو كانت البرلمانات المتعاقبة السابقة قد سألت وحاسبت الحكومات على إخفاقاتها وكذبها وفساد بعض أعضائها لما وصلنا إلى من نحن فيه.
الديمقراطية هي القاعدة الأساسية للاستقرار والازدهار الاجتماعي والاقتصادي كما السياسي. بالديمقراطية يشعر الشعب الذي اختار بحرية حكامه ومن يراقب هؤلاء الحكام أنه شريك في الحكم وصانع للقرار وعليه فيتحمل عواقب اختياره، وبالديمقراطية أيضا تستطيع الشعوب أن تصوب قراراتها وتعدل اختياراتها، بالديمقراطية تستطيع الدول أن تتلافى الهزات والانفجارات.