جدلية الاستقلال والاستعمار هي قصة مصر الحديثة من منتصف القرن الثامن عشر حيث محاولة علي بك الكبير 1728 – 1773 الاستقلال عن الدولة العثمانية، ثم الغزو الفرنسي 1798، ثم الغزو البريطاني 1807، ثم الغزو البريطاني 1882، ثم النفوذ الأمريكي على فترات متقطعة وبأشكال مختلفة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.
السعي للاستقلال سابق على عصر محمد علي، كذلك التعرض للغزو سابق على عصر محمد علي، لكن ما يمتاز به عصر محمد علي ثم سلالته من بعده، أنه لم يفلح في الخروج عن الإطار العثماني، كما لم يفلح في حماية مصر من الوقوع في مخلب المصالح الأوروبية.
فخلال ثلاثين عاما من وفاته 1849 إلى عزل حفيده إسماعيل 1879 كانت مصر قد انقلبت إلى مستعمرة أوروبية شاملة، احتلال مدني كامل من خمسة عشر جالية أوروبية، كل جالية تمثل دولة مصغرة ذات مكانة متميزة، ثم كانت الذروة بانتصار القوات البريطانية على المصريين في موقعة التل الكبير 13 سبتمبر 1882 وليدخلوا القاهرة ذاتها في 15 سبتمبر 1882.
محمد علي أسس ضيعة حديثة له ولسلالته من بعده، وكان من قوة الشخصية والذكاء وسعة الحيلة بحيث تمكن من أن يكون صاحب القرار الأول والأخير في حكم الضيعة، ولم تتوفر مثل هذه الخصائص في غير نجله الأكبر إبراهيم باشا الذي لم يحكم غير أشهر عدة ومات قبل والده، ثم توالى الخلفاء من عباس الأول وقد حكم بين 1848 – 1854 وحتى فاروق الأول وقد حكم بين 1937 – 1952، تقريبا مائة عام حكم خلالها الأوروبيون مصر ونهبوها عبر الخبراء والمرابين والمغامرين ثم بجيش الإمبراطورية البريطانية، كان قرار تولية الحاكم يصدر من السلطان العثماني في استانبول في حالة عباس الأول ثم سعيد ثم اسماعيل ثم توفيق ثم عباس حلمي الثاني، ثم بقوة الاحتلال البريطاني في حالة السلطان حسين كامل ثم السلطان فالملك فؤاد ثم الملك فاروق.
خلال هذه الأعوام المائة، من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، نشأ مفهوم الشعب المصري الحديث كمفهوم سياسي مستقل في وجوده عن حكامه، سواء من العثمانيين، أو من سلالة محمد علي، أو من الأوروبيين وبالتحديد الإنجليز، حيث بدأ المصريون مسيرة الفكاك من مفهوم الرعية للعثمانيين وتوابعهم من سلالة محمد علي، وكذلك الفكاك من مفهوم الضحية للأطماع ثم التدخل ثم الغزو الأوروبي.
خلال هذه الأعوام المائة، نضج مفهوم الشعب عبر تطور تاريخي غير مسبوق حيث لأول مرة يتملك المصريون الأرض، وحيث لأول مرة يلتحق المصريون بالتجنيد في الجيش، وحيث لأول مرة يتلقى المصريون تعليما حديثا سواء في معاهد ومدارس داخل مصر أو في أوروبا، وحيث لأول مرة ينشئون الصحف العامة، وحيث لأول مرة يمثلون في برلمان، وحيث لأول مرة يكونون جزءا حيا من السوق العالمي ومن الرأي العام العالمي، وحيث لأول مرة يشعرون أنهم – هم وليس غيرهم – أصحاب البلد وملاكها وأصحاب القرار فيها، ومن هنا جاءت ثورات المصريين تتوالى ويكمل اللاحق منها نواقص السابق منها، فكانت الثورة العرابية ثم ثورة 1919م ثم ثورة 23 يوليو، هذه الثورات بلورت – بالقدر الكافي – مفهوم الشعب ومن ثم مهدت الطريق لنقل مصر من ضيعة حديثة إلى دولة حديثة وكانت ثورة المنتصف ثورة 1919م هي رمانة الميزان وجوهرة كفاح المصريين على طريق الدولة الحديثة وهو طريق لم يزل – حتى هذه اللحظة – في مراحله الأولى.
………………..
الدولة الحديثة ترتبط وجودا وعدما بالشعب، وترتبط وجودا وعدما بثورات الشعب، ثورات الشعب هي مقدار وعيه بذاته، كما هي وعاء حركته، كما هي بوصلة مساره ووجهته، فلادولة حديثة بغير شعب، ولا شعب له معنى بغير ثورة.
ودولة محمد علي كانت دولة محمد علي وسلالته ومن حوله من مقربين، فهي لم تكن دولة الشعب، وكل صلة الشعب بها أنها قامت على استنزافه وامتصاصه واعتصاره، كانت عليه تقع مغارم التحديث، وللحاكم ومن حوله تذهب ثمراته ومغانمه، لهذا كانت الثورات الثلاث – رغم ما بينها من اختلافات – تلتقي على شعار أساس هو “مصر للمصريين”. وهو الشعار الذي أعادت ثورة 25 يناير 2011 ترجمته في صياغة عبقرية جديدة في ثلاث كلمات “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”.
ثورة 1919م لها طبيعة خاصة من عدة زوايا:
1 – الأولى أن قيادة الثورة، سواء من الأعيان أو من الأفندية، أي سواء من كبار الملاك أو من الطبقة الوسطى، مدينة في وجودها للنقيضين الذين قامت ضدهما، مدينة بخلقها من العدم لتجربة محمد علي وسلالته حيث تمت إتاحة تملك الأراضي للمصريين من نهاية عهد محمد علي ثم توسعت من عهد سعيد، كان هذا أصل ما استفادته هذه الطبقة من العهد العلوي ومن جاء بعده من خديوية، ثم جاء الاحتلال البريطاني وحرر كبار الملاك من الارتهان والخضوع لسلالة محمد علي، سعى الإنجليز إلى تفرقة الصفوف واللعب بينها وبها، بما رفع رؤوس كبار الملاك بعد طول انحناء أمام الحكام من سلالة محمد علي.
2 – الثانية أن قيادة الثورة من الأعيان والأفندية كانت تعلم حقائق الوضع المرير دون مواربة حيث: إن الطرف الأول الذي تواجهه الثورة وهو الاحتلال هو امبراطورية بالفعل، وقابض سطوته العسكرية والسياسية بالفعل، ثم هو خرج منتصرا من الحرب العالمية الأولى بالفعل، ثم هو أقنع المجتمع الدولي بموقفه بالفعل، حيث سلمت كل الدولة الكبرى بما فرضه من حماية على مصر، فلم يكن لمصر حليف دولي واحد في هذا الصراع . ثم إن الطرف الثاني الذي تواجهه الثورة السلطان ثم الملك فؤاد لا يعنيه شيء مثلما تعنيه زيادة سلطته فقط، فهو كان مع نفسه بالدرجة الأولى قبل أن يكون مع الشعب أو مع الثورة.
3 – الثالثة أن قيادة الثورة لم تكن تملك غير وعي الشعب مضافا إلى وعي القيادة بخطورة اللحظة، وهي في ذلك تختلف عن الثورة العرابية التي كانت شراكة بين المدنيين والعسكريين، كما تختلف عن ثورة 23 يوليو التي انفرد بها العسكريون، كما تختلف عن ثورة 25 يناير 2011 التي لم تكن لها قيادة منظمة فما كادت يضيء مصباحها حتى انطفأ.
4 – الرابعة أن قيادة الثورة -المدينة في وجودها التاريخي لمحمد علي وسلالته ثم للاحتلال ذاته- هذه القيادة كان عليها أن تتعايش كثورة مع ما يمثله الطرفان من ثورة مضادة، والتعايش يعني بالبداهة الاعتراف أولا ثم السعي لحلول وسط ثانيا ثم التنازل ثالثا، وهذا هو ماحدث من 13 نوفمير 1918 حين التقى سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي وعلي شعراوي للمرة الأولى مع المندوب السامي حتى عقد خليفته مصطفى النحاس اتفاقية التحالف والصداقة مع الاحتلال 1936 ثم إعلانه قرار إلغائها بنفسه قي أكتوبر 1951، مما لم يترك أمام الشعب سبيلا ممكنا لإجلاء قوات الاحتلال غير اللجوء إلى الكفاح المسلح.
5 – أن المعادلة التي حكمت مساعي ثورة 1919 لتحقيق الاستقلال عبر أكثر من ثلاثين عاما هي المعادلة ذاتها التي فرضت نفسها على ثورة 23 يوليو 1952 وملخصها: جلاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال لكن مع تقديم تسهيلات عسكرية وسياسية لدولة الاحتلال في ظروف معينة ووفق شروط محددة، وهذا يثبت براءة ثورة 1919 من التقصير، كما يثبت براءة ثورة 23 يوليو من التفريط، ويثبت حقيقة أن الاحتلال كانت أعباؤه فوق طاقة المصريين لعدة أجيال ولعدة عقود وكان يلزم تغير الظرف الدولي لتتراجع بريطانيا في الإقليم مثلما تراجعت في العالم وليحل محلها الأمريكان في الإقليم مثلما حلوا مكانها في العالم، فمثلما كان الاحتلال – من بعض وجوهه – نتاج ظروف دولية في القرن التاسع عشر.
………………….
قيادة ثورة 1919 كانت صاحبة المبادرة في نوفمبر 1918 قبل أن تندلع الثورة في مارس – إبريل 1919 وبين التاريخين كان جمع التوكيلات من الشعب لإنابة القادة عنه ثم كان إقدام الاحتلال على نفي سعد ورفاقه فاندلعت الثورة، وترتيب الأحداث في هذا السياق يثبت أصالة سعد زغلول الثورية وينفي عنه الزعم بأنه ركب أمواج الثورة، والحق أن طبقة كبار الملاك ومن معها من أفندية الطبقة الوسطى الناشئة كانوا يرون أنهم جديرون بحكم البلاد عبر تحويلها إلى مملكة دستورية مستقلة، وبالفعل صارت مملكة لكنها كانت نصف دستورية ونصف مستقلة إلى أن جاءت ثورة جديدة تستكمل الطريق في 23 يوليو 1952.
-في اللقاء الأول مع المندوب السامي البريطاني في دار الحماية في 13 نوفمبر 1918، قال علي شعراوي باشا: إننا نريد أن نكون أصدقاء للإنجليز صداقة الحر للحر لاصداقة العبد للحر .
فرد عليه المندوب السامي: إذا أنتم تطلبون الاستقلال؟
– وأجابه سعد زغلول: ونحن له أهل، وماذا ينقصنا ليكون لنا الاستقلال مثل باقي الأمم المستقلة؟!
فقال المندوب السامي: ولكن الطفل إذا أخذ أكثر مما يلزم من الغذاء أصابته التخمة.
– فرد عليه عبدالعزيز فهمي: نحن نطلب الاستقلال التام ولسنا نبالغ في ذلك فإن أمتنا أرقى من البلغار والصرب والجبل الأسود وغيرها ممن نالوا الاستقلال حديثا.
فقال المندوب السامي: ولكن نسبة الأميين في مصر كبيرة؟
– فرد عليه عبد العزيز فهمي: هذه مسألة ثانوية فيما يتعلق باستقلال الأمم، وشروط الاستقلال التام متوفرة في مصر، والمصري هو الذي يعرف ما ينقصه من أنواع المعارف وما يفيده في الأشغال العمومية وفي القضاء وفي غير ذلك، فالاستقلال التام ضروري لرقينا.
فقال المندوب السامي: كانت مصر عبدًا لتركيا، أفتكون أحط منها لو كانت عبدًا لإنجلترا؟!
– فرد عليه عبدالعزيز فهمي: لا تسرني كلتا الحالتين، لأن العبودية لا أرضاها، ولا تحب نفسي أن تبقى تحت ذلها.
فقال المندوب السامي: ولكن مركز مصر جغرافيًا وحربيًا يجعلها عرضة لاستيلاء كل دولة قوية عليها وقد تكون غير إنجلترا.
– فرد عليه سعد زغلول: إذا ساعدتنا إنجلترا على استقلالنا التام، فإننا نعطيها ضمانة معقولة على عدم تمكين أي دولة من استقلالنا أو المساس بمصلحة إنجلترا، فنعطيها ضمانة في طريقها للهند وهذه الضمانة هي قناة السويس، بأن نجعل لها دون غيرها حق احتلالها عند الاقتضاء، بل نحالفها ضد غيرها، ونقدم لها عند الاقتضاء ما تستلزمه المحالفة من الجنود.
– ثم زاد علي شعراوي ضمانة جديدة فقال: فيما يخص حقوق أرباب الديون من الأجانب فيمكن بقاء المستشار الإنجليزي بحيث نكون سلطته هي سلطة صندوق الدين العمومي .
– وزاد سعد زغلول في إثبات حسن النيات المصرية فقال: نحن نعترف أن إنجلترا الآن أقوى دولة في العالم وأوسعها حرية ونعترف لها بالأعمال الجليلة التي باشرتها في مصر، فنطلب باسم هذه المبادئ أن تجعلنا أصدقاءها وحلفاءها صداقة الحر للحر، وإننا نتكلم هنا بهذه المطالب معك بصفتك مشخصا لهذه الدولة العظيمة، ولا نلتجئ هنا لسواك، ولا نلتجئ في الخارج لغير رجال الدولة الإنجليزية، ونطلب منك – بصفتى عارفا لمصر مطلعا على أحوالها – أن تساعدنا للحصول على هذه المطالب .
– ورد المندوب السامي البريطاني: قد سمعت أقوالكم، وإني أعتبر محادثتنا ودية وحبية وليست ذات صفة رسمية، فإني لا أعرف شيئا عن أفكار الحكومة البريطانية في هذا الصدد، وشاكر زيارتكم، وأحب لكم الخير .
– فشكره الثلاثة على حسن مقابلته وانصرفوا بعد محادثات استمرت ساعة من الحادية عشر حتى الثانية عشر من صباح 13 نوفمبر 1918 .
هذه كانت هي أول تحرك شعبي مصري في سبيل الاستقلال بعد 24 ساعة فقط من توقف المدافع بصفة نهائية في الحرب العالمية الأولى وقبل أقل من ثلاثة أشهر على اندلاع ثورة 1919 .
……………………..
فكرة تقديم ضمانات عسكرية وسياسية للإنجليز في مقابل الحصول على الاستقلال لم تكن ضعفا من سعد زغلول ولا تنطوي على قليل أو كثير من التفريط في الحقوق الوطنية، كان سعد زغلول يواجه بريطانيا في ذروة عنفوانها الإمبراطوري، وكان صموده في وجهها مثالا لكفاح شعب لا يملك غير إيمانه بنفسه، وقد ظلت فكرة الضمانات ليس عنها بديل طالما أن مصر لاتملك القوة المسلحة التي تتمكن بها من طرد الاحتلال عنوة وإجلاء جنوده بالقوة ، لهذا ظلت كافة الحكومات من أول مفاوضات مع المبعوث البريطاني لورد ملنر 1920 حتى اتفاقية الجلاء قي 19 أكتوبر 1954 تدور في المربع ذاته مع اختلاف في الظروف والتفاصيل فقط .
لم تكن الفروق كبيرة بين ضمانات أو تنازلات يتحدث عنها سعد زغلول مع المندوب السامي البريطاني بطريقة عفوية في أول مواجهة من نوعها في تاريخ العلاقة بين مصر ودولة الاحتلال، وضمانات أو تنازلات تقدمها ثورة الضباط الأحرار بعد ذلك التاريخ بستة وثلاثين عاما في اتفاق نهائي للجلاء يوقع عليه جمال عبدالناصر ومعه ثلاثة من الضباط الأحرار عبدالحكيم عامر وصلاح سالم وعبداللطيف البغدادي .
– ففي مادة واحد من اتفاقية الجلاء نقرأ: “تجلو قوات صاحبة الجلالة جلاءً تاما عن الأراضي المصرية خلال فترة عشرين شهرا من تاريخ التوقيع على الاتفاقية”.
– وفي مادة ثلاثة نقرأ: “تبقى أجزاء من قاعدة قناة السويس الحالية في حالة صالحة للاستعمال ومعدة للاستخدام فورا . [ المقصود استخدام الإنجليز ] .
– وفي مادة أربعة نقرأ: “تقدم مصر لبريطانيا من التسهيلات ما قد يكون لازما لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة، وتتضمن هذه التسهيلات استخدام الموانئ المصرية في حدود ما تقتضيه الضرورة القصوى، وذلك في حالة إذا وقع هجوما مسلحا على الدول أطراف اتفاقية الدفاع العربي المشترك أو تركيا .
………………….
استنزفت فكرة الضمانات أو التنازلات في مقابل الاستقلال جهود أجيال من المصريين، لكنها كانت المدرسة التي تعلم فيها المصريون فنون المواجهة مع طرف أقوى، كما كانت المعمل الذي تمرنت فيه البلوماسية المصرية على المواجهة مع التسلط الغربي، وهذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.