زيارة ربما بطعم مزيد من التباعد والجفاء بين الإمارات والحليف الأمريكي. هكذا كانت التقييمات بالنسبة لزيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الإمارات والتي لم تكن على الهوى الأمريكي.
فعلى مدار العام الأول من ولاية الرئيس جو بايدن بـ”البيت الأبيض” حاولت مراكز الفكر والمتخصصون الإشارة إلى تراجع أولوية الشرق الأوسط على قائمة محددات السياسة الخارجية الأمريكية.
وبعيدا عن صحة هذه التوقعات فإنه يمكن ملاحظة الحضور الروسي المكثف خلال الأعوام الأخيرة في الشرق الأوسط -بخاصة دول الخليج- والذي لا يمكن تفسيره بعيدا عن التنافس الروسي-الأمريكي على المنطقة.
وفي سياق الحرب الروسية-الأوكرانية تحاول روسيا والغرب استقطاب دول الخليج. ولكن كشفت الدلائل الأخيرة بعض التغيرات في طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة والخليج. إلى أن جاءت زيارة الرئيس السوري -وهي الأولى بعد 10 أعوام من الأزمة السورية- تعميقا لتلك الفجوة في العلاقات الأمريكية الخليجية/الإماراتية.
تطور ملحوظ في العلاقات بين سوريا والإمارات
منذ أيام استقبلت الإمارات الرئيس السوري في زيارة صنفت على أنها “خارطة طريق” لمزيد من التفاعل بين البلدين. حيث شهدت لقاءات ثنائية بين “الأسد” وكل من محمد بن راشد آل مكتوم -نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي- ومحمد بن زايد آل نهيان -ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وأكدت الإمارات بهذه الزيارة رغبتها في اكتشاف مسارات جديدة للتعاون مع سوريا. فضلا عن دفع أوجه التعاون وتعزيز العلاقات بين الدولتين وتحقيق السلم والاستقرار في المنطقة.
زيارة “الأسد” شكلت تطورا ملحوظا في مسار العلاقات بين سوريا والإمارات. في الوقت ذاته مثلت تدرجا منطقيا في خطوات عودة العلاقات بين البلدين.
ورغم موقف الإمارات الرافض لـ”الأسد” والمندد بعلاقته بإيران فإن تغيرات عدة طرأت خلال السنوات الأخيرة على ملامح السياسة الخارجية الإماراتية. وتحديدا في سياستها مع دمشق. مستهدفة تهدئة التوترات. وهذا يبدو في المؤشرات التالية.
1-شهد عام 2018 افتتاح سفارة الإمارات في دمشق بعد 7 سنوات من إغلاقها. وكذلك في القطاعات الإنسانية والتنموية بلغت المساعدات الإماراتية المقدمة لسوريا في الفترة من 2012 إلى مارس 2021 أكثر من 1.1 مليار دولار. كما ساعدت الإمارات في بناء محطة طاقة شمسية بقدرة 300 ميجاوات قرب دمشق في منتصف نوفمبر. بالإضافة إلى تخفيف قيود التأشيرات على السوريين.
حجم التجارة بين الإمارات وسوريا
وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله المري أعلن نمو حجم التجارة غير النفطية بين البلدين. حيث قدرت بنحو 272 مليون دولار في النصف الأول من 2021. وشكلت زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان إلى دمشق في نوفمبر تقاربا ملموسا في العلاقات. حيث أشاد وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بجهود الإمارات باعتبارها “خطوة شجاعة ومتقدمة.. ونتطلع إلى زيادة هذه الأنواع من المبادرات في الأيام المقبلة”.
خلافات أمريكية خليجية
صحفية “وول ستريت جورنال” الأمريكية نشرت منذ أيام مقالا بعنوان “أزمة في العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط”. وذلك عقب زيارة “الأسد” إلى الإمارات. حاولت من خلاله رصد أوجه الخلاف بين الجانبين في ظل مستجدات الأحداث الأخيرة.
وعن التفاعل الأمريكي مع الزيارة قالت الولايات المتحدة إنها “شعرت بخيبة أمل وانزعاج عميق من قرار الإمارات الترحيب بالأسد”.
وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس: “نحث الدول التي تفكر في التعامل مع نظام الأسد على أن تنظر بعناية للفظائع المروعة. التي ارتكبها النظام بحق السوريين خلال العقد الماضي”.
وتمر العلاقات الأمريكية الخليجية بأزمة كبيرة. فرغم مرور ما يزيد على 15 شهرا على تولي بايدن فإنه حتى الآن لم يقم بزيارة واحدة إلى دول الخليج أو الشرق الأوسط. كما لم يستضف أي رئيس من المنطقة -باستثناء أمير قطر- خلال الأزمة الروسية الأوكرانية. كما رفع الحوثيين من قوائم الإرهاب. وهو الأمر الذي شكل إحباطا كبيرا لدول الخليج.
وكشفت الحرب الروسية الأوكرانية عمق الخلافات الأمريكية الخليجية. حيث رفض قادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المكالمات الهاتفية من “بايدن” بما يتضمن رفض طلباته للمساعدة في خفض أسعار النفط. كما التزمت دول الخليج الحياد بصدد إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في بادئ الأمر.
وجاءت زيارة “الأسد” لتمثل ذروة هذه الخلافات.
يقول جون ألترمان -مدير برنامج الشرق الأوسط مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS: “كانت الولايات المتحدة بطيئة في الوصول إلى الشرق الأوسط. ولكن بمجرد وصولها وجدت نفسها تتعمق أكثر فأكثر. في حين أن هناك اتفاقًا عالميًا تقريبًا على أن الولايات المتحدة يجب أن تعيد تحديد دورها في المنطقة. إلا أن هناك اتفاقًا أقل بكثير على الدور الجديد الذي يجب أن يكون”.
ارتباك الموقف الأمريكي تجاه الشرق الأوسط
في عام 1980 حدد جيمي كارتر عقيدة الولايات المتحدة إزاء دول الخليج من خلال خطابه: “يحاول الاتحاد السوفييتي الآن ترسيخ موقف استراتيجي. ما يشكل تهديدًا خطيرًا لحرية حركة النفط في الشرق الأوسط. وأي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربي ستُعتبر تهديدًا للمصالح الحيوية للولايات المتحدة. وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية. بما في ذلك القوة العسكرية”.
ومع تعاقب الإدارات الأمريكية المختلفة لم تحد الولايات المتحدة عن هذا المبدأ. ولكن منذ وصول الرئيس “بايدن” إلى سدة الحكم تخلت واشنطن عن دورها في ضبط الاستقرار الأمني في المنطقة. والذي وصفه البعض بـ”تراجع” الدور الأمريكي في الشرق الأوسط.
تصريح “بايدن” عن رغبة الولايات المتحدة في إنهاء الحرب التي لا طائل منها بمثابة “عصر أمريكي جديد بمحددات وأولويات مختلفة”. وانطلاقا من هذه الأولويات اندفعت أمريكا في سحب قواتها من أفغانستان بعد عقدين من الغزو الأمريكي. والذي سبب صدمة عالمية. ما أسفر عن اضطراب أمني دولي وأظهر إصرار الولايات المتحدة على اتخاذ مواقف أحادية تضمن لها أكبر قدر من المكاسب دون الأخذ في الاعتبار المصالح الأوروبية والشرق الأوسطية.
محددات العلاقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج راسخة إلى حد كبير. حيث إن دول الخليج تعتبر ركيزة رئيسية في أمن الطاقة العالمي. كذلك في ظل تطبيع العلاقات مع إسرائيل وسيطرة منطقة الخليج على طرق التجارة العالمية.
وطبقا للجنرال ماكنزي تقع دول الخليج على مفترق 3 طرق وتضم 3 من أهم نقاط المرور البحرية في العالم. كما أنها تمثل نحو نصف احتياطيات النفط العالمية وأكثر من ثلث إنتاج النفط. ولكن تحاول إدارة بايدن إعادة صياغة وجودها بما يخدم مصالحها مع تقليل نفقاتها واستنزاف مواردها.
دلالات زيارة “الأسد” إلى الإمارات
رغم أن الزيارة تعتبر منطقية وفي مسارها الطبيعي فإنها شكلت مفاجأة للبعض. ويمكن الإشارة إلى عدة دلائل حملتها الزيارة.
طموحات الإمارات الإقليمية:
مؤخرا شهدت السياسة الخارجية الإماراتية نشاطا واسعا على مختلف الساحات. بدءا من اتفاق العلا الذي أنهى الأزمة الخليجية مع قطر. ثم تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتعزيز العلاقات التجارية بينهما. انتقالا إلى تحييد الخلافات مع تركيا من خلال الزيارات المتبادلة آخرها زيارة أدوغان لأبوظبي الذي بدوره يشكل فصلا جديدا من ملامح السياسة الخارجية للإمارات. يحكمه المصالح الاقتصادية وتصفية الخلافات.
من هنا جاءت زيارة “الأسد” بعد سنوات من القطيعة. حيث تجد الإمارات أن الفترة الراهنة هي التوقيت المناسب لتكثيف حضورها على الساحة السورية وممارسة نفوذ إقليمي مؤثر.
سوريا تحاول الخروج من العزلة
عانت سوريا طويلا بعيدا عن الحاضنة العربي في ظل العقوبات الأمريكية المفروضة عليها بشأن تأكيد العزلة ورفض المشاركة في إعادة الإعمار أو رفع العقوبات. وما أن حاولت الدول العربية إعادة ضمها حتى رحبت القيادة السياسية السورية.
وتسعى سوريا إلى إيجاد شركاء في برامج التنمية والمساعدة. فيما قدمت الإمارات خدمات أساسية في التعليم والصحة والإسكان وإمدادات الطاقة للسوريين. علاوة على ذلك أسهمت الإمارات بما يصل إلى 50 مليون دولار أمريكي لبرامج إعادة الاستقرار في شمال شرق سوريا. كما أرسلت 4 شحنات من لقاحات فيروس كورونا إلى سوريا. كما من المقرر أن تستضيف دمشق مؤتمر الطاقة العربي في 2024. ومن المتوقع أن تشارك سوريا في القمة العربية هذا العام في الجزائر.
الضغط على الأمريكان
شكلت زيارة “الأسد” صدمة كبيرة للإدارة الأمريكية. ما يعني استعداد الإمارات لتحمل مخاطر قانون القيصر الأمريكي. أو أن الإمارات تضمن أنها في موقف قوة يسمح لها اتخاذ مواقف أحادية بعيدا عن المصالح الأمريكية.
ولا يمكن فصل أهداف الزيارة بمعزل عن تطورات الأحداث العالمية. حيث تحاول الإمارات لي عنق الأمريكان والتلويح بورقة الروس في محاولة لجذب الولايات المتحدة مرة أخرى نحو تفعيل حضورها في الشرق الأوسط. وكذا الاعتراف بدور دول الخليج في ضبط العلاقات في المنطقة إضافة إلى دور الخليج في أمن الطاقة العالمي.
إملاء الشروط على المجتمع الدولي
في ضوء تعظيم المكاسب الناجمة عن الحرب الروسية تعمل السعودية والإمارات في مسارين متوازيين. حيث أعلنت السعودية استعدادها للتعامل باليوان الصيني في مبيعات النفط.
ولا ننسى أن زيارة “الأسد” جاءت عقب زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى الإمارات والسعودية في محاولة تستهدف التأثير على دول الخليج لحثها على زيادة إنتاج الطاقة ولعب دور فعال في إنقاذ أوروبا من أزمة الطاقة العالمية بفعل الحرب الروسية. والتي قوبلت بالرفض الخليجي.
وفي الوقت ذاته أخلت السعودية مسؤوليتها عن أي نقص في أسواق النفط بسبب هجمات الحوثيين على منشآت النفط لديها. وذلك في توجيه صريح إلى ضرورة التصدي الدولي لهجمات الحوثيين. وإشارة إلى مبدأ “النفط مقابل القضاء على الحوثيين”.
مغازلة الروس
مع تسارع العالم لإدانة الغزو الروسي التزمت دول مجلس التعاون الخليجي الصمت إلى حد كبير. كما امتنعت الإمارات مع الصين والهند عن التصويت في مجلس الأمن على مطالبة موسكو بسحب قواتها. وتلعب الإمارات على الجبهات كافة لتحقيق النفوذ الدولي. ويمكن تفسير زيارة “الأسد” بدفع روسي. خاصة في ظل الجهود التي بذلها “بوتين” لإبقاء “الأسد” حتى تمكن من الحصول على دعم الدول العربية مرة أخرى.
كما تفسح هذه الزيارة المجال لتعزيز التعاون بين الإمارات وروسيا في ظل توحد الموقف تجاه سوريا في مواجهة التعنت الأمريكي. وعلى الجانب الآخر يمكن أن تشكل روسيا الحليف البديل عن الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.