علي الرغم من احتدام الأزمة الاقتصادية في السودان لحد وصول سعر الدولار أمام الجنيه السوداني لأرقام خيالية، بما يرشح البلد للدخول في نفق المجاعة كما تقول بذلك منظمات دولية، فإن الأزمة السياسية السودانية لم ترواح مكانها، بل إنها مرشحة لمزيد من التعقيد، خصوصا مع طرح الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي السوداني لفكرة النظام الرئاسي كنظام للحكم في حواره مع جريدة الشرق الأوسط اللندنية، فيما يبدو أنه بالون اختبار للقوى السياسية ولجان المقاومة السودانية والرغبة في تحديد طبيعة الموقف السياسي العام من النظام الرئاسي.
وبغض النظر عن المرامي السياسية للسيد البرهان فإني أعتقد أنه من الجدير توسيع النقاش العام حول مسألة طبيعة النظام السياسي في السودان في ضوء وظيفتين مطلوبتين بشكل أساسي هما التمثيل الواقعي للشعب السوداني وتدشين نظام حكم ديمقراطي، وأيضا القدرة علي امتلاك آليات التنمية الاقتصادية بمعزل عن الصراع السياسي بين أطراف المعادلة السياسية.
ولعله غني عن البيان أن طبيعة النظام السياسي في أفريقيا بشكل عام تعتبر من المعضلات التي يتم نقاشها في الأدبيات السياسية الأفريقية، لحد وصفها بالدولة المستحيلة كما يصفها د. حمدي عبد الرحمن في كتاب تحت نفس العنوان عن حالة الدولة الأفريقية بشكل عام، وأشير هنا أيضا إلى أن رسالة الدكتوارة الفائزة بجائزة بطرس غالي لعام ٢٠٢١ كانت حول معضلة النظام السياسي الأفريقي المناسب.. والجدير بالملاحظة هنا أن النظام السياسي الذي تم طرحه في إثيوبيا في تسعينيات القرن الماضي على يد ملس زيناوي كان أحد روافع الاستقرار السياسي الإثيوبي لما يقارب من ثلاثين عاما، بينما كان تغييره على يد آبي أحمد سببا في اندلاع الحرب الأهلية الإثيوبية.
ومن أسف أنه رغم الدور المركزي الذي تلعبه طبيعة النظام السياسي في استقرار الدول فإن النخب السياسية السودانية، لم تنتبه على نحو كاف لهذه المسألة، وورثت عن العهد الاستعماري فكرة الإيمان بالنظام البرلماني على اعتبار أنه النظام القادر على ممارسة ديمقراطية صحيحة، وتمثيل واقعي للمكونات المتنوعة، وذلك دون تمحيص ودراسة كافية لطبيعة الاختلافات بين البيئة السياسية في كل من بريطانيا والسودان، وذلك من حيث عوامل نجاح النظام البرلماني في أي بلد، وما هي الآليات السياسية التي يعتمد عليها، وكذلك ما هي الأطر الاجتماعية والروافع الاقتصادية التي تجعل من النظام البرلماني قادرا على إنتاج حكم ديمقراطي واستقرار سياسي .
وربما تكون محدودية النقاش في مسألة طبيعة النظام السياسي في السودان واعتماد فترات الحكم الديمقراطي السوداني على النظام البرلماني طبقا للنموذج البريطاني، أحد الأسباب الرئيسية بتقديري في عدم قدرة الفترات الديمقراطية في السودان علي الاستمرار، وتحقيق تطور اقتصادي يستطيع التعامل مع المشكلات الحياتية اليومية للناس، حيث شهدت بأم عيني في الوثائق البريطانية صراعا بين الحزبين الاتحادي والأمة على رصف شارع بالخرطوم في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت ولاتزال المماحكات السياسية أعلى صوتا من مصالح الناس بل وعلى حسابها، وربما يكون عدم القدرة على بلورة تحالف سياسي عام معارض راهنا خير شاهد على حالة القوى السياسية السودانية بشكل عام.
الشاهد أنه مع تصاعد رغبة الشارع السوداني في تحقيق نقلة نحو تطور ديمقراطي تبدو سمعة وقدرة النظام الرئاسي على المنافسة مع النظام البرلماني في المشهد السوداني معدومة في ضوء أمرين تحول الرئاسيات في المنطقة العربية إلى نظم شمولية، لا دور للمؤسسات فيها بينما يكون الفاعل الوحيد هو المستوي الرئاسي نفسه وفقط، أما الأمر الثاني فهو طرح الفريق عبد الفتاح البرهان لهذه الفكرة والتي يجعلها في مرمي نيران القوى المناوئة له، عطفا على مجريات عامين بعد الثورة السودانية .
الغائب عن المشهد والنقاش السوداني هنا هو طرح فكرة النظام شبه الرئاسي، وهو النظام الذي يجمع بين فاعلية كبيرة للبرلمان وامتلاك رئيس الدولة لآليات اتخاذ القرار وهو الأمر الذي يتم تقليصه أو توسيعه طبقا لمعطيات الواقع المعاش، وهو مختلف من بلد إلى آخر، ويتقاسم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تسيير شؤون الدولة، ويقترب النظام شبه الرئاسي من النظام الرئاسي في أن الرئيس يتم انتخابه من الشعب ويقترب من البرلماني في أن رئيس الوزراء مسئول أمام البرلمان ويستطيع البرلمان محاسبته وعزله وأبرز النظم الديمقراطية الناجحة في تطبيق النظام شبه الرئاسي هي فرنسا .
تطبيقا علي السودانية وربما التونسية أيضا يبدو النظام البرلماني غير فاعل بنجاح لعدد من الأسباب المرتبطة بفواعل هذا النظام من ناحية، ومستوى النمو الاقتصادي المتحقق فعليا على الأرض من ناحية أخرى. فيما يتعلق بالفواعل فهي في حالة النظام البرلماني تكون الأحزاب السياسية التي ربما لايختلف اثنان على حالتها من الضعف لأسباب متنوعة منها ماهو خارجي مرتبط بمعاناتها من قمع متواصل من نظم شمولية، في ضوء تجفيف منابع السياسية على المستوى العام بما يجعل قدرة هذه الأحزاب على التطور معدومة فهي لا تستطيع عقد مؤتمراتها العامة أو تعقدها بكثير من المحاذير، كما أن انفتاح كوادرها على فرص التدرب والتأهيل واكتساب الخبرات مفقودة .
وبطبيعة الحال فإن الأحزاب تحت ضغوطات القمع تلجأ غالبا إما إلى الاعتماد على القيادات الكاريزمية لرئاستها لفترات طويلة أو تواجه الإنقسام الداخلي، وذلك تحت مظلة غياب ثقافة التوافق وشيوع الذهنية الصفرية، ولعل حالتي حزب الأمة والاتحادي في السودان خير مثال على ماذهبت إليه، كما أن ممارسات حزب الغنوشي في تونس ما بعد الثورة الرغم الفرص التي أتيحت له دليل على ضيق أفق سياسي مشهود، وتطلع نحو نظم ثيوقراطية شمولية لا وجود لأنواع أخرى من الطيف السياسي.
وطبعا لامجال عن الحديث عن نمو اقتصادي لا في السودان ولا في تونس، فالانحدار وليس النمو هو سمة مرحلة ما بعد الثورة في البلدين، ولعل هذه الوضعية كانت محلا لمداولات عميقة في مؤتمر الاتحاد الأفريقي الذي حضرته في أكرا عاصمة غانا مؤخرا عن التغييرات غير الدستورية في أفريقيا، والتي احتل فيها السودان وزنا مركزيا من النقاش العام بأروقة المؤتمر وكواليسه، وهو النقاش الذي ذهب إلى أن فشل نظم الحكم في تحقيق تقدم اقتصادي للشعوب الأفريقية هو معول هدم الديمقراطيات فيها .
ختاما في ضوء المعطيات الواردة سالفا عن النظام السياسي ودوره في تحقيق الديمقراطية المستقرة فلا يبدو لي أن النظام البرلماني سيكون فعالا في الحالة السودانية في تحقيق تطلعات الناس حيث يفتقد أدوات العمل كما في الحالة البريطانية التي تتمتع بأحزاب قوية، تعمل في بيئة سياسية مستقرة، بينما النهب الاستعماري وفر قدرة على تحقيق استقرار اقتصادي لا يقارن بدولنا في العالم الثالث بشكل عام.
وفي ضوء هذه الفروقات الأساسية أتطلع إلى أن يفكر السودانيون وقواهم السياسية والشبابية في النظام شبه الرئاسي كنظام مستقبلي للحكم قادر على تحقيق قدر من تطور ديمقراطي معقول، وفي المقابل لابد أن يأخذ رئيس المجلس السيادي بعين الاعتبار أن مصر دولة مركزية بسبب نهر النيل، أي حاجة الناس تاريخيا للفرعون في تنظيم الحياة، أما في السودان فالمعطيات مختلفة والبيئة مغايرة، والاستلهام سيكون خطأ كبيرا فما يمكن تطبيقه في مصر لا يمكن تطبيقه في السودان، وهو ما أصبح محلا لاقتناع النخب الرسمية المصرية بعد الثورة السودانية.