ولد البنكنوت المصري في مطلع القرن الماضي تقريباً، بعد عملية استنساخ للجنيه الذهبي الذي لم يكتب له العيش طويلاً، وبعد عام ونصف من عزم السلطة المصرية على اصداره، تحديداً في 5 يناير من عام 1899 ظهر أول جنيه ورقي مصري، والذي يعرف باسم “الجنيه أبو جملين”، وقد خرج حاملاً على ظهره هذا النص “أتعهد بأن ادفع عند الطلب مبلغ جنيه واحد مصري لحامله. تحرر هذا السند بمقتضى الدكريتو (القرار) المؤرخ في 25 جونيو سنة 1898”. ويقصد بهذا التعهد أن على البنك أن يدفع لحامل هذا الجنيه الورقي عندما يريد جنيه ذهبي مصري والذي كان قد صدر خلفه هذا الورقي بـ 15 عاماً تقريبا.
لقد كان هناك عدد كبير جداً من العملات المتداولة قبل صك الجنيه المصري الذهبي الذي صدر وفق مرسوم بتاريخ 14 نوفمبر 1885، لذا فقد تبع إصداره قرار حكومي يفيد بتوقف التعامل وقبول تلك العملات، على أن ترفض الخزائن العامة ابتداءً من أغسطس عام 1888 أصناف النقود من الريال أبو طاقية، والريال أبو مدفع، والريال المجيدي، والريال الشنكو، والفرنك، والروبية والشلن. ليصبح عملة البلاد الرسمية الجنيه المصري الذي قسم إلى 100 قرش والقرش إلى 10 مليمات، وصدر الجنيه الذهبي وكسوره {50، 20، 10، 5 قروش ذهبية}، بالإضافة إلى عملات مساعدة من الفضة والنيكل والبرونز.
تفنيد الأسطورة
تقول الأسطورة الفيسبوكية إن الجنيه المصري أيام الملكية كان من أقوى العملات في العالم، وهو ما يدل على قوة الاقتصاد المصري ورفاهية الشعب.
بالفعل، عند إصدار الجنيه المصري كان يساوي 5 دولارات تقريبا، حيث كان الوزن الذي أقرته الحكومة المصرية للجنيه الذهبي 8.5 جرام من الذهب، بينما كان الدولار حوالي 1.5 جرام. وعندما أُنشئ البنك الأهلي المصري وحصل على امتياز إصدار البنكنوت، كان عليه أن يحتفظ برصيد من الذهب يساوي نصف ما يصدره من أوراق، حيث كان أكثر هذا الرصيد يودع في بنك انجلترا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى قام الاحتلال الإنجليزي بالاستيلاء على غالب هذا الاحتياطي وإعفاء البنك من شرط الغطاء الذهبي مع استبدال جزء كبير منه بصكوك وأذونات من الخزينة البريطانية، ليصبح الجنيه المصري مربوطاً بالجنيه الإنجليزي.
لكن هذا الاستبدال صاحبه عملية نهب عظيمة للثروة المصرية، فالسندات البريطانية التي بحوزة البنك الأهلي كانت مقابل الغطاء الذهبي للبنكنوت المصري في البداية، ثم صدر قرار بجمع كل الجنيهات الذهبية المصرية، وحجزها عند أي نقطة تابعة للجهاز المصرفي، واستبداله بجنيه ورقي، ثم يتم إيداع هذه الجنيهات في بنك بريطانيا أيضاً، وقد بلغ عدد تلك الجنيهات الذهبية 35 مليون جنيه. وقد أضيفت هذه المبالغ على مستحقات مصر لدى بريطانيا ثمن السلع والخدمات المصرية لقوات الاحتلال والذي بلغ 430 مليون جنيه حتى نهاية الأربعينيات. تلك الملايين كانت -ولا تزال -ثروة قومية طائلة استولت إنجلترا عليها ولم ترد منها شيئا يذكر، وتراوحت الردود البريطانية على المطالبات بها بين تصريحات من قبيل “إن بريطانيا غير ملزَمة أدبيًّا بالوفاء بهذا الدَّين، وذلك لأن مصر أحد مستعمراتها، ومرتبطة معها بمعاهدة لا يمكن تجاهُلها” على لسان وزير المالية “هيو دالتون”، واتفاقات تسوية بجزء بسيط لم يسدد منه سوى بعض الآلاف، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية “أرنست بيفن” بقوله “أتمنى أن ينسى المصريون رصيدهم هذا”.
وعلى الرغم من ذلك، فقد ظل الجنيه المصري من أقوى العملات في العالم كما تقول الأسطورة، وظل لعقود يدور في فلك 5- 4 دولارات، وكان ارتباطه بالجنيه الإسترليني عاملاً في قوته وضعفه أيضاً، فعندما انخفض الجنيه الإسترليني في سبتمبر 1949 بمقدار 30.5%، تبعه الجنيه المصري بعد ربع ساعة فقط بنفس القيمة، ليصل إلى 2.87 دولار، وهو ما استمر من ذلك التاريخ وحتى عام 1961.
وبشكل دقيق فإن ما نتحدث عنه من عملات بما فيها الجنيه المصري، حتى بداية الخمسينيات، كانت مصر تعرفه بالسمع فقط، بمعنى أدق كانت الغالبية العظمى من سكان مصر لا تعرف الجنيهات ولا العملات الأجنبية ولا غيرها من صنوف المال والثروة، حيث إن أغلب هذه العملات كان يستخدم في نطاق التجارة والتبادل التجاري التي يستحوذ عليها نسبة قليلة جداً من السكان في مصر أغلبهم من الأجانب. وقد كانت الثروة الحقيقية في بلد زراعي مثل مصر تتركز في الأراضي الزراعية، والتي كانت تقدر بحوالي 5 ملايين فدان، موزعة تقريباً بهذه النسبة:
مليون فدان ملك لملك البلاد وحاكمها
مليون فدان للأسرة الملكية
مليون فدان للشركات الأجنبية
مليون فدان تقريباً لكبار الأعيان من المصريين والأجانب
والمليون الخامسة والأخيرة كانت موزعة على قرابة مليوني شخص بين مصريين وأجانب تراوحت ملكيتهم بين فدانين وعدة قراريط.
أما باقي الشعب المصري الذي بلغ تعداده عام 1947 حوالي 18 مليون نسمة فكانوا من الفلاحين الواقعين في المساحة بين العبودية التي استمرت فعليا حتى الثلث الأول من القرن العشرين، والقنانة، والتي تعني امتلاك السيد لقوة عمل الفلاح وإنتاجه الزراعي بالكامل مع عدم امتلاك جسده وحياته.
مع اندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952، كان الجنيه المصري يبلغ من العمر 67 عاما، وطوال تلك العقود لم تكن قيمته تعبر بأي شكل من الأشكال عن مستوى دخل المصريين، فبينما كان هو يحلق بين عملات العالم كان سوادهم الأعظم محني الظهر، وجهه في الأرض يكاد يلامسها طوال النهار، مثلهم في ذلك كباقي الأمم والشعوب والمحتلة والمنهوبة ثرواتها. لكن المفارقة المخيبة للآمال أنهم عندما نالوا استقلالهم وحكموا أنفسهم بعد 1952 لم ينالوا من تلك الثروات إلا نادرا، وغالب ما كان ينهبه ويبدده الوالي والمستعمر الأجنبي أصبح ينهبه ويبدده الولاة أبناء نفس الطين، وهو ما نستكمله في المقال القادم.
مراجع:
–النقود العربية ماضيها وحاضرها، د. عبد الرحمن فهمي محمد
-موسوعة التراث المصري، أيمن عثمان
-مصر بعد الحرب العالمية الثانية، محمد حسنين هيكل.
-تاريخ العصامية والجربعة، محمد نعيم
-استعمار مصر تيموثي ميتشل