لوهلة، تبدو تجارة الغاز بين روسيا وأوروبا قابعة في قلب العاصفة. وهي المنطقة التي يسودها طقس هادئ وسط إعصار قوي. رغم استمرار الأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا، وانهيار العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، يتدفق الغاز الروسي إلى أوروبا دون انقطاع. بما في ذلك عبور آمن عبر أوكرانيا.
حتى الآن، لا تزال الأمور في مرحلة التهديدات المتبادلة، حتى وإن بدت كلماتها قاسية. مثلما أعلن وزير المالية الفرنسي برونو لومير في 1 مارس/ آذار “حربًا اقتصادية ومالية شاملة” ضد روسيا. لتقويض اقتصادها، عقابًا على عمليتها الخاصة في أوكرانيا. في المقابل، أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، في حديث للتلفزيون الحكومي. أن رفض النفط والغاز الروسي “سيؤدي إلى عواقب وخيمة على السوق العالمية”.
في حديثه الذي أذيع 7 مارس/آذار، انتقد نوفاك قرار ألمانيا بإيقاف خط الأنابيب الجديد نورد ستريم 2. قال: “لدينا كل الحق في اتخاذ قرار مطابق، وفرض حظر على ضخ الغاز عبر خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1”. لكن، روسيا -كما قال نوفاك- لا تفعل ذلك “لأنها تتصرف بمسؤولية. وتتفهم حجم التأثير السلبي لانقطاع تدفقات الغاز، الذي يمكن أن يسببه لجميع المعنيين.
التصعيد لا يزال مستمرًا، مع رفع كل جانب رهاناته عاليًا. ولكن.. هل يمكن أن تظل توريدات الغاز محصنة ضد أكبر أزمة جيوسياسية في هذا القرن؟
اقرأ أيضا: حرب بوتين الأخرى بسلاح الطاقة.. كيف تعوّض أوروبا الغاز الروسي؟
ماذا سيحدث إذا توقف تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا؟
في مذكرة بحثية أنجزها كبير الاقتصاديين الأوروبيين في بنك Goldman Sachs وفريقه. وضعت عدة سيناريوهات وفق تقييمهم لكيفية تأثير الأزمة على الاقتصاد الأوروبي. لكن، شمل ذلك سيناريو واحد لا يوجد فيه المزيد من الانقطاعات في الإمدادات. بعد خفض التدفق الجاري منذ سبتمبر/ أيلول الماضي. وآخر حيث تتوقف واردات الغاز عبر أوكرانيا لبقية العام، وثالث توقفت فيه جميع واردات خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا طوال عام 2022.
من خلال رسم خرائط لقيود إمدادات الغاز المادية، وضغوط الأسعار التصاعدية في تأثيرات إجمالي القيمة المضافة في منطقة اليورو والمملكة المتحدة. قدّر الفريق أنه بالنسبة لعام 2022 -ككل- يمكن أن تؤثر أسعار الغاز المرتفعة على نمو إجمالي الناتج المحلي في منطقة اليورو بنسبة 0.6 % والمملكة المتحدة بنسبة 0.1 %، بالنسبة للتوقعات الأساسية. بافتراض عدم حدوث مزيد من الاضطرابات في إمدادات الغاز. في ألمانيا، من المرجح أن يكون أكبر -0.9 %، بسبب اعتمادها الكبير على الغاز الروسي.
أمّا السيناريو الذي توقف فيه روسيا جميع صادرات خطوط الأنابيب. فقد يشهد انخفاضًا في نمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بمقدار 2.2% في عام 2022 مقارنةً بالتوقعات الأساسية، مع تأثيرات كبيرة في ألمانيا -3.4% وإيطاليا -2.6%. على صعيد التضخم، فإن السيناريو الذي يتوقف فيه تدفق الغاز عبر أوكرانيا سيضيف 0.7% إلى توقعات تضخم منطقة اليورو الخاصة بـ Goldman Sachs في ذروتها في ديسمبر/كانون الأول 2022.
أمّا إذا إذا ارتفعت أسعار الغاز أكثر بسبب إغلاق تدفقات خطوط أنابيب الغاز من روسيا. فقد ترتفع توقعات التضخم العام إلى 1.3%، مع احتمال مرور كبير في الأسعار الأساسية. وفق كبير الاقتصاديين الأوروبيين في البنك.
تضخم مصحوب بالركود
في المملكة المتحدة، يتوقع الفريق الاقتصادي لبنك Goldman Sachs نطاقًا يتراوح بين 22% و90% لسقف سعر أكتوبر/تشرين الأول. في ظل السيناريوهات الثلاثة، ما يشير إلى وجود مخاطر من جانبين حول الافتراض الحالي عند 55%. ستتم مراجعة سقف أسعار الطاقة من قبل الجهات المنظمة في البلاد في أكتوبر/تشرين الأول.
اعتبارًا من الأول من أبريل/نيسان. من المقرر أن يرتفع الحد الأقصى في المملكة المتحدة بنسبة 54% عن مستواه السابق إلى 693 جنيهًا إسترلينيًا سنويًا -906 دولار- لحساب أسعار الطاقة المرتفعة حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. الافتراض الأساسي للبنك هو الإعلان عن زيادة أخرى بنسبة 55% في أكتوبر/تشرين أول. مع زيادة محتملة بنسبة 90% في حالة إغلاق الاستيراد بالكامل.
أثارت احتمالية حدوث ارتفاعات أخرى في أسعار الطاقة مخاوف من فترة من التضخم المصحوب بالركود. حيث يعاني الاقتصاد العالمي من ارتفاع معدلات التضخم، إلى جانب النمو الاقتصادي البطيء، وارتفاع معدلات البطالة.
اقرأ أيضًا: بوتين يذل أوروبا.. الروبل فقط لتسديد قيمة الغاز
التوقف غير مرجح
في رؤية أخرى، ونظرًا لاعتماد روسيا على الصادرات إلى أوروبا، ومصادر إيراداتها المتقلصة باستمرار في أماكن أخرى في ضوء مجموعة العقوبات الدولية. يفترض استراتيجيو BCA Research أن التوقف الكامل أمر غير مرجح.
نقلت CNBC عن ماتيو سافاري -رئيس الشركة- قوله: على الرغم من أن موسكو أبرمت اتفاقًا جديدًا مع بكين الشهر الماضي. لتزويد شركة البترول الوطنية الصينية بـ 10 مليارات متر مكعب إضافي من الغاز سنويًا. فإن خط الأنابيب الجديد المزمع لنقل هذه الإمدادات سيستغرق عامين إلى ثلاثة أعوام. في غضون ذلك، سيتعين على روسيا الاعتماد على مبيعاتها لأوروبا لتمويل توغلها العسكري في أوكرانيا. وضمان الاستقرار الداخلي“.
مع ذلك، أشار سافاري إلى أن تهديد نائب رئيس الوزراء الروسي نوفاك، لا يزال يسلط الضوء على خطر تعطل إمدادات الطاقة الأوروبية. والتي ستستمر في ممارسة ضغط تصاعدي على أسعار الغاز الطبيعي في المدى القريب. وأضاف: حتى تتبدد علاوة المخاطرة في أسعار النفط والغاز الطبيعي. ستؤدي تكاليف الطاقة المرتفعة إلى فترة من التضخم المصحوب بركود في منطقة اليورو.
هل هناك أي احتمال لتطبيع العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأوروبا في المستقبل.. أم أن الضرر لا يمكن إصلاحه؟
في مقاله “صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا: في عين العاصفة”. يُشير الروسي فيتالي يريماكوف، الخبير بمركز الدراسات الأوروبية والدولية الشاملة بجامعة HSE. إلى أنه وسط الحرب الدائرة. كان الغاز الروسي يتدفق إلى أوروبا عبر جازبروم. والتي كانت مورِّدًا موثوقًا به، حيث استوفت ترشيحات عملائها الأوروبيين.
يقول يريماكوف: في بداية وعرة لهذا العام، خفض المشترون الأوروبيون للغاز الروسي ترشيحاتهم. في محاولة لانتظار الارتفاع الحاد في أسعار عقود جازبروم في يناير/كانون الثاني. ولكن بمجرد أن بدأت أسعار المركز الأوروبي في تجاوز أسعار عقود جازبروم مرة أخرى. رفع المشترون الأوروبيون ترشيحاتهم بموجب عقود طويلة الأجل مع شركة جازبروم.
يضيف: نتيجة لذلك، انتعشت تدفقات الصادرات الروسية من الغاز في فبراير/شباط، وازدادت في العقد الأول من مارس/أذار. مع ذلك، في النصف الثاني من مارس/أذار الجاري، بدأت شحنات جازبروم إلى الاتحاد الأوروبي في الانخفاض مرة أخرى، مما عكس طقسًا وصفه المحلل الروسي بأنه “أكثر دفئًا”. وارتفاعًا جديدًا في أسعار الغاز أدى إلى كبح الطلب.
وفق الإحصائيات الخاصة بتدفق الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي حتى 19 مارس/أذار. يشار إلى أن تدفق الغاز عبر أوكرانيا لم ينقطع وسط الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا. في الواقع، لقد ارتفع منذ 24 فبراير/شباط، وبلغ حوالي 109 مليون متر مكعب يوميًا حتى الآن. أي بالمستوى المنصوص عليه في اتفاقية العبور بين جازبروم ونفتوجاز 2021-2024.
اقرأ أيضا: تعاون تركيا وإسرائيل في نقل الغاز إلى أوروبا.. من يحلم ومن يتوجّع
تحولات أزمة الغاز الأوروبية
لأكثر من 50 عامًا، كانت علاقة الغاز بين روسيا وأوروبا مدعومة بمفهوم الاعتماد المتبادل، المُدار بشكل تعاوني. والذي ينتج عنه منافع متبادلة. لكنها لا تستطيع أن تظل محصنة ضد العداء الجيوسياسي المتزايد بين القوى العظمى. وظهور مواقف تفاوضية متطرفة.
يقول بريماكوف: يعتبر “شتاء الاستياء” 2021/2022 بمثابة تذكير قوي بمدى أهمية الدور الذي تلعبه الطاقة. ومدى الحرص الذي يجب على صانعي السياسة اتباعه، لتجنب الاضطراب والأضرار التي لا يمكن إصلاحها.
شهد العامين الماضيين تحولًا سوقيًا، مع وفرة الإمدادات، وأسعار الغاز المنخفضة للغاية في أوروبا في عام 2020. إلى ضيق شديد وسوق بائع في 2021/2022. بدأت أزمة الغاز في أوروبا في الظهور في الربع الرابع من عام 2021، وأدت إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الغاز. ومخاوف بشأن أمن الطاقة. ثم تفاقمت الصدمة بسبب الصراع العسكري المأساوي في أوكرانيا.
في 7 مارس/أذار، ارتفعت أسعار الغاز في مركز TTF الأوروبي إلى مستوى قياسي بلغ 3800 دولار للمتر المكعب. هذا المستوى من الأسعار -الذي يزيد بحوالي سبعين ضعفًا عن أسعار الغاز في السوق المحلية الروسية- يعني أن سوق الغاز الأوروبية في حالة فوضى. وتسعير النقص المحتمل في الإمدادات، وانعدام الأمن الشديد للطاقة.
في الوقت الحاضر، تراجعت أسعار الغاز في المحاور الأوروبية إلى حوالي 1200 دولار للمتر المكعب. لكنها ظلت عند مستويات عالية للغاية تاريخيًا. رغم أزمات الأسعار، لكن -على الأقل- تأتي التطمينات الروسية بأن الإمداد لن يتوقف في الوقت الحالي. في تصريح لوكالة رويترز، أمس السبت. قالت شركة الطاقة الروسية العملاقة جازبروم إنها تواصل توريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر أوكرانيا تماشيا مع طلبات المستهلكين الأوروبيين.
وقالت الشركة إن الطلبات بلغت 109.5 مليون متر مكعب في 26 مارس/أذار، ارتفاعا من 105.1 مليون متر مكعب في اليوم السابق.
الملاذ الأخير
في واقعها، تبدو جازبروم بمثابة موازن لا إرادي لسوق الغاز الأوروبية خلال العقد الماضي. عندما كان لديها فائض هائل من الطاقة الإنتاجية الاحتياطية، ولكنها لم تطمح أبدًا إلى لعب دور مورد مضمون الملاذ الأخير. بينما، على عكس التزاماتها في أوروبا، فإن الشركة ملزمة بموجب القانون بالعمل كمزود الملاذ الأخير في روسيا.
وسط ضيق نسبيًا في إمدادات الغاز العالمية في عام 2021، تم تخفيض القدرة الإنتاجية الاحتياطية لشركة جازبروم إلى المستويات “العادية”. وهي القدرة على المدى القريب كافية للوفاء بالتزامات الشركة. بموجب عقود التصدير طويلة الأجل، وذروة الطلب الموسمية في الداخل. لكن، تلبية الطلب الإضافي يتطلب الاستثمار في سعة جديدة.
في هذا الموقف، بحلول نهاية عام 2021. بدت الشركة مستعدة لاختبار حدود قوتها السوقية في أوروبا. من خلال التمسك بشعارها التقليدي: “أولاً نبيع الغاز، وبعد ذلك ننتجه”. في إشارة إلى المشترين الأوروبيين أنه مهما كان السوق ضيقًا، فإنها ستركز على تعظيم الإيرادات. حتى لو كان ذلك يعني تقليص سوقها.
في الوقت نفسه، تحاول الشركة أن تبقي خياراتها مفتوحة فيما يتعلق بعكس المسار. واستهداف حصتها في السوق في المستقبل. عندما ينتج عن دورة العمل سوق غاز طويل في أوروبا.
يقول المحلل الروسي فيتالي يريماكوف: يبدو أن رسالة جازبروم إلى نظرائها الأوروبيين قبل العملية العسكرية في أوكرانيا. هي أنها ستستثمر في طاقة إنتاجية جديدة تستهدف السوق الأوروبية. وهذا ضروري لضمان زيادة تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا. فقط، إذا كان لديها ضمانات تعاقدية بأمن الطلب.
يؤكد: هذا ليس مفاجئًا، نظرًا لأن البنية التحتية وقرارات الاستثمار في الإنتاج الرئيسية، يصعب للغاية تبريرها. مقابل المبيعات في السوق، التي تمر بمرحلة انتقالية إلى الطاقة الخالية من الكربون. مع توقعات غير مؤكدة للطلب المستمر على الغاز.
اقرأ أيضا: شهية الصين تلتهم نصف حبوب العالم وتتلاعب بالإمدادات العالمية
انتظر وانظر
كانت النتيجة الطبيعية لاستراتيجية تصدير الغاز الأوروبية “Wait and See / انتظر وانظر” على المدى القريب لشركة جازبروم. هي الشعور المتزايد بالإلحاح في تأمين أسواق تصدير بديلة في آسيا. حيث سيستغرق انتقال الطاقة وقتًا أطول، وحيث يستمر المشترون في رؤية أمن الإمدادات بالمعنى التقليدي. كالتزام بتقديم الشحنات، والنظر في العقود طويلة الأجل كتأمين قابل للتطبيق.
تم توقيع عقد غاز جديد بين روسيا والصين في بداية فبراير/شباط 2022. واستمرار المحادثات حول صفقة أكبر. ما يعني أن إعادة تخصيص الاستثمارات الروسية، بعيدًا عن المشاريع التي تستهدف سوق الغاز الأوروبية. تكتسب زخمًا. لن يمثل هذا تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة في أوروبا، ولكن إذا لم تتم إزالة الكربون بالسرعة التي تمليها الأهداف. وكانت إمدادات الغاز غير الروسية محدودة، فقد يصبح التوفر المحدود للغاز الروسي تهديدًا خطيرًا لأوروبا.
تسريع الانتقال
يبدو أنه لا يوجد وقت للانتقال والتعديل الهادئين بالنسبة للاعبين في تدفق إمدادات الغاز ومشتريه. تقول أوروبا إنها ستنوع بعيدًا عن الغاز الروسي بأسرع ما يمكن. بغض النظر عن الأضرار الجانبية لمثل هذه الخطوة. في المقابل، تحتاج روسيا إلى تسريع “المحور الشرقي” بشكل عاجل.
قد تجعل التوترات الجيوسياسية، من تفكك الثقة المتبادلة، وحسن النية، وتقليل الاعتماد المتبادل على الغاز. أمرًا لا رجوع فيه. لكن الطريقة التي تدير بها أوروبا وروسيا “طلاقهما بسبب الغاز” -كما يقول بريماكوف- سوف ينتج عنها أمور كثيرة. قد يؤدي الفصل السريع إلى خسائر فادحة على كلا الجانبين. لأمن الطاقة في أوروبا، وعائدات التصدير لروسيا.
على مدى السنوات العديدة المقبلة، لا يملك أي من الجانبين فرصة واقعية لإجراء تغييرات جذرية على تجارة الغاز الطبيعي دون الإضرار باقتصاداته. أو أن يكون قادرًا على نقل أعمال الغاز الخاصة به إلى مكان آخر، كمسألة سياسة تجارية متعمدة. إذا فعلوا ذلك تحت ضغوط سياسية -في الوقت الحالي- فإن الخسائر الاقتصادية لكلا الجانبين ستكون هائلة.
لكن بالنسبة لثلاثينيات القرن الحالي، تبدو سيناريوهات التحول الجذري للطاقة في أوروبا. والتنويع السريع لصادرات روسيا من الغاز نحو آسيا. هي الطريق الأكثر ترجيحًا للمضي قدمًا. كلاهما سيمثل التجريب على نطاق واسع، مع عواقب اقتصادية وجيوسياسية غير مؤكدة.