“إن الصين تحتاج إلى خمسين عامًا لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية”.. لم تَكُن الحُجُب مكشوفة ولم يكن القصير المَكير ذو الرأس المُستدير يقرأ الطالع حين قال هذه العبارة في 1978. في هذا العام ومع انعقاد الدورة الثالثة للمؤتمر الحادي عشر للجنة المركزية للحزب “الشيوعي” الصيني، تمت مناقشة أمر يتعلق بتحديث الاشتراكية على الطريقة الصينية.
تم طرح أفكار تتعلق بأن هذا التحديث يقتضى نموًا ضخمًا في قوى الإنتاج. بما يستدعي إجراء تغييرات جذرية في بعض علاقات الإنتاج. وهو ما يتطلب تغييرًا كبيرًا في البناء الفوقي، وفي أنماط الإدارة. بما يتماشى مع أهداف نمو قوى الإنتاج. فكان نموذج “اشتراكية السوق” الذي يعطي أولوية للخطة في مجال تخصيص الموارد. لكنه في الوقت نفسه يسمح بمساحة واسعة لعمل آليات السوق.
حدث بعد ذلك بعشر سنوات تقريبًا أن تطورت تلك الأفكار على نحوٍ جوهري، لدى انعقاد المؤتمر الخامس عشر للحزب “الشيوعي” الصيني. وقد انتهى إلى أن اشتراكية السوق قد صارت تستند إلى إعطاء دور أكبر لقوى السوق في عملية تخصيص الموارد. ذلك مع السماح لبعض المناطق بالازدهار، حتى تساعد في عملية التراكم والتطوير الاقتصادي للمناطق الأخرى. وبما يحقق التقدم لكل أقاليم الصين على مراحل متتالية.
اقرأ أيضًا.. الخوف من الصين والنظام العالمي الجديد
كان هذا يعني -بشكل صريح- التخلي عن أسلوب التخطيط المركزي الذي كان أول من بشر به (التخلي) هو القصير المكير ذو الرأس المُستدير “دنج هشياو بنج” في 1978. لقد أثبتت الأيام أن اشتراكية السوق لم تكن من مراحل التحول الاشتراكي، كما تم الترويج لها في البدايات، إذ آلت الآن إلى رأسمالية من نوع خاص، تُستخدم فيه نفس أدوات الرأسمالية. بينما يفتقد في جانبه الثقافي إلى الديمقراطية التي جرى تعويضها بإرث بيروقراطي تاريخي بالغ الانضباط حال دون انزلاقها في هاوية انفلاتِ التردي في خطايا رأسماليةِ اللا ضوابط واليد الخفية التي تدير الأسواق وترسم السياسات وتعيد هيكلة تركيب المجتمعات.
لأجل إجراء تقييم موضوعي لما آلت إليه أوضاع الصين حسبما طَرَح “بنج” في 1978 وبما يساهم في فهم موقف الصين الحالي. ما يجري علي الحدود الغربية لجارها القريب. يتعين أن ندرس بعض الأرقام بلا إسرافٍ يُخرِج الأمر عن سياقاته، ودون إخلال ينتهي بتقصير في تأسيسِ فَهمٍ شاملٍ للموقف.
من المُقَدَر أن يصل العجز في الموازنة العامة للصين عن هذا العام حسب تقريرٍ لوكالة بلومبرج صَدَر منذ أيام إلي 3.37 تريليون يوان صيني (نحو 534 مليار دولار) مقابل 3.57 تريليون يوان صيني في العام السابق، و3.76 تريليون يوان صيني في العام الذي سبقه، والذي عانى فيه الاقتصاد الصيني من آثار فيروس كورونا. أي أن العجز في موازنة الصين ينخفض بصورة تدريجية ملموسة في الوقت الذي وصل فيه عجز الموازنة الأمريكية المُقَدَر إلى 2 تريليون دولار.
كما أن حجم الناتج المحلي الصيني (وقت كتابة هذا المقال وفقًا للإحصاءات الأمريكية) قد بلغ 17.2 تريليون دولار. بينما وصل دينها العام إلى 10.5 تريليون دولار. أي أن الدين العام يشكل فقط نحو 61% من الناتج المحلي. في حين بلغت نفس النسبة في أمريكا حوالي 126%.
وإن أخذنا هذه النسب بالاعتبار، إضافةً إلى ما كنت قد ذكرته في مقال سابقٍ من أثر امتدادات جيوسياسية للصين في بُقَعٍ ساخنة من العالم، وما أبرمته من اتفاقاتٍ فوق الطاولة ومن تحتها مع كل من إيران وروسيا لتوفير الطاقة، لأجل تأمين تشغيل وحداتها الإقتصادية، وما حققته من اكتفاءٍ ذاتي -بدرجة كبيرة- من الغذاء، وما استثمرته من أموال في شراء أدوات الدين العام لدول مؤثرة في العالم، كان علي رأسها أمريكا ذاتها.
وقد وصل ذلك الاستثمار إلى 1.1 تريليون دولار، بما يعادل نحو3.7% من إجمالي الدين العام الأمريكي، فسيمكن إدراك أن هناك تفوقًا نسبيًا للصين يتنامى بشكل ملحوظ في سباق المنافسة مع أمريكا، سيكون له تأثير عظيم في فهم موقفها من الحرب الروسية-الأوكرانية، والتنبؤ بما قد تتخذه من مواقف لاحقة على الأرض تُطَوِرُ من خلالها هذا التفوق وتُرَسِخه.
وذلك يحقق وعد “بنج” الذي أكاد أرى شَبَحَهُ جالسًا القرفصاء على جناحِ سحابةٍ بِسَمَاءِ الخلود عاقِدًا ذراعيه على صدره يبتسم في هدوءٍ وقد اقترب للناس أَجَلهُم. حيث لم يتبق من عمر الزمن سوى ست سنوات بالتمام والكمال على الميعاد الذي ضربَه لاكتمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية التي سيكون “توازن الردع الاقتصادي” هو مَظهرُ تَمامِها القائم على أسسٍ ثلاث يدعمها تفوق عسكري مَحسوبُ التكلفة وسيطرة جيوسياسية مُوجِعة للمنافسين: الغاز كمصدر للطاقةِ نظيف، والقمح كمصدر للغذاءِ لا غنى عنه، والثروة النقدية الهائلة كمصدر لتمويل مزيد من الاستثمارات والائتمان.
الحاصل حاليًا أن وحوشًا ضارية كثيرة تتصارع فوق أرض وسماء أوكرانيا التي تنهار بناها التحتية والفوقية وتتخلخل تركيبتها الديموجرافية. فالوحش الروسي ينزف مالًا وسلاحًا وأرواحًا تُضعِف عنفوانَ قُوَتِه أيًا كانت درجة استعداده للتحمُل، وأيًا كانت مكاسبه قصيرة الأجل.
والوحش الأوروبي يمنى بخسائر اقتصادية واجتماعية فادحة، تَفوقُ بكثير ما يتصوره أي مراقبٍ خبير. والوحش الأمريكي يضطرب مُنهَكًا بموجب عجوزاته المالية العظيمة الناتجة عن إعادة تطوير بنيته التحتية واستمرار إنفاقه العسكري الضخم. في الوقت الذي يُؤهِل فيه أرباب النفط أنفسهم للخروج من دائرة التأثير بحلول منتصف القرن، في حين يتضور إنسان العالم الفقير جوعًا -كَحَالِه دومًا- على وقع ارتفاع أسعار الغذاء وتحديدًا القمح والزيوت.
كل الوحوش من أطراف النزاع سيخسرون وسيلحق بهم كثير من الأبرياء بلا ذنب. بينما سيكون الفائز الوحيد هو الوحش الصيني الذي ظل قابِعًا بكهفه المنيع يكشر عن أنيابه حينًا ويلزم الصمت أحيانًا. فلم يدخل المَقتلة، لكنه أدار وسيظل يدير مصالحه بدمٍ باردٍ وببراجماتية تستدعي من الإعجاب قَدْرَ ما تقتضى من التأمل. أو كما قال جرامشي: “يموت العالم القديم والجديد لم يُولَد بعد، وما بين العَتمَةِ والنور.. تَرتَعُ الوحوش”.