في مقالين سابقين تحدثنا عن الحرب بتعريفها الحديث “سياسة تستخدم أدوات عنف لكنها تسعى لتحقيق نفس الأهداف التي يسعى إليها الدبلوماسيون والحكام، وفي هذا المقال نتناول الحرب بمفهوما الأشمل الذي يتجاوز الأعمال العسكرية وجبهات القتال إلى ميادين الحياة ويوميات الناس في المطاعم والبيوت ووسائل المواصلات والصحف والشاشات وعلى جبهات مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما يسمى “مثل الحرب”، ويبالغ البعض فيقول إنها الأهم والأقدر على تحقيق النصر من كل الجيوش..
تعالوا نقترب أكثر من مفهوم “مثل الحرب” بمطالعة مجموعة متفرقة من اللوحات والمشاهد والمواقف تشبه كتابة “البوستز” على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي نهاية المقال ستعرفون سر اختيار هذا الطريقة في الكتابة
(لهذا اخترعوا نصب الجندي المجهول)
في الحرب الأوكرانية الدائرة، وفي معظم حروب الأرض يسقط القتلى سريعا في بئر النسيان العام، تطمسهم الشاشات والمطبوعات وتذكرهم كأرقام، ويتحول وجودهم الإنساني إلى صور على جدران البيوت وذكرى في قلوب المحبين مع عبارات الترحم والحنين التي تتناقص بمرور الزمن، ولا يعرف الأحياء أبدا مَن مِن القتلى دخل الفردوس ومن دخل الجحيم؟، فكل طرف في المعركة يهب الفراديس لأهالي قتلاه ويلقي باللعنة على الأعداء، وهذه الحالة الضبابية مظهر من أهم مظاهر “مثل الحرب”، لأن المنتصر في الدعاية والكلام يصبح هو المنتصر أمام شعبه حتى لو كان مهزوما في المعارك العسكرية، والعكس صحيح، وهو ما كتب عنه خبير الحروب الأمريكي الكولونيل هاري سمرز الذي أكد في كتاب شهير له عن حرب فيتنام أن القوات الأمريكية لم تنهزم، لكن الهزيمة كانت في المجتمع، بمعنى أن أمريكا كسبت الحرب، لكنها خسرت “مثل الحرب”، وقد تعلمت من هزيمتها الكثير، وهذا ما نعود إليه بالتفصيل بعد قليل، لذلك فإن الغرب بقيادة أمريكا يهتم بمفهوم “مثل الحرب” ويتفوق في ذلك على الروس بدرجات كبيرة، والمشهد واضح: روسيا تقتل وتحرق وتدمر، بينما الغرب يحرض ويقدم الدعم ويسلب وينهب ويجمع الغنائم، حرب شاملة بمفهوم واسع تجمع بين القتل في ساحات المعارك، وقتل النفوس والعقول عبر الشاشات والصحف والإنترنت، لقد تعلمت أمريكا درسا كبيرا من هزيمتها المذلة في فيتنام، تعلمت أن الحرب عملية اجتماعية أكثر منها عسكرية، لذلك لابد من تجنيد الناس في البيوت، وتسليحهم بعنف اللغة والمشاعر والدعم المعنوي والمادي، بينما روسيا تفتقد إلى هذا السلاح الحاسم، بحكم اختراق مجتمعها الداخلي وتحجيم الحريات والنقاش العام، وكذلك بحكم تشكيلة الأوليجارشيا المتحكمة اقتصاديا والتي تميل للاندماج في دورة السوق الرأسمالي لتحقيق أرباح لن تتوفر لها في الاقتصادات المحلية المغلقة، لذلك فهي كعب أخيل (نقطة الضعف) في خاصرة بوتن، لأن ضغوطها ستكون أشد من عقوبات الغرب وإمداداته لأوكرانيا بالسلاح والمال وحملات الدعم الإعلامي، هذا لا يعني أن الجبهات الداخلية في الغرب ستقدم دعمها لأنظمتها بالإجماع على بياض، (معظمنا يتذكر ما حدث لتوني بلير وبوش الابن من احتقار داخلي واسع).
للصورة إذن تباينات ودرجات رمادية في الجانبين، فالروس ليسوا كلهم مع بوتن وهناك احتجاجات واستقالات وخلافات سياسية وعرقية ملحوظة، والحال بدرجات أقل ومسكوت عنها موجود في أمريكا وأوربا، هناك أصوات لا تعجبها سياسات الناتو والمصالح المشبوهة لأمراء الحرب الذين اصطنعوا الأزمة من البداية لضمان استمرار هيمنة الشركات الخرافية على العالم تحت شعارات سياسية وإنسانية باتت محل شك عند معظم نشطاء الكوكب الذين صدقوا خرافة “العولمة الإنسانية” و”المبادئ الأممية” و”القانون الدولي”، وهذا هو الجزء الغاطس في الصراع الذي يهمنا التعرف عليه بعيدا عن بيانات وزارات الدفاع وتصريحات أمراء الحرب في الجانبين..
(من يقتل أكثر.. المدني؟ أم العسكري؟)
اعتذر نوبل عن اختراعه للباليست والديناميت بتخصيص جزء من ثروته لتمويل جائزة دولية للسلام والعلوم والآداب، أما ماركوني مخترع الراديو الذي فاز بجائزة مبكرة من جوائز نوبل فقد اكتفى بسؤال متشكك عن اختراعه: هل فعلت خيرا للعالم؟ أم أضفت تهديدا؟
ماركوني طرح سؤاله عام 1934 على مدير جامعة سانت أندروز البريطانية، عندما اختاره طلابها رئيسا لجامعتهم، كان مندهشا ومتشككا ومتخوفا، ليس من ضميره فقط، ولكن من حكم الضمير البشري، كان يتحرك بين إيطاليا وأمريكا وبريطانيا وشارك على مضض في تطويع اختراعه للاستخدامات الحربية، وفي ذروة شكوكه من استخدام اختراعه في الشر مات ماركوني وشيع جثمانه في جنازة عسكرية تؤكد تخوفاته: حرس من أصحاب القمصان السوداء يتقدمهم موسوليني وباقة ضخمة من الزهور أرسلها هتلر وفي وسطها صليب النازية المعقوف، وعلى عكس المنطق تم اسكات كل محطات الراديو في العالم (كنوع من الحداد) أثناء الجنازة العسكرية المسائية في صيف يوليو من ذلك العام الذي يسبق الحرب الثانية بعامين فقط، ربما ارتاحت روح ماركوني للصمت، لأنه أفضل من ترويج الأكاذيب، ربما كانت لحظة صدق غير متعمدة من الاختراع الذي استخدمه قادة العالم بعد ذلك لأكبر محطات التضليل، وفي مقدمتهم هتلر صاحب إكليل الزهور، الذي أسس إذاعة لندن أثناء الحرب العالمية الثانية بهدف تحطيم معنويات الانجليز عن طريق التضليل وبث الشائعات والأكاذيب.
(حكمة الموت الكاذب)
في حرب القرم الكبيرة بين الدولة العثمانية والروس منتصف القرن 19 كان أكبر تاجر لتوريد السلاح يدعى ألفريد نوبل وأخوته، وكاد أن يتعرض المصنع للإفلاس بعد توقف الحرب، فسعى لودفيح نوبل لتطوير أبحاثه في الكيمياء لتطوير متفجرات جديدة أسهل وأقوى من النتروجليسرين، وحدث أن أحد المعامل انفجر فمات لودفيج، وكان شقيه الفريد قد اخترع الديناميت وذاع صيته كتاجر سلاح دولي، فنشرت صحيفة فرنسية خبرا تحت عنوان “موت تاجر الموت” وخلط الخبر بين الشقيقين فتحدث عن خطايا ألفريد وجريمته في تسهيل القتل، ولما وصل الخبر إلى ألفريد تألم للصورة التي سيبقى بها اسمه في التاريخ كقاتل، فطلب من محاميه تغيير وصيته لتخصيص جزء من أرباح الموت لدعم السلام والمخترعات التي تساهم في تحسين الحياة، لكن خطأ الصحيفة لم يصحح مسار العلم التدميري إلا في الظاهر، بينما الجوهر الربحي للقتل اتسع حتى صار هو السياسة الدولية بكل أدواتها وأسلحتها التي صنعها علماء ومدنيون ساهموا في القتل بأكثر مما ساهم الجنود المتحاربين، هذه المفارقة تقدم لنا أكبر مثال لفكرة “مثل الحرب”، بحث علمي أخطر من خطة جنرال عسكري، وخبر في صحيفة ينتصر على أكبر تاجر سلاح..
أوجست كونت يلعب الشطرنج وسام بن نوح يطلب اللجوء!
أنا عضو في نادي شطرنج دولي، وقد أدهشني مشاركة أعداد كبيرة من اللاعبين الروس والأوكرانيين في الوقت الذي ينشغل فيه شون بن بمصير هؤلاء ويهدد بإعدام تماثيل أوسكار التي نالها إذا لم يتم دعوة الرئيس الأوكراني لتوجيه كلمة متلفزة في حفل توزيع الجوائز، شعرت بالدهشة من استمرار الناس في اللعب حتى تحت القصف، وشعرت بالدهشة أكثر عندما فكرت أن قصف أدمغتنا نحن بالأخبار قد تجعل مركزية وتأثير الحرب علينا أكبر بكثير من تأثيرها على من يعيشون الحرب نفسها!!
مع ذلك لم أرغب في فتح حوار مع أحد منهم، لكنني لم أقاوم رغبتي في التعرف على جوانب من حياة الناس العاديين للحرب، تواصلت مع صديقة أوكرانية قديمة عرفتها عن قرب في المنفى، وهي من المعارضين لبوتن وللنظام الأوكراني التابع للغرب في نفس الوقت، قالت ناديا: لاتوجد نظرة، توجد نظرات من زوايا كثيرة، كما يوجد عدم نظر عند قطاعات كبيرة، بعضهم ينتحل وجهة نظر مستعارة من التليفزيون أو من وسائل التواصل أو من صديق أو من الأهل، وبعضهم يحتفظ بسكينته من غير أن يتلوث بأي وجهة نظر، كأن الحرب لم تقع، وكأنه يسمع الأخبار عن بلد آخر، هذا طبعا لا ينطبق على الأشخاص المرتبطين أصلا بطرف في الصراع، أو الأشخاص الذين تقع القنابل على بيوتهم وأجسادهم، هؤلاء يتعرفون على نظرتهم من خلال ظروفهم الصعبة وتجربتهم المريرة في مأساة يعرفون القليل عن أسبابها ومجرياتها، ولا يحيطون بكل أبعاد اللعبة، لا أحد يعرف حقيقة ما يدور حتى أنا وأنت كمتابعين لا نعرف ما يدور في رؤوس القادة المتحاربين، لأن الصراع له ملفات ودراسات أكبر من إحاطتنا بها، نحن نتحدث في عموميات فقط، مثل ثنائية الخير والشر، الديموقراطية والقمع، لكن هذه هي الذرائع.. هذا هو الظاهر فقط..
ناديا تتحدث العربية بلهة مصرية (بدرجة مفهومة) فقد عاشت في البحر الأحمر قرابة العامين وتفهم الطريقة التي يفكر بها المصريون، فلما طلبت منها معرفة آراء بعض ممن يعيشون في الداخل تحت الحرب، قالت: سأحاول
بعد يومين اتصلت بي مندهشة: لا يوجد حرب عند أغلب من تواصلت معهم، الحرب محدودة بمن يتلقى الأذى بشكل مباشر، لقد أصبحت أغلبية العالم منكفئة على ذاتها
قلت: أنا ومن بعدي الطوفان؟!
قالت: ربما ثمرة للحقن العشوائي للذات الذي أفرطت فيه “مصحات الليبرالية”
اتفقنا في النقاش أن العالم يعاني من أعراض المضاعفات الخبيثة لنوع من الفردية يهتم بالذات ويضع المجتمع في مرتبة متأخرة: لا يهم الآخرون، فهم الجحيم، ما مصلحتي أنا؟. وما حجم الضرر الذي سيصيبني؟، هذا هو المنطق السائد كأن الناس تنتقم من أوجست كونت، لذلك فإن هجر الأوطان واللجوء السريع إلى أماكن أخرى، هو أخطر سلوك يهدد فكرة الوطن نفسها، لقد صارت لدينا “مواطنة هشة” في كل دول العالم الآن، فليس هناك ما يستحق البقاء للدفاع عنه، ولهذا فإنها الحرب هي بالأساس محترفون ومنتفعون بالإضافة إلى حشود من الماتريكس المستلبين الذين سلموا عقولهم لاختراع ماركوني وما جاء بعده!
دائما هناك عالم جديد.. السؤال: أي جديد؟!
عادة ما يتفق الناس على أن الحروب الكبرى تنتهي بإعادة تشكيل نظام الحكم الدولي، لكن لا أحد يعرف على وجه القطع: كيف وفي أي اتجاه سيتم ذلك التشكيل؟، وهل النظام الجديد سيكون أكثر عدلا وإنسانية من الحالي أم أكثر ظلما وهيمنة ولكن بأساليب ذبح جديدة: حديثة أكثر وسهلة أكثر، وأيضا نظيفة أكثر.. على طريقة تعقيم الإبرة الطبية قبل حقن المحكوم عليهم بالإعدام!
التاريخ يقول إن القتل الجماعي ظهر قبل التاريخ والتدوين، وأقدم أثر له يرجع للعصر الحجري الوسيط، وتم اكتشافه في جنوب مصر في منطقة تسمى جبل الصحابة، لكن ذلك “القتل الجماعي” يختلف عما حدث بعده على مدى قرون طويلة من غارات القبائل وحروب الكراهية والانتقام والصراع على المياه والمراعي، وهي كذلك تختلف عن حروب العصور الوسطى ومراحل الاستعمار القديم، وهي الأخرى تختلف عن صراعات ما بعد الحربين في فترة المعسكرين (العالم ثنائي القطبية)، ثم يواصل الاختلاف مسيرته في حروب فترة الهيمنة الأحادية على العالم، وأظن أن الحرب الأوكرانية هي نقطة الذروة والتحول لمرحلة جديدة ستنتهي فيها العولمة والمعايير الغربية الحاكمة، وهو ما يفعله الغرب بنفسه وليس إجبارا من الخارج أو بتأثير هزيمة عسكرية، ويتمثل انقلاب الغرب على نظامه في ممارسات مضادة مثل: تأميم الشركات ومصادرة الأموال الخاصة، وقوائم ملاحقة المستثمرين تحت جناح الاقتصاد الحر و”دعه يمر”، والتوسع في طرد الدبلوماسيين، والتلاعب بعضوية المنظمات الدولية وكأنها أندية غربية خاصة، وهز ثقة المودعين في النظام المصرفي، وعودة خطاب الكراهية والتحريض على اساس العرقيات والجنسيات.. كل هذا يعجل بوفاة العولمة ومؤسساتها وينهي النظام الأحادي، لأن المتضررين لابد أن يشرعوا في تأسيس بدائل جديدة موازية أو منافسة، وإذا لم يستطيعوا، فإن الانقلاب الغربي على العقائد والمبادئ والشعارات المؤسسة لهذا النظام ستقوضه من داخله بحسب جدل هيجل الذي يؤكد أن كل فكرة تحمل نقيضها، وبحسب آليات انهيار الإمبراطورية الرومانية القديمة فإن غطرسة القوة تنتهي بأن يأكل النظام نفسه كما فعل جلاد التعذيب (عباس الزنفلي) في “العسكري الأسود” ليوسف إدريس، وكما فعل بطل “اللجنة” لصنع الله إبراهيم.
(تحطيم قواعد باتون)
في مقدمة فيلمه الشهير عن الحرب يقدم “فرانكلين شافنر” الجنرال الأمريكي جورج باتون يخطب في جنوده وخلفه علم أمريكي باتساع الشاشة، باتون جنرال واقعي (وليس شخصية سينمائية) مثير للجدل بطريقته الدموية ولغته المبتذلة وألفاظه النابية مع الجنود والقادة معا، حتى صار يمثل مدرسة خاصة في العسكرية الأمريكية بأسلوبه الذي يمجد القتل، وقد جمع السينمائي العظيم فرانسيس فورد كوبولا (كتب سيناريو الفيلم) مقتطفات من تصريحات باتون وصاغ منها الخطبة التي تتصدر الفيلم، والذي يقول فيها لجنوده:
“أريدكم أيها الرجال أن تعرفوا جيدا أنه لايمكن لأي ابن زانية أن يكسب حربا بأن يموت من أجل بلاده، وإنما يكسبها بأن يجعل الغبي الآخر يموت هو من أجل بلاده، الأمريكيون يحبون القتال، يحبون لسع المعركة، وجميعكم منذ الصغر كنتم تحبون الأبطال.. في الكرة وفي الجري وفي الملاكمة، لهذا لا نخسر أبدا، الأمريكيون لا يطيقون الخاسر، ويلعبون دائما لكي يربحوا وفقط، ولن نكسب إلا كجماعة نأكل معا ونعيش معا ونحارب معا، لذلك لا تصدقوا أي هراء عن الفردية، فأولاد الزنا الذين يكتبون عن الفردية في عدد السبت من “ايفيننج بوست” لا يعرفون عن المعارك الحقيقة أكثر مما يعرفون عن المضاجعة.. أنا أشعر بالشفقة تجاه أولاد الزنا المساكين الذين ننطلق لمواجهتهم، فنحن لن نطلق النار عليهم فحسب، بل سنخرج أحشاءهم اللعينة لنستخدمها في تشحيم دباباتنا..”
يستمر الخطاب على الشاشة 6 دقائق مكتملة، ولما بحثت عنه في الواقع وجدت معظمه في خطبته الشهيرة قبل غزو نورماندي صيف 1944، وقد صاغ هذا الخطاب ما عرف بعد ذلك بـ”قواعد باتون” في الحرب، وكلها تعتمد على الشحن المعنوي لجنوده كوحوش قتل، بينما يوجه انتقاداته اللاذعة للمدنيين وللقادة الذين يتحدثون عن القوانين والرحمة وتدخلات السياسيين!
بعد حرب فيتنام انهارت قواعد باتون رسميا، وسبقها أزمات متدرجة أنهت مسيرته العسكرية أكثر من مرة، لكنه كان يعود للجيش عند الحاجة الضرورية للقتل العنيف، والجميل في فيلم شافنر أنه ينتهي بتصوير “باتون” على خلفية من طواحين الهواء، كأنه دون كيخوتة عصر الدبابات.
(من باتون إلى سمرز)
كان هاري سمرز عقيدا مقاتلا في الحرب الكورية وفي حرب فيتنام، وساهم بعد ذلك في صياغة التطورات العسكرية لأمريكا على أساس مفاهيم كلاوزفيتس جسب كتابه سابق الذكر، الذي كان يدرسه ويدرب على أساسه الضباط والمبتعثين في كلية الحرب (أكاديمية كارلايل العسكرية في بنسلفانيا التي درس فيها الفريق صدقي صبحي والمشير عبد الفتاح السيسي ومئات الضباط المصريين)، ويحكي سمرز أثناء اتفاقات الانسحاب من فيتنام أنه اجتمع مع وفد عسركي يتراسه عقيد فيتنامي، فقال له سمرز أثناء الاجتماع: نحن ننسحب باختيارنا فأنتم لم تتفوقوا علينا أبدا في العمليات العسكرية، لقد كانت لنا دائما القبضة الأقوى.
رد العقيد الفيتنامي: هذا لا يهم كثيرا، لأن الحرب لم تكن مبارزة لتحقيق تفوق عسكري في القتال.. لقد تلقينا الكثير من الضربات، لكننا عرفنا في النهاية كيف ننتصر.
اعترف سمرز بعد سنوات أنه لم يفهم هذه الرؤية بشكل صحيح حينها، وفي عام 1982 نشر كتابه عن تحليل حرب فيتنام بمفهوم كلاوزفيتس وذكر فيه الواقعة ومعها تحليل وافي عن استراتيجية تحقيق الانتصار من خلال ضرب العمق الاجتماعي، كما تحدث عن أهمية “مفهوم الضباب”، فهو يعطل العدو أكثر مما تعطله المتاريس والدبابات، هكذا أصبح التضليل من أهم أسلحة الحروب الحديثة، ولعلنا نتذكر أزمة تأسيس إدارة التضليل الإعلامي التابعة للبنتاجون، والتي فضحتها “واشنطن بوست” وتحولت إلى قضية مجتمعية كبيرة اضطرت البنتاجون لإغلاق الإدارة، لكنها في الحقيقة “كانت تضلل أيضا” فالإدارة لم تغلق لكن تم تغيير اسمها إلى “إدارة التأثير الإعلامي” مع تعهدات بأن دورها سيقتصر على التضليل خارج حدود أمريكا!!
هكذا صار التضليل عملية حربية مهمة قد تفيد أكثر من كل المعلومات التي يوفرها جاسوس أو قمر صناعي، وبتعبير كلاوزفيتس فإن السلاح والعوامل المادية ليست أكثر من مقبض خشبي بينما العوامل المعنوية هي السلاح الحقيقي والنصل الحاد القاطع”، وهذا يعني أن للحروب الحديث فلسفات عميقة خلف مظهر القتال والشعارات المعلنة، وملخص ذلك كله أن الانتصار ليس بكمية الخسائر وأعداد القتلى، ولكن بتحقيق طرف ما للفكرة التي دخل من أجلها الحرب، وهذا يدعونا للتركيز على حرب الأفكار أكثر من حرب السلاح، أي التركيز على “مثل الحرب” أكثر من القتال العسكري نفسه.
(البوست الختامي)
يقول خبراء العسكرية إن الحرب الأهلية الأميركية هي أول حرب استخدمت أدوات ومفاهيم عصر الصناعة، كما ظهر في استخدام السكك الحديدية وبدايت التصنيع، وفي الحرب العالمية الأولى ظهرت الدبابات والطائرات والغازات السامة، وفي الثانية تطورت الدبابات والطائرات والغواصات وظهرت القنبلة النووية، وفي حرب فيتنام ظهر كما عرفنا في الفقرة السابقة سلاح جديد اسمه “ضرب العمق الاجتماعي”، أي توجيه الغارات نحو الشعور الداخلي وعقول السكان، وبهذه الطريقة في الحرب تمكنت فيتنام الشمالية الفقيرة من هزيمة أمريكا، وهكذا تحولت فيتنام إلى عقدة نفسية وسياسية وعسكرية عانت منها أمريكا طويلا، وبدأت العقدة بتقرير مكنمارا الذي تم حجبه، ومواقف جماعات الهيبيين ومثقفي جيل الغضب الرافض للحرب، حتى إن البعض رفض التجنيد مثلما فعل محمد علي كلاي في موقف كلفه التضحية بلقب بطولة العالم في ملاكمة الوزن الثقيل، لكنه كلف أمريكا سمعتها العسكرية ودفعها إلى تغيير نظامها العسكري تماما وإصدار قوانين وتشريعات جديدة تشرك القادة الميدانيين في القرار وتمنحهم صلاحيات أكثر مرونة وتفتح المجال للمشاركة الشعبية الداعمة بحيث يكون المجتمع طرفا في الحرب وليس خصما لها، كما ظهر في الاحتجاجات الشعبية المنددة بالحرب في فيتنام، فقد عرفت أمريكا أن “قواعد باتون” التي نجحت في الحرب الثانية قد فشلت فشلا ذريعا في فيتنام التي لم تستسلم برغم تعرضها لأضخم عمليات قصف في الحروب الحديثة، وهكذا اتضح أن النصر مرتبط بالقدرة على قصف الروح وتدمير الإرادة واحتلال العقول، هذا يحقق نجاحا أكبر من قصف الجنود وتدمير المنشآت واحتلال الأرض، لأن النتيجة النهائية في أي حرب لا تتوقف أبدا على عدد القتلى وخسائر الجيوش، بل ترتبط بتحطيم معنويات العدو وأسر عقله، وهذا ما كشف عنه بالتفصيل كتاب صدر في خريف 2018 تحت عنوان “مثل الحرب.. تسليح مواقع التواصل الاجتماعي” لاثنين من خبراء الأمن والدفاع هما إيمرسون بروكينج وبيتر سينجر، وبالرغم من قدم فكرة الحرب النفسية وتشكيل العقول، لكن الكتاب يقدم جديدا في الطرح وربط الفعل الشعبي بالمسار العسكري للجيوش النظامية، بحيث تبدو مفاهيم البروباجندة والكذب عند جوبلز بدائية وساذجة مقارنة بنقرات الإعجاب على هاتف ذكي في عصرنا، لأن “مثل الحرب” تختلف عن تقنيات الحروب النفسية العتيقة وغارات المنشورات التي كانت مفيدة في لمجتمعات الأعداء في مسح زجاج لمبات الكيروسين والاستخدام في المراحيض عقب قضاء الحاجة، فقد كانت إذاعة النازية في لندن ومنشورات الأمريكان في فيتنام ضعيفة التأثير، على عكس حملات “مثل الحرب” الآن، لأنها تدار بواسطة شبكة تجارية محكمة تقودها شركات ربحية وعملاء تسويق تدربوا على أساليب الشيطنة في الإغواء واختراق حصون الإرادة ومعامل العقول، بعد عقود من تأسيس إدوار بيرنيز لمدرسة العلاقات العامة والتسويق النفسي وإطلاق مئات الباحثين في مجالات علم النفس والدراسات الأنثربولوجية للتعرف على شخصيات وتركيبة الشعوب الأخرى وجمع المعلومات عن النوازع الرغبات والقصص المحببة والشائعات والنكات بغرض التعرف على مفاتيح التحكم في شعوب الأرض واحتياجاتها النفسية والتسويقية، وتحويل كل ذلك إلى “خوارزميات” تتحكم في العاطفة والاتجاه ولغة التعبير أيضا، وتشجيع ذلك بمكافأة فورية تتمثل في لايك أخرى غير “لايك وور” هي لايك أعجبني كلامك، وأعجبني موقفك، وأعجبني إعجابك بما أقول، وعن طريق الخوارزميات ومتواليات المشاركة المذهلة يتم استنساخ الآراء المطلوبة بشكل مذهل لتغرق الحائط الافتراضي وتصنع واقعا بديلا لا ينتمي إلى الواقع الحقيقي إلا في شكله الفارغ أما المحتوى الجديد فيتحكم فيه أباطرة الخفاء في العالم الرقمي، ولنضرب مثلا عجيبا في عصر الأقمار الصناعية وثورة الاتصالات: هل يعرف أحد منكم عدد الضحايا ولا حقيقة المعلومات في الحرب الأوكرانية؟
روسيا تتحدث عن أقل من 1400 قتيل في صفوفها بينما أوكرانيا تقول إنها قتلت 30 ألفا وتتتضارب أرقام مسؤولي الحرب في دول الناتو لكنها تدور في متويط من 12 إلى 15 ألف قتيل روسي؟
بالطبع نحن كمتابعين ليس لدينا رقم، لكن معظمنا يميل إلى تصديق ومشاركة الرقم الذي يتماشى مع العاطفة التي صنعت بها القوى الخفية أفكاره وانحيازاته، حتى كتاب السياسة والباحثون صاروا يفكرون بهذه العاطفة المصنوعة، يميلون إلى ترديد الأمنيات الداخلية التي تم غرسها في نفوسهم ولا يرغبون في حقيقة قد تتصادم مع هذه الأمنيات، لقد تحولت الأيديولوجيا القديمة من حالة عقائدية إلى “إعجاب تسويقي شبيه بتأثير الإعلانات وسلوك التشجيع المتعصب في مدرجات كرة القدم، وهو سلوك يتغذى على الهوس الجماعي ويحتاج إلى شحن مستمر، حتى أن الدول والنظام العالمي الذي كان يكافح اشكال الحرب غير النظامية، صار يجاهر اليوم بما يسميه “فيالق المقاتلين من أجل الحرية”، وهي شركات أو ميليشيات خارج إطار الدول، في الغالب كان يتم تصنيفها تحت الأفعال الإرهابية، لكن نظرة المصلحة والتعاطف الأيديولوجي قد تدعم وتمول جماعات معينة تحت هذا المسمى المقبول الذي أشار إليه خبير القانون الدولي أنطونيو كاسيسي في أحد كتبه أثناء تحليله الجنائي لوضعية الحرب في سوريا، باعتبارها ساحة لنوع من الحروب الجديدة التي شهدت هذه الظاهرة بكثافة، ثم تكررت في ليبيا وأرمينيا وأخيرا أوكرانيا، وهو ما يوقع الغرب في تناقض كبير يتعلق بدعم تنظيمات قتال تطوعية على غرار “داعش” ولكن تحت مظلة الرضا السياسي والتشجيع الإعلامي الغربي الذي قتل جيفارا من قبل بوصفه “إرهابي وليس مقاتلا من أجل شيءٍ ما!!
(هاشتاج)
أعتذر عن طول المقال، لكن #مثل_الحرب تقتضي الكثير من الإغراق في اللغة والاستشهادات والتعليقات.. اشتركوا وفعلوا الجرس واعملوا لايك، وبالمناسبة فإن الكلمة ترجمة للمصطلح الإنجليزي “لايك وور”.. ما تنسوش اللايك.