اجتاحت روسيا الأراضي الأوكرانية شرقا فزادت الأسعار في مصر. رفع البنك المركزي الأمريكي سعر الفائدة غربا فانخفض سعر الجنيه المصري، وعندما تنخفض عملة دولة ما، يرتفع سعر كل شيء فيها وتنخفض قيمة كل شيء: وفي مقدمتهم المواطن. فمرحبا بكم في العالم الرأسمالي السعيد: حيث “القوي محدش بياكل عشاه، والفقير ربنا يتولاه”.
بعد الضربة القاسمة التي تلقاها الشعب عام 1967، وقرابة 7 سنوات من توابع تلك الضربة، تلقى الشعب ضربة اقتصادية أخرى، لم يكن مستعدا ولا مؤهلا لها فلم يفق منها حتى هذه الآن. قرر الرئيس السادات فتح أبواب البلاد أمام التجارة العالمية، فيما عرف بالانفتاح الاقتصادي، وعلى الرغم من وجود دوافع ومبررات وجمهور عريض لسياسة السوق المفتوح والرأسمالية العالمية، إلا أن كثيرا من هؤلاء صدم بقرارات السادات.. وكان أشهرهم حينها أحد المقربين منه، وهو الكاتب والصحفي الكبير أحمد بهاء الدين الذي كتب مقاله الشهير في صدر يومية الأهرام: “الانفتاح ليس سداح مداح”.
لم ينتظر الرئيس الراحل، أنور السادات، كثيرا بعد وقف أعمال القتال لحرب 1973 على الجبهة ليقوم بخطوته المتهورة للتحول نحو سياسة السوق المفتوح، وفي يونيو التالي مباشرة صدر القانون رقم ٤٣ لسنة ١٩٧٤ والذي قضى بفتح باب الاقتصاد المصري لرأس المال العربي والأجنبي في شكل استثمار مُباشر، وهو تحول سريع وغير محسوب العواقب لاقتصاد دولة كانت لا تزال في طور البناء.
يرى أنصار التوجه الاقتصادي الليبرالي الحر وسياسة السوق المفتوحة بأن المنافسة الحرة ستخلق توازنا وتفتح آفاقا للتطور والابتكار والذي يستلزم تهميشا لدور الدولة ومؤسساتها في العملية والنشاط الاقتصادي، إلا أن عند تطبيق هذه النظريات على الحالة المصرية لم ينتج سوى خلل شديد في بنية الاقتصاد والمعيشة.
فعندما قرر السادات التحول نحو سياسة السوق المفتوحة كانت مصر لم تزل في بداية نهضتها الاقتصادية فضلا عن إنها كانت في بداية إنشاء الدولة الحديثة بالأساس ولم يمض على استقلالها سوى عقدين فقط دخلت خلالها ثلاثة حروب على أرضها، وكل هذا يجعل فتح الأسواق المصرية أمام العالم تدميرا للاقتصاد والصناعة والنهضة المصرية، فنحن لم نكن نمتلك من الخبرة والتكنولوجيا التي تؤهلنا لهذه المنافسة الشرسة مع العالم. كمن وضع عدّاء محترف في سباق أمام طفل لا يزال يتعلم المشي متحججا بأنها منافسة مفتوحة لمن يستحق.
وقد أدت تلك السياسات لاحقا لانتفاضة يناير عام 1977، حيث أرادت الدولة من المواطنين مواجهة الأسعار العالمية للسلع والخدمات دون تعليم أو خبرة أو دخل يماثل ذلك العالم الذي وضعوا في مواجهته.
وفي نفس العام سمح السادات بعودة البطاقات الاستيرادية للقطاع الخاص، ليفقد الجنيه نصف قيمته مباشرة ويصبح الدولار بقيمة 70 قرش بعد أن ظل منذ عام 1949 يدور في حدود 35 إلى 40 قرش. وعلى الجانب الآخر فقد استفاد البعض من سياسة الانفتاح تلك، وهم أولئك الذين استطاعوا الحصول على امتيازات وصفقات من الخارج فيما عرف بـ”بزنس التوكيلات” والذين تضخمت ثرواتهم بسرعة البرق، بالإضافة إلى الاستدانة الخارجية لتوفير العملة الصعبة لتلك الواردات، التي كان أغلبها سلع استهلاكية وكمالية وترفيهية، وهو ما عرف بديون نادي باريس.
وبعد رحيل السادات، وخلال 30 عاما من عمر نظام حسني مبارك، استمر الجنيه في التدهور والانخفاض آخذا معه الغالبية العظمى من المصريين في مقابل تضخم أكبر لثروات الشريحة الأعلى في المجتمع الذين نجحوا في الاستئثار بالثروة والسلطة معا بشكل أعمق. وبعد 70 قرشا للدولار مع توليه الرئاسة عام 1981 تحرك إلى 87 قرشا عام 1989 في بداية ما سمي بعصر “الإصلاح الاقتصادي” الذي مثل شرارة الانطلاق لعملية تدهور وتراجع لم تتوقف إلى الآن فتجاوز الدولار حاجز الجنيه لأول مرة في التاريخ عام 1990 ويظل في عمليات قفز متتالية وصلت في نهاية ذلك العام إلى 1.5 جنيه للدولار، والعام الذي تلاه إلى 3.14 جنيهات. وفي عام 2003 جاء قرار التعويم ليهبط بقيمة الجنيه ويرتفع سعر الدولار من 4 جنيهات إلى 6.28 جنيهات، ثم تراجع قليلا إلى سعر5.9 جنيهات مع سقوط نظام مبارك عام 2011.
مع بداية تولي النظام الحالي حكم البلاد عام 2014، كان سعر الدولار قد وصل إلى حدود 7 جنيهات، وقد اختار النظام منذ يومه الأول انتهاج سياسة ترك المواطنين في عراء الأسعار العالمية، ليرتفع سعر الجنيه مرات ومرات من 7 جنيهات إلى 8.88 جنيهات في مارس 2016 قبل أن تتم عملية تغريق الجنيه عند تعويمه ليرتفع سعر الدولار إلى قرابة 19 جنيه وينخفض تدريجيا إلى حدود 15.7 جنيه قبل أن يقفز ثانية مؤخرا.
بالتحول نحو سياسة السوق المفتوحة مع بداية عصر الانفتاح الاقتصادي على يد الرئيس الراحل أنور السادات وحتى يومنا هذا وهناك عمليات ممنهجة للظلم الاجتماعي وسلب الثروات الوطنية المصرية وعلى رأسها قوة العمل تحت ستار من الكذب والتضليل، فعلى سبيل المثال فإن الدولة تحاسب المواطنين على الوقود بالسعر العالمي المماثل لما في ألمانيا على سبيل المثال، في الوقت الذي يبلغ الحد الأدنى لساعة العمل للعامل المصري حوالي 0.65 من الدولار مقابل 9.5 دولار لساعة العمل في ألمانيا، بالإضافة إلى الفروق الخيالية في الخدمات المقدمة للاثنين من جودة تعليم ورعاية صحية وسكن اجتماعي وغيرها.
قاد الرئيس الراحل أنور السادات انقلابًا اقتصاديا على دولة يوليو التي انتهجت سياسات اشتراكية وإجراءات حمائية للمواطنين وللاقتصاد والإنتاج الوطني، إلا أن أزمة المصريين الحقيقية والجوهرية تجاه العصرين والسياستين تكمن فيما رسخه نظام يوليو من قواعد للسياسة والحكم سحبت من يد الشعب آليات الاختيار والتغيير. ففي الوقت الذي تخفض فيه الحكومة أموال الدعم المقدم للمواطنين لمواجهة الأزمات والغلاء ومحاولة إلغائه تماما، يسلب منهم حقوق تحديد أولويات إنفاق هذه الأموال أو السؤال عن أوجه الانفاق البديلة أو الرقابة عليها، وذلك تارة بالقمع وأخرى بالتضليل الإعلامي الذي يصرخ فيهم بعدالة سعر السلع في مصر مقارنة بأسعارها عالميا، لكنه بالتأكيد لن يتحدث عن سعر ساعة عمل المواطن ولا ترتيب التعليم المقدم له في التصنيفات العالمية ولا الصحة ولا غيرها.