على طول سواحل مصر الشمالية تظهر مدن وقريى مجاورة للمواني البحرية حفرت اسمها بحروف من ذهب تميزت في صناعة السفن والمراكب البحرية متعددة الأغراض.
ووسط الزحام والتطور التكنولوجي الرهيب في المجال الصنيع البحري. نافست هذه القلاع الصناعية بالعمل الحرفي المتقن واستطاعت إحداث علامة في المجال وغزت السفن المصنعة مصريا العديد من الدول الإقليمية والعالمية.
يعود تاريخ صناعة وبناء السفن في مصر إلي فترة الستينيات حيث ازدهرت بفعل حركة الصيد البحري والحاجة إلى مراكب الصيد. وشيئا فشيئا تطورت الصنعة وتحولت إلى ترسانة بحرية بكل محافظة. في رشيد البحيرة والأنفوشي بالإسكندرية وعزبة البرج بدمياط والبرلس وبرج مغيزل بكفر الشيخ. إضافة إلى ترسانة بورسعيد والسويس.
من العالمية إلى التراجع. رحلة معاناة تمر بها هذه المهنة الرائدة في مصر منذ ثورة 25 يناير. حيث واجهت مشكلات عدة بفعل اضطراب الحالة الاقتصادية. وتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار. ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الخام أضعافا مضاعفة. وهو ما جعل صناعة السفن المصرية مرتفعة التكاليف عالميا بالنسبة للمصنّع الأجنبي الذي جذبته أسواق أخرى أقل تكلفة كالسوق التركية. فيما تراجع حجم الإنتاج المصري لأكثر من 90%.
الانعكاسات الاقتصادية ليست السبب الوحيد في تراجع صناعة السفن في مصر. فتراجع النشاط السياحي لفترات طويلة وآثار كورونا وحالات المطاردة المستمرة وإزالة الورش بشكل متكرر من وزارة الموارد المائية. فضلا عن ارتفاع قيمة الإيجار من العوامل المؤثرة في زيادة الركود للحد التي جعلتها مهددة بالتوقف والانقراض لتفقد الدولة أحد موارد العملة الأجنبية.
رحلة التصنيع
تبدأ رحلة تصنيع السفن بالتصميم ثم قطع العيدان والألواح. وتشكيلها ثم اللحام والتجميع ثم تشكيل وقطع المواسير. يليها تركيب المحركات الرئيسية ثم المحركات المساعدة. يتبعها تركيب الأجهزة والمعدات المساعدة وتركيب معدات البدن وغرف المحركات ثم التشطيب والدهانات والبوية. ثم مرحلة إنزال السفن للماء للتجارب والاختبارات قبل التسليم.
عزبة البرج
مدينة ساحلية مطلة على ساحل البحر المتوسط تبهرك طبيعتها الساحرة. تحكي تفاصيل حياتهم اليومية. وصفات المهن التي يعملون بها. وجوه مرسومة على جدران المنازل وفي جداريات بالشوارع. شباك مشدودة ومراكب مصطفة ورجال عائدون من البحر. وأطفال تنتظر على الشط، ونساء يعملن في المنازل بكل جد لتعويض غياب الأب. إنها مدينة برج عزبة البرج بمحافظة دمياط إحدى قلاع تصنيع السفن البحرية.
يربو عدد سكانها على 100 ألف نسمة تقريبا. وهي أكبر المدن المصرية في صناعة وتصليح السفن. وتضم ثلثى أسطول الصيد المصرى بالبحر المتوسط. مساحتها خمسة أفدنة وقد نالت شهرة عالمية في مجال تصنيع السفن.
يقول حسام خليل -صاحب أكبر ورشة لتصنيع السفن بمدينة عزبة البرج: نعمل في صناعة اليخوت ومراكب الصيد وناقلات الوقود والماء. التي نقوم بتصديرها إلى عدد كبير من دول البحر المتوسط مثل اليونان وقبرص وإيطاليا والجزائر وتونس والمغرب وليبيا. وبعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات والكويت. فضلا عن والسودان. ووصلنا حالياً للتصدير لبعض الدول العريقة في هذا الشأن مثل الهند وسيرلانكا.
وتتراوح فترة تصنيع السفن وفق حسام- من 6 أشهر حتى سنة كاملة. ويتراوح سعرها حسب حجمها. وتبدأ من 400 ألف جنيه لتصل إلى 4 ملايين وأكثر. بينما يصل سعر اليخت فىي بعض الأحوال إلى 20 مليون جنيه.
وقال: منذ ثورة 25 يناير وبسبب عدم ثبات أسعار المواد الخام تأثر المصنعون والمنتجون في مجال صناعة الأخشاب. وتم تصفية ورش كثيرة وتراجع حجم الإنتاج المصري في صناعة السفن إلى 90%. واتجه المصنعون الأجانب إلى أسواق أخري اقل تكلفة مثل تركيا. مشيرا إلى أنه كان يُنتج سفينة واثنتين كل عام لكن حاليا كل ثلاثة أو أربع سنين لما تخرج سفينة.
مدينة رشيد
تنتشر حولها عشرات الورش التي تجمع آلاف الأيدي العاملة ومدرسة فنية في مجال تصنيع وبناء السفن لتدريب وتخريج العمالة الفنية الماهرة. وتصدر البحارة المصرية لكل دول العالم.
حسن لحمة من أقدم مصنعي السفن بمدينة رشيد يروي: أعمل بهذه الورش منذ 30 عاما. ورثتها أبا عن جد. كانت الورش تقوم بتصنيع الفلايك الصغيرة والمراكب ذات المجاديف. حتى تطورت مع الأيام ووصل إنتاجها لتصنيع السفن السياحية وناقلات البترول والبضائع الضخمة. فيما قال إن أكبر مشكلات أصحاب الورش هي المطاردات اليومية لهيئة الموارد المائية لهم وإزالة الورش. وذلك لتحويل المنطقة لمحمية طبيعية. لكن الموضوع غامض -حسب وصفه- ولا يعلمون عنه شيئا.
وقال “لحمة” لـ”مصر 360″ إنه تم إزالة ورش الطوب المحيطة كلها ونقلها إلى مدينة إدكو. وينتظر الدور عليه رغم عدم وجود بديل. حيث تم تخصيص جزء بين مدينتي إدكو ورشيد لنقل ورش السفن إليها. لكنها تتعرض للتآكل ولا تصلح فتم وقف القرار. وحتى الآن يتم البحث عن بديل ناحية محافظة كفر الشيخ في المدينة الصناعية على الطريق الدولي الساحلي.
الجودة والسلامة
وذكر “لحمة” أن 50% من شغل ورش التصنيع برشيد بدائي يدوي يعتمد على الخبرة المتوارثة في مجال التصنيع. إنما شغل “الكلاسات”الذي تتمسك فيه الدولة بالتزام معايير الجودة والسلامة فيعتمد على خبرات المكاتب الاستشارية الهندسية المتخصصة. حيث يتم تقديم طلب في السلاح البحري ليكون هناك إشراف رسمي خاص في عملية تصنيع المراكب السياحية ونقل البضائع والبترول. حيث يتم استخلاص الرخصة أولا ثم التصنيع.
توثيق عقود البيع
وأوضح “لحمة” انه يتم توثيق عقود التصنيع والشراء للأجانب في السفارات التابعة لهم. ثم استخلاص باقي الأوراق من الجمارك والجوازات التي تقوم بتقدير قيمة الجمارك التي يقوم بدفعها. و تستفيد العمالة المصرية من المستوردين الذين يحتاجون إلى فني صيانة فيخرج على كل سفينة عامل واثنان مع صاحب المركب للعمل عليها بشكل موثق ورسمي. ما يسهم في إيجاد فرص عمل جيدة لهم.
دعم مادي
وطالب “لحمة” بتدخل الدولة ودعم المواد الخام حفاظا على مهنة تاريخية توفر عملة صعبة للبلد. كما تفعل بعض الدول العاملة في هذا المجال خاصة مع المصنعين الملتزمين بستديد الضرائب.
يقول محمد المعداوي: تسلمنا هذه الورش وهى عبارة عن برك مياه. فردمناها وصرفنا عليها مبالغ طائلة حتى أصبحت تصلح للعمل. لكن وزارة الموارد المائية ترفض ترخيصها بشكل رسمي وتكتفي بإصدار مزاولة مهنة. وتقوم بإعادة تقييم القيمة الإيجارية ورفعها من عام إلى آخر حتى وصل سعر المتر إلى 80 جنيها في العام. مبينا أن حالة المطاردة والإزالة التي يتعرضون لها تسببت في عزوف المستوردين الأجانب عن ورشهم وأعطت انطباعا سيئا عنهم للعملاء بأنهم معرضون للطرد منها في أي لحظة. متسائلا: “هل الدولة تريد القضاء على صناعة تسهم فى تنمية الاقتصاد المصري؟”.
وقال إن السبب الذي ترفض من أجله وزارة الموارد المائية والري الترخيص هو أن هذه الأراضي “طرح نهر” لا يجوز التعدي عليها. وأوضح أن جميعها تقع خلف قناطر “إدفينا” بعد حدود المياه العذبة في النيل.
ووفقا للمعداوي تبلغ مساحة المنطقة 7 كيلومترات مربعة: “جميعها ورش عاملة في مجال تصنيع السفن وصيانتها ولحام وكهربائي ودهانات وحدادين وزجاج سباكة كل التخصصات”. مضيفا: وزارة الري قامت برفع الكثير من الدعاوى القضائية ضد أصحاب تلك الورش وحصلت على أحكام ونفذت إزالات على بعض الورش. وهناك عدد آخر مهدد بالطرد في أي وقت بسبب تلك الدعاوى. رغم أن تلك الأرض مخصصة لبناء السفن منذ ستينيات القرن الماضي.
كفر الشيخ
تتميز صناعة السفن في محافظة كفر الشيخ بتنوع مراكب الصيد. منها “الفلوكة” التي تعمل بالشراع و”السمبك” -زورق صغير لشخص واحد يعمل به منفردًا- والفلايك تستخدم فى نصب شبك الترقيد أو شبك اللفة والشورى. والمركب الكبيرة والشراع المثلث. وهناك مراكب ذات ساريتين وتستخدم كشاحنات لنقل الأسماك والبوص الذي يستخدم في كثير من الصناعات.
وتضم المحافظة 20 ورشة تعمل في صناعة وإصلاح المراكب والسفن. منها مدينة برج البرلس وقرية برج مغيزل والجزيرة الخضراء وأبو خشبه والسكري سواء صناعة أو إصلاحاً.
محمد عضمة -شيخ الصيادين وصاحب ورشة تصنيع بقرية برج مغيزل- يرى أن المهنة جارت على أصحابها: “عمليات التصنيع قلت الثلثين على الأقل. بسبب تراجع مهنة الصيد البحري الحرة وقلة النشاط البحري كالسياحة والنقل والتجارة وقلة العائد المادي منه”.
وأشار إلى ارتفاع أجرة يومية الصنايعي التي تصل إلى 250 جنيها يوميا. وارتفاع أسعار المواد الخام. حيث ارتفع سعر طن الحديد لـ27 ألف جنيه وارتفع سعر متر الخشب السويد من 5000 جنيه إلى 12 ألف. وارتفع سعر الكونتر الواحد الذي يضم المعدات والمولدات والمحركات القادمة من الصين من 1000 دولار إلى 12 ألف دولار.
وقال لـ”مصر 360″: كنا نصدر 8 مراكب في السنة قبل يناير. وبدأ التراجع. ودلوقتي بيتم صناعة اثنين خلال السنة في أحسن الأحوال”. مشيرا إلى أن ما يعوقهم هو مطاردة مجلس مدينة البرلس بالمحاضر والغرامات وإزالة التعديات ومضاعفة قيمة الانتفاع.
وأضاف أن صناعة السفن ومراكب الصيد في تراجع لعدم توفر الأخشاب وغلو الأسعار. وعدم تجديد الصيادين مراكبهم لتوقف التراخيص. فلا يوجد إحلال وتجديد للمركب. وهناك عدد كبير من الصيادين تركوا المهنة وسافروا للدول العربية للعمل بها والمحليات غير متعاونة.
المدرسة الفنية
تضم مدينة رشد مدرسة فنية عسكرية لتدريب الطلاب على تصنيع وبناء وصيانة السفن. وتقبل في حدود 100 طالب سنويا بالمدرسة بقسم بناء السفن من الحاصلين على الشهادة الإعدادية بمجموع 235 درجة.
محمد المسلماني -مدير المدرسة- يؤكد أن قسم بناء السفن يشهد إقبالا كبيرا من الطلاب. حيث تؤهل المدرسة خريجيها للعمل بالخارج بعقود موثقة رسميا. حيث تقدم لسوق العمل عمالة مدربة ومؤهلة فنيا. إذ يقضي الطالب خلال فترة الدراسة 4 أيام في الأسبوع بالمنشأة الصناعية ويومين بالمدرسة. وخلال إجازة الصيف يتم تدريبه لمدة 6 أيام.
وأضاف أنها تؤهل أيضا للوصول إلى المعاهد العليا وكلية الهندسة حال حصول الطالب على مجموع كبير. لافتا إلى أن نسبة الدرجات العملي التي يحتاج إليها الطالب للتخرج تبلغ 80%.
وتحتاج السفن المصنعة في مصر عند خروجها للعمل بالدول الأجنبية الموجهة إليها إلى بحارة وعاملين عليها. فيخرجون معها وفقا للمسلماني. ذاكرا أن ورشة المعداوي “سفرت 5 عمال على خمس مراكب جديدة العام الماضي”.
تطوير المدينة
المهندسة عزة أبو شامة -مسؤول حماية البيئة بقناطر إدفينا بمحافظة البحيرة- أوضحت أن منطقة الحرفيين تم إدراجها ضمن تطوير مدينة رشيد. وتم عمل حصر شامل لعدد الورش الموجود بالمنطقة وإرسالها. لكن حتى الآن لم توضح المحافظة إلى أي منطقة سيتم نقلهم وما المستهدف من ذلك.
وقالت لــ”مصر 360″ إن جميع الورش لديها رخص مزاولة نشاط من وزارة الموارد المائية وإن عملية الترخيص للورش تتطلب أن يكون صاحب الورشة مالكا لقطعة الأرض التي يزاول عليها نشاطه. وأن أغلبهم لا يمتلكون الورش لذلك يدفعون عنها حق انتفاع ولا يمكن ترخيصها لهم.
وأوضحت أن هناك أكثر من اقتراح لنقل هذه الورش. حيث تم تخصيص 385 ورشة للحرف ذات الأنشطة الأخرى ومرتبطة بتصنيع السفن. وذلك على مساحة 102 فدان. لنقلهم إلى مدينة إدكو. وتم نقل 5 ورش بالفعل. أما ورش تصنيع السفن فهناك أكثر من مقترح لم يتم حسمها لضرورة توفير بديل ملائم ومشابه للمكان الحالي.
مستقبل صناعة السفن
في دراسة له عن مستقبل صناعة السفن في مصر ذكر الدكتور محمد عبد الفتاح شامة -أستاذ عمارة وبناء السفن بجامعة الإسكندرية وعميدها الأسبق- أن صناعة سفن قوية يتطلب وجود نقل بحري قوي وموان تقدم خدمات عديدة ومتميزة وأنشطة بحرية متنوعة. وأكد أن تطويرها مرتبط باستراتيجيات تنموية واقتصادية واجتماعية تفوق القدرات العلمية المتاحة حاليا. منبها في دراسته إلى أن غياب صناعة السفن سيوثر سلبا على الصناعات المغذية لها.
وقالت الدراسة إن 80% من مكونات السفن يتم استيرادها من الخارج. حيث لا توجد في مصر صناعة محركات بحرية أو الصناعات المغذية لها. والتكميلية محدودة للغاية. فلا يوجد لدينا صناعة تخريد السفن بمعنى تحويلها من بضائع إلى نقل حاويات. حيث يحتاج ذلك وفقا للدراسة إلى قدرات تصميمية عالية وبناء منشآت معدنية.
ركائز تصنيع السفن
ذكرت الدراسة عددا من الركائز لا بد من توافرها لتطوير صناعة السفن. منها البعد الاقتصادي والتكنولوجي والتقني الهندسي. فضلا عن البيئي. وذلك للحفاظ على البيئة من الملوثات. بالإضافة إلى وفرة العمالة المدربة.
وعن القدرات التنافسية قالت الدراسة إن استمرار صناعة السفن محليا وإقليميا ودوليا تحتاج إلى تعزيز القدرات التنافسية. منها وضع سعر مناسب ومنافس للأسواق المناظرة. وجودة عالية واختيار الوقت المناسب بتقليل الفاقد في ساعات العمل والجهد المبذول. وخامات الإنتاج في التعاقدات وخدمة جيدة فيما بعد البيع والتطوير والتنمية المستمرة للترسانة.
التخطيط
أشارت الدراسة أيضا إلى أهمية التخطيط ودراسة السوق واحتياجاتها المحلية والإقليمية والعالمية للتوعية بنوعية السفن الجديدة وأحجامها المطلوبة. وكذلك دعم عمليات الصيانة والإصلاح وما يمكن تقديمه من إمكانيات واستغلال الموقع الجغرافي لمصر.
وأشارت الدراسة إلى أهمية الربط بين قسم عمارة بناء السفن وترسانة السفن. بما يخدم هذه الصناعة بالأبحاث وتوجيهها لخدمة هذه الصناعة وتوجيه مشروعات الطلاب للعمل على النواقص. وقالت إن التكامل بين بناء السفن وقسم الهندسة البحرية ضروري وأساسي لتحقيق مردود كبير على المدى الطويل في الارتقاء بالصناعة وتطوير وتعزيز قدراتها.