مع اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا، افترض العالم أن بكين وموسكو سوف تقومان بتكوين جبهة موحدة ضد الغرب. بدا ذلك قبل أقل من أسبوعين من انطلاق العملية العسكرية الروسية. حيث استضاف الرئيس الصيني شي جين بينج نظيره الروسي فلاديمير بوتين في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. ترك هذا انطباعا في الغرب بظهور محور جديد في مواجهة الولايات المتحدة.

على عكس الادعاءات القائلة بأن الرئيس شي طالب صديقه العزيز بوتين بتأجيل الغزو حتى نهاية الألعاب الأولمبية. كانت هناك تقديرات متزايدة بأن الصين لم تكن تعرف النوايا الروسية، على الأقل ليست الكاملة. في الواقع، فوجئت بكين بحجم العدوان الروسي الذي وضعها في موقف إشكالي، حيث اعتبرها الغرب شريكة في “محور الشر”، أو -على الأقل- مسؤولة عن استمرار هذا المحور. لذلك، يبدو أنها تعيد التفكير في موقعها على الساحة الجيوسياسية.

سريعًا، بدا أن بكين كانت مخطئة في تقييمها للوضع بعد اندلاع الحرب. بينما كانت المدافع تهدر، وجدت الصين نفسها عالقة في صراعها الخاص حول وضعها كقوة عظمى مسؤولة. واستمرار العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة. والأهم من ذلك، صورة ومكانة الحزب الشيوعي الحاكم بين الجمهور الصيني.

كان الرئيسان الصيني والروسي قد وقعا -منذ وقت ليس ببعيد- على صفقات بقيمة 117.5 مليار دولار لتوريد الغاز والنفط لمدة 25 عامًا وأكثر. بينما أعلنا عن “شراكة بلا حدود”. يعني هذا في جوهره معارضة الولايات المتحدة. لكن، من ناحية أخرى، انتهكت روسيا بشكل صارخ المبادئ الصينية باحترام السيادة والسلامة الإقليمية. وكذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى.

اقرأ أيضا: جبهة آسيا.. هل كشفت حرب أوكرانيا أزمة مصالح عالمية؟ (1-3)

الأزمة الصينية

إذا انحازت بكين علانية إلى الغرب ضد روسيا، فستجد ذلك صعبًا لشرح التغيير في سياستها العدائية ضد الولايات المتحدة. في المقابل، فإن دعم روسيا قد يهدد علاقات بكين المهمة مع أوروبا والولايات المتحدة. فضلاً عن الصورة التي تسعى الصين إلى ترسيخها باعتبارها “قوة مسؤولة تعزز السلام العالمي”.

مثلما حدث مع مواطني الشرق الأوسط. وجدت بكين ستة آلاف مواطن صيني -كثير منهم من الطلاب- حوصروا في أوكرانيا عندما فشلت حكومتهم في إخبارهم بالمغادرة في الوقت المناسب. بعد يوم واحد فقط من الغزو، صدرت تعليمات للمواطنين المحاصرين بالمغادرة، وطُلب منهم رفع العلم الصيني على سياراتهم على أمل أن يساعدهم ذلك على النجاة من قصف قوافل اللاجئين.

للأسف، سرعان ما وجد الصينيون الفارون أن العلم الأحمر لم يفشل في المساعدة فحسب. بل كشفهم أيضًا كمواطنين من دولة تدعم العدو. زاد الخوف والارتباك من الحرب مخاوف الأوكرانيين الذين لم يخفوا استياءهم من تصريحات بكين. حتى بعد الخروج، لم تنته معاناة الصينيين المحاصرين في أوكرانيا عندما تمكنوا من عبور الحدود، حيث وجدوا أن الصين قامت بتفعيل رحلات إنقاذ، ولكن بثمن باهظ.

مع الوقت، وصلت مخاوف ومعاناة وغضب هؤلاء اللاجئين الصينيين إلى وسائل التواصل الاجتماعي في الصين. تساءل البعض كيف يمكن لبلدهم إرسال ملايين الدولارات من المساعدات الإنسانية إلى بلدان أخرى وعدم الاهتمام بمواطنيها في أوقات الأزمات. وانتقد آخرون صراحةً حكومة بكين، التي فشلت في نصح مواطنيها بالمغادرة قبل بدء الحرب. في الوقت الحالي، ينجح الصينيون في السيطرة على هذه الأصوات، لكن الحادث أصاب الطبقة الضعيفة للحزب الشيوعي بقلق شديد بشأن الاحتجاجات العامة المحلية.

ماذا ستفعل الصين على المدى الطويل؟

في تحليلها المنشور بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي. أشارت غالية لافي إلى أن حكومة بكين في الوقت الحالي “تراقب عن كثب وتستخلص النتائج”. وأن الدرس الأول الذي خرجت به هو أنه لا يمكن الاعتماد على روسيا وبوتين اللذين جرَّا الصين إلى هذا المستنقع. الدرس الثاني هو أن الغرب متحد وقوي بالتأكيد أكثر مما كان يعتقد. تقول: إذا كانت لدى الرئيس شي أي شكوك حول هذا الأمر، فإن الرئيس بايدن -في محادثة هاتفية مع نظيره الصيني- حدد كيف أن هناك سيناريوهات معينة لدى الغرب، سوف تتخذ أيضا خطوات ضد الصين.

تلفت غالية، وهي زميلة أبحاث ومنسقة برنامج “إسرائيل والصين” بالمعهد. إلى أن فكرة المحور الصيني الروسي ضد الولايات المتحدة “لم تعد جذابة للغاية بالنسبة لبكين”.

تقول: السؤال الذي يطرح نفسه، ماذا ستفعل الصين على المدى الطويل؟ بينما يصعب التنبؤ بهذا، فإن سلوك الصين في الماضي مفيد. في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، تدهورت العلاقات بين الصين والاتحاد السوفيتي بسبب الخلافات الأيديولوجية، مما دفع ماو تسي تونج إلى تغيير سياسة “الاعتماد على جانب واحد” -التي أقرها مع إنشاء جمهورية الصين الشعبية في عام 1949- لكن قطع العلاقات مع موسكو لم يتسبب في لجوء ماو إلى الولايات المتحدة كبديل، بل دفع ماو إلى التخلي عن هاتين القوتين لصالح خيار ثالث. هو الشرق الأوسط.

اقرأ أيضا: كيف يمكن أن يُجر بوتين وحلف الأطلسي إلى كارثة في أوكرانيا؟

العلاقات الصينية مع الشرق الأوسط

تلفت الباحثة الإسرائيلية، التي تبحث في الدروس المحتملة من الحرب الروسية الأوكرانية للسياسة الخارجية الصينية. وانعكاساتها على الشرق الأوسط. إلى أن الصين اليوم لم تعد “صين ماو” -حسب تعبيرها- كما تغير الشرق الأوسط. ولكن من نواحٍ معينة، توفر الظروف الحالية في المنطقة للصين قاعدة أكثر ملاءمة للعمل مما كانت عليه في الماضي. فهي قوة اقتصادية مع استثمارات عديدة في المنطقة، وحجم تجاري يتزايد باطراد.

تقول: توفر الصين لدول الشرق الأوسط فرصة للمشاركة في مبادرة الحزام والطريق العالمية (BRI) ذات الرؤية المستقبلية. وبالنسبة لبعض هذه البلدان، فإن نموذج بكين الحاكم جذاب أيضًا. بل إن بعض دول الشرق الأوسط تعتبر الصين بديلاً -ولو جزئيًا- عن الولايات المتحدة، التي توبخهم بشأن قضايا حقوق الإنسان، وتقدم باستمرار مطالب جديدة في هذا الصدد.

على سبيل المثال، تم توقيع صفقات لشبكات 5G من الشركة الصينية Huawei مع المملكة العربية السعودية والإمارات. أيضا، تعمل الموانئ التي تسيطر عليها الصين أو هي قيد الإنشاء في كلا الحليفين للولايات المتحدة، اللذان تلقيا أيضًا العديد من الاستثمارات الصينية في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتقنيات المتقدمة.

كذلك، رفضت السعودية والإمارات -مرتين- طلبًا مباشرًا من الرئيس بايدن لزيادة إنتاجهما النفطي من أجل ممارسة المزيد من الضغط على بوتين. هكذا يمكن تشجيع الصين -التي تريد على أي حال تعزيز علاقاتها مع الشرق الأوسط- على متابعة هذا الهدف بكثافة أكبر باتباع الأفكار والدروس التي تستمدها من الحرب في أوكرانيا.

في ظل هذه الخلفية، يعتقد المسؤولون الصينيون أن الاعتماد المتبادل بين الصين والشرق الأوسط يزداد قوة وسيستمر في النمو. وأن الصين لديها فرصة غير مسبوقة في المنطقة. علاوة على ذلك، فإنهم يشعرون أن دول المنطقة “تتجه نحو الشرق” مع تراجع النفوذ الأمريكي. ما يعزز هذه الحجة حقيقة أن مطالب الولايات المتحدة بالحد من الاستثمارات الصينية لا تلقى آذاناً صاغية في الشرق الأوسط.