منذ صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السلطة في عام 2000. حاولت الولايات المتحدة بشكل روتيني إعادة العلاقات مع روسيا. في وقت أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى تحول صناع القرار نحو القضايا الجديدة في الشرق الأوسط. لم يعد جيل كامل من الأمريكيين يفكر في روسيا. كان يُنظر إليها كعدو سابق يمكن دمجه -حتى وإن كان بشكل غير مريح- في عالم تقوده الولايات المتحدة.
مع ذلك، سرعان ما ركزت رواية السياسة الخارجية للكرملين على تجاهل أمريكا لمصالحها. والحاجة إلى تحقيق نظام دولي متعدد الأقطاب خالٍ من الهيمنة الأمريكية. وقد ظل بوتين واضحًا بشأن هذه الأهداف منذ صعوده إلى الكرملين. وكان يرى أن روسيا بحاجة إلى التعافي من حالتها الضعيفة.
يعكس تدرج نبرة بوتين هذا التطور في العمل على إعادة تأسيس روسيا كقوة عالمية، وتحقيق نظام عالمي جديد يجعل الكرملين على قدم المساواة -وليس تابعًا- للولايات المتحدة. في عام 2000، لم يكن يرى الأسباب التي من شأنها أن تمنع التعاون مع الناتو “بشرط معاملة روسيا كشريك متساوٍ مع الغرب”. وبحلول عام 2007، كان يهاجم -علنًا- النظام العالمي أحادي القطب. قال “إنه عالم فيه سيد واحد، وسيادة واحدة. وهذا ضار ليس فقط لجميع من هم داخل هذا النظام، ولكن أيضًا للسيادة نفسها لأنها تدمر نفسها من الداخل
في البحث الصادر عن مركز دراسات الحرب، بعنوان: “كيف وصلنا إلى هنا مع روسيا: نظرة الكرملين للعالم”. تناولت ناتاليا بوجايوفا، مديرة التطوير وزميلة أبحاث ملف روسيا وأوكرانيا في المعهد. تطور نظرة الرئيس الروسي للعالم، والمرتبطة بسياسة روسيا الخارجية. بعد عقدين من الحكم كرّسوا هذه الرؤية.
اقرأ أيضًا: خطط روسيا والصين للتملص من القوة الاقتصادية للولايات المتحدة: بحثا عن بديل الدولار
نظرة بوتين للعالم
كان لحكم بوتين في السلطة -الذي دام 22 عامًا- تأثير تراكمي على نظرته للعالم. نما بالتوازي مع قبضته القوية على السلطة. وتصوره المتنامي بأنه لا يواجه سوى انتكاسة دولية محدودة. كذلك، نما استيائه الشخصي من الإهانات الجيوسياسية، وعاد إلى حوار الأمن القومي الروسي. وعلى عكس سابقاتها، ليس لدى روسيا بوتين آلة دولة، أو نخبة قادرة على موازنة غرائزه ورواياته.
كان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي عادة يعمل كقوة موازنة لحكام الاتحاد السوفيتي باستثناء عهد جوزيف ستالين. وقتها، امتلكت الإمبراطورية السوفيتية قاعدة من النخبة المؤثرة التي كثيراً ما صاغت أفكار السياسة. مع استثناءات ملحوظة، مثل بطرس الأكبر، وإيفان الرهيب. على العكس، تبدو دائرة مستشاري بوتين الحميمة صغيرة نسبيًا، مع مجموعة من قادة الخدمات العسكرية والأمنية الذين صعدوا معه لمدة عشرين عامًا.
وخلال العشرين سنة الماضية. تكررت الروايات عن محاولات الغرب لتدمير المجد السوفيتي. وتم تضخيمها لمدة عقدين من الزمن. ترى بوجابوفا أنه حتى لو اختلفت قناعات بوتين الداخلية عن خطابه، فقد شبع جيلًا كاملاً نفسية وطنية كاملة. صار لديه شعور بالظلم ضد الغرب. ومن ثم، فإن هذه الروايات ستوجه المشهد العام لسياسة الكرملين الخارجية للسنوات القادمة.
منذ السنوات الأولى
مع استقالة الرئيس الأول لروسيا الاتحادية بوريس يلتسين، والذي عين رئيس الوزراء فلاديمير بوتين، كرئيس بالوكالة في 31 ديسمبر/تشرين الأول 1999. كانت روسيا لا تزال تتعافى من انهيارها المالي في عام 1998. وكان رجال الأعمال من القلة الاقتصادية يؤثرون بنشاط على العمليات السياسية في الكرملين. وقتها، كان بوتين يقود حملة ثانية في الشيشان بدأت في عام 1999. وواصلت روسيا المعاناة من الهجمات الإرهابية المميتة. بما في ذلك أزمة الرهائن الكبرى في موسكو في عام 2002 والتي أسفرت عن مقتل 130 شخصًا.
وقتها، كان بوتين قد شكّل بالفعل إحدى رواياته الرئيسية في السياسة الخارجية. وهي نقد الهيمنة الأمريكية العالمية وتجاهلها لروسيا بعد الحرب الباردة. ظهر هذا قبل صعوده إلى السلطة. في حرب كوسوفو عام 1999، قال بوتين -وكان وقتها مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) – إن “مجموعة من الدول تحاول بنشاط تغيير النظام العالمي الذي تم إنشاؤه بعد الحرب العالمية الثانية. تتم إزالة الأمم المتحدة من عملية حل أحد أكثر الصراعات حدة في أوروبا”.
تقول بوجابوفا: سيستمر بوتين في اتهام من يسمون بـ “المنتصرون في الحرب الباردة “بمحاولة إعادة تشكيل العالم ليناسب احتياجاتهم ومصالحهم طوال فترات حكمه في الكرملين. مع ذلك، ركز بوتين على الشؤون الداخلية خلال سنواته الأولى في منصبه. وكشف عن القليل من العداء للغرب.
تهديدات وجودية
اعتبر بوتين ضعف الدولة واضطرابها الاقتصادي الداخلي تهديدات وجودية لروسيا. كتب بوتين في اليوم السابق لتعيينه في منصب القائم بأعمال الرئيس: “للمرة الأولى خلال المائتين إلى ثلاثمائة عام الماضية. تواجه روسيا خطرًا حقيقيًا يتمثل في الانزلاق إلى المرتبة الثانية وربما الثالثة لدول العالم”.
لذلك، ركز على إعادة بناء الاقتصاد وقوة الحكومة بالإضافة إلى إحكام قبضته على السلطة. أعطى الأولوية لتعزيز تطبيق القانون وأجهزة الأمن، وترويض الأوليجارشية، والقضاء على المعارضين السياسيين، واستعادة السيطرة على جمهورية الشيشان.
مع ذلك، اتبعت علاقة بوتين المبكرة مع الولايات المتحدة -إلى حد كبير المسار- الذي حدده يلتسين. أشار بوتين إلى إمكانية التعاون على قدم المساواة مع الناتو في عام 2000. ودعم مهمة مكافحة الإرهاب الأمريكية ضد القاعدة بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001. ووقع اتفاقية في عام 2002 لإنشاء مجلس الناتو وروسيا. وشدد على السعي لتحقيق الديمقراطية. بل، وأكد أن “روسيا جزء من الثقافة الأوروبية.”
ورغم أنه انتقد الانسحاب الأحادي الجانب للولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية لعام 1972 في عام 2002. لكن بوتين وقع معاهدة ثنائية لتخفيض الهجوم الاستراتيجي في عام 2003 -حلت محلها لاحقًا معاهدة ستارت الجديدة في عام 2011- ليُعيد إلى حد كبير اعتماد مفهوم الأمن القومي لعام 1997 الذي طرحه يلتسين في يناير/تشرين الثاني 2000.
اقرأ أيضا: خبراء روسيا عن الصراع مع الغرب في أوكرانيا: لن تعود العولمة
مصالح روسيا كقوة عظمى
لاحقًا، تبنى بوتين مفهوم السياسة الخارجية الجديد في يونيو/أيار 2000. حيث واصل اتجاه الخطاب الجازم تجاه الاتحاد السوفيتي السابق. ودعا إلى إنشاء “حزام صديق على محيط الحدود الروسية”. كما شدد على الحاجة إلى “تعزيز السيادة الروسية وتحقيق مواقف حازمة في المجتمع الدولي، بما يتفق مع مصالح الاتحاد الروسي كقوة عظمى. مثل أحد أكثر المراكز تأثيرًا في العالم الحديث”.
شهدت سياسة بوتين الخارجية انعطافًا كبيرًا في عامي 2003 و2004. حيث أدت سلسلة من العوامل -الخارجية والمحلية- إلى تسريع طموحات بوتين ومساعيه الخارجية. أصبح أكثر حزماً على المسرح الدولي عندما بدأ في ترسيخ قبضته على السلطة المحلية. وقد أسس في هذه الفترة قبضة قوية على الشؤون الداخلية لروسيا.
سرعان ما سددت روسيا ديونها المستحقة للغرب، ووفت بالتزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي (IMF) بحلول عام 2005. ونادي باريس بحلول عام 2006. كان سداد الديون نقطة فخر شخصي لبوتين أظهر استعادة روسيا واستقلالها. وفي الوقت نفسه، كانت روسيا تستعيد تدريجياً سيطرتها على الشيشان، بعد حملة عسكرية دمرت العاصمة جروزني. ثم أقرت الشيشان دستوراً في عام 2003 منح ظاهرياً حكماً ذاتياً واسع النطاق لجمهورية الشيشان، لكنه حافظ على سيطرة صارمة من الكرملين.
القضاء على ذوي النفوذ
قضى بوتين أيضًا على سماسرة النفوذ المنافسين، أو أخضعهم خلال هذه الفترة. ولا سيما الأوليجارشية ذات التأثير على العملية السياسية. فقد فر بوريس بيريزوفسكي -أحد أباطرة روسيا الأكثر نفوذاً- إلى بريطانيا في عام 2001. وسُجن ميخائيل خودوركوفسكي -وهو بارون نفط قوي ونفوذ آخر- في عام 2003. هكذا، قبل الأوليجارشية المتبقون بشكل عام طلب بوتين بألا يتدخلوا في السياسة.
بعد ذلك، وسّع بوتين من نفوذ الأجهزة الأمنية وعزز سلطة الدولة. وزاد من تركيزه على السلطة بإلغاء الانتخابات المباشرة لحكام المناطق لصالح التعيينات الرئاسية في عام 2004. ثم بدأ جهودًا لإعادة دمج الدول السوفيتية السابقة في شكل من أشكال التجمع السياسي بقيادة روسيا. فضغط على أوكرانيا للانضمام إلى الفضاء الاقتصادي المشترك. وهي سوق متكاملة لدول الاتحاد السوفيتي السابق ستتطور لاحقًا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
دخلت أوكرانيا في الصفقة إلى جانب بيلاروسيا وكازاخستان في 2003. ثم نأت أوكرانيا في وقت لاحق بنفسها عن هذه العملية في عهد الرئيس الأوكراني الموالي للغرب فيكتور يوشينكو. كما مارس الكرملين ضغوطًا مماثلة على جورجيا في عهد الرئيس الجورجي إدوارد شيفرنادزه. وكان شيفرنادزه قد مارس سياسة خارجية أكثر استقلالية، بما في ذلك النية المعلنة للانضمام إلى الناتو، والتي هددت استمرار نفوذ روسيا بوتين.
هجوم بوتين المضاد
الفترة الأخيرة في تحولات موسكو، كانت عندما أعيد انتخاب بوتين كرئيس في عام 2012. حيث واصل قمع الحريات المدنية والاحتجاجات ضد إعادة انتخابه. كان الاقتصاد الروسي يستقر. وتم قبول روسيا في منظمة التجارة العالمية في عام 2011. وصنف البنك الدولي روسيا على أنها دولة ذات دخل مرتفع في عام 2013.
وفي عام 2014، علق الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. مما أدى إلى اندلاع ثورة الميدان الأوروبي. ثم أجبرت سلسلة من الاحتجاجات يانوكوفيتش على الفرار من أوكرانيا. في غضون ذلك، انزلقت الثورة السورية – وهي جزء من الربيع العربي- في الحرب الأهلية. تدخلت روسيا في كلا البلدين. وبدأ الغرب بفرض عقوبات على روسيا بسبب انتهاكاتها للمعايير الدولية. وانهار الروبل الروسي بسبب العقوبات وكذلك انخفاض أسعار النفط العالمية.
سرعان ما واجه بوتين واحدة من أخطر الاحتجاجات المناهضة للنظام خلال فترة توليه منصبه. حيث احتشدت المظاهرات الجماهيرية ضد التلاعب بالانتخابات في الانتخابات التشريعية الروسية لعام 2011. والانتخابات الرئاسية الروسية لعام 2012. احتج الآلاف على تنصيب بوتين لفترة رئاسية ثالثة في ساحة بولوتنايا في موسكو في مايو/أيار 2012. واحتجز الكرملين بدوره مئات المتظاهرين وحاكم العشرات منهم فيما أصبح يعرف بقضية “ساحة بولوتنايا”. وقد استمرت احتجاجات الشوارع لفترة، لكنها تلاشت إلى حد كبير بحلول يوليو/تموز 2013.
خلال الأعوام التي تلت ذلك، وحتى الغزو الروسي لأوكرانيا. تم تسريع أو إضعاف تأكيد بوتين بفعل عوامل مختلفة بمرور الوقت. بما في ذلك ثقته في قبضته المحلية على السلطة، واستقراره الاقتصادي، واعتماده على الغرب. وتصوره لمدى الحرية المتاح للعمل بحرية على المسرح العالمي دون معارضة كبيرة.
اقرأ أيضا: روسيا والناتو.. محددات الأزمة ومستقبل صراع الأقطاب
التعامل مع الغرب
كانت تصرفات الغرب عاملاً -ولكن ليس المحرك الأساسي- في سياسة بوتين الخارجية. حاولت الولايات المتحدة تحسين العلاقات مع روسيا عدة مرات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. مع ذلك، أصبح بوتين أكثر حزمًا خلال إدارة أوباما. حتى مع اتخاذ الولايات المتحدة خطوات قوية لتعويض روسيا، بما في ذلك وقف خطط بناء درع دفاع صاروخي في بولندا.
في الوقت نفسه، تردد الغرب لسنوات في فرض عقوبات على روسيا لانتهاكاتها المتكررة للقوانين والأعراف الدولية. بما في ذلك غزوها لجورجيا وهجماتها الإلكترونية على إستونيا. بدأ الغرب تدريجياً فقط في فرض عقوبات على روسيا بعد الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان مثل وفاة سيرجي ماجنيتسكي. أو عدوان لا جدال فيه مثل احتلال شبه جزيرة القرم. لم يكن ذلك حتى تدخل الكرملين في 2016 في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. التي أصبح معظم الأمريكيين أخيرًا مدركين للتهديد الكامل الذي تشكله روسيا. وبينما ركزت الولايات المتحدة إلى حد كبير في مكان آخر، صعد بوتين موقفه العسكري العالمي. وجعل مشاكله الداخلية على الغرب كبش فداء، واستخدم أسطورة التدخل الأجنبي لتبرير تشديد الرقابة على الروس في بلاده.
لاحظت الباحثة في ملخصها الأخير أن بوتين لم يستخدم مطلقًا خطابًا عدائيًا ضد الصين. والذي يمكن القول إنه يمثل أحد أكبر تحديات الأمن القومي لروسيا. حيث تواصل الصين توسيع نفوذها في الأماكن التي يدعي بوتين أنها تتجاوز “خطوطه الحمراء”. وهي الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا نفسها. ومع ذلك، يواصل بوتين تكييف شعبه للدفاع ضد الناتو.
تقول: لم يغير سلوك الغرب المبادئ الأساسية التي توجه فكر السياسة الخارجية لبوتين. والتي ظلت دون تغيير إلى حد كبير منذ عام 2000. يعتقد أن روسيا قوة عظمى يحق لها أن تتمتع بمجالات نفوذها الخاصة وتستحق أن يُحسب لها حساب في جميع القرارات الرئيسية. ويؤكد أن الانحراف الحقيقي عن القاعدة كان لحظة ضعف روسيا في التسعينيات. وأن روسيا عادت إلى الظهور مرة أخرى في مكانها الصحيح في النظام الدولي.