يرى العديد من المحللون الغربيون أن رد الفعل الغربي على ما أطلقت عليه موسكو “العملية العسكرية الخاصة ” في أوكرانيا. جاء قاسياً بالقدر الذي كانت تحلم به إدارة بايدن. في الواقع، كانت واشنطن مليئة بالضغائن وتنتظر ساكن الكرملين لارتكاب خطأه الكبير ويضع قدمه في أوكرانيا.
انتهزت إدارة بايدن الغزو الروسي لتنفيذ عقوبات قد تكون طويلة الأمد. مثل إيقاف خط “نورد ستريم 2″، الذي حلمت إدارة ترامب بسباته إلى أجل غير مسمى. بعد العديد من التهديدات لكل من روسيا وألمانيا بإغلاق خط الأنابيب الذي تبلغ تكلفته 10 مليارات يورو. الشيء نفسه حدث مع الانفصال الجزئي عن نظام SWIFT المالي الذي يعتمد على الدولار.
كتب المحلل الجيوسياسي الإيطالي إيمانويل. بيتروبون ليُشير إلى أن كافة العقوبات التي فرضها الغرب لم يتم تحديثها. بعبارة أخرى. كل هذه العقوبات تم التهديد بها من فترة طويلة. ربما كان أكبر ما نتج عن فرض عقوبات اقتصادية هو الهروب الجماعي للعلامات التجارية الكبرى من السوق الروسية. حيث خرجت أكثر من 400 علامة تجارية في الأسابيع الثلاثة الأولى من الصراع.
يرى بيتروبون أن روسيا قد يكون لها أسبابها لمثل هذه العملية العسكرية. لكن هذه الأسباب ستكون لها تكاليف سياسية كبيرة. فالشركاء المحتملين منذ فترة طويلة -مثل ألمانيا وفرنسا- لا يمكنهم فعل أي شيء لإحياء طموح “الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي” لفترة طويلة. لذا، من المرجح أن تزداد العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا سوءًا في السنوات القليلة المقبلة، مع استغلال الولايات المتحدة لمناخ الحرب الباردة المتجدد لفصل روسيا عن أوروبا اقتصاديًا وحيويًا وسياسيًا.
اقرأ أيضا: “سويفت”.. كيف تحارب أمريكا وحلفاؤها روسيا دون إطلاق رصاصة واحدة؟
تفكيك الشكل القديم للعولمة
رغم ذلك، يشير المحلل الجيوسياسي إلى أن الغرب لم يفقد كل شيء. يقول: سوف تجد الدبلوماسية طريقة للظهور من جديد عاجلاً أم آجلاً. لأنه إذا كان التاريخ يعلم شيئًا، فإن الجغرافيا مهمة. إن قانون “تذكر من أنت على حدوده” سوف يلزم الاتحاد الأوروبي وروسيا بمحاولة إعادة ضبط جديدة. لكن، الأمر قد يستغرق سنوات -إن لم يكن عقدًا أو أكثر- لبدء عملية تطبيع فعالة.
في الوقت نفسه، ستزداد منافسة القوى العظمى. حيث ستؤثر عدد من المتغيرات على الحالة الصحية للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. أهمها الاقتصاد. حيث أن “الحرب الاقتصادية الشاملة” التي شنها الغرب ضد روسيا “هي دليل يثبت نفسه على أن العولمة القديمة تحتضر وأن نموذجًا جديدًا آخذ في الظهور”. كما يقول.
بدأ تفكيك الشكل القديم للعولمة مع تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة. وخطواته الأولى نحو ما يسمى بـ “فك الارتباط عن الصين”. بينما كشفت جائحة COVID-19الحاجة إلى إعادة التفكير في سلاسل التوريد العالمية. خاصة عندما يتعلق الأمر بإنتاج وتصدير السلع الاستراتيجية، إضافة إلى حادثة جنوح السفينة Ever Given في قناة السويس، التي دفعت العديد من المحللين إلى تأييد تطوير سلاسل التوريد العالمية الجديدة. والتفكير في طرق بديلة أو متعددة.
في الوقت نفسه، بدأت العولمة الإقليمية متعددة السرعات تتشكل. في مثل هذا السياق، من غير المرجح أن يظل الغرب “القلب النابض للاقتصاد العالمي”، كما كان يوصف. على العكس من ذلك -كما يقول بيتريون- من المحتمل أن يظل واحدًا من الكتل العديدة -حتى وإن كان رئيسيًا- لنظام متعدد الأقطاب.
وقتها، ستتمتع الكتل الكبرى بأنظمة مميزة. علاماتها التجارية، وتقنياتها، وأزياءها، وشبكاتها الاجتماعية، إلخ. بينما ستتأثر الكتل الصغيرة بالتجمعات الكبرى التي تسعى جاهدة لاستيراد سلعها و”أسلوب حياتها”. لذلك يجب تأطير قرار روسيا بإنشاء شبكة الإنترنت الخاص بها، كما فعلت بالعلامات التجارية التي أخذت تحل محل سلاسل الأعمال الغربية. وكذلك تعميق عالم الشبكات الاجتماعية الخاص بها، في سياق إعادة العولمة على الخطوط الإقليمية.
كل شيء سيعتمد على ما تفعله روسيا
يقول بيتروني: في عالم تحت الإنشاء، لا يمكن لروسيا أن تنتمي إلى أوروبا وآسيا في نفس الوقت. على الأقل ليس في السنوات القادمة. تستغل الولايات المتحدة بمهارة حرب أوكرانيا لإحكام قبضتها على الاتحاد الأوروبي، وبالتالي ليس أمام روسيا خيار سوى إعادة توجيه أجندتها إلى ثلاثة اتجاهات: محليًا، آسيا، الجنوب العالمي. قاصدًا أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يُضيف: لا يمكن التعامل مع الحرب الاقتصادية الشاملة المستمرة ضد الاقتصاد الروسي. إلا من خلال تسريع مسار الاكتفاء الذاتي والتنويع. الاكتفاء الذاتي لإنتاج محليا ما لا يمكن شراؤه بالخارج. التنويع لتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية بشكل حاسم.
يلفت المحلل الإيطالي إلى أن روسيا “تمتلك الإمكانات والموارد لتكون مختبرًا لتجربة غير مسبوقة، على الأقل لقوة بحجمها”. أي تطوير اقتصاد المقاومة الأول في العالم. يجادل المحللون الغربيون بأن حرب أوكرانيا ستعزل روسيا، وتحولها في النهاية إلى مستعمرة صينية أو “كوريا شمالية ضخمة”. ربما كان السيناريو الأول غير مرجح، والثاني غير مرجح أكثر. لكن هناك سيناريو ثالث هو “الانهيار على النمط السوفيتي”.
يؤكد: كل شيء يعتمد على ما ستفعله روسيا على المدى القصير.
يمكن أن يكون الاتحاد الاقتصادي الأوراسي هو استجابة آسيا للاتحاد الأوروبي. ولكن، يجب القيام بالكثير من العمل لجعل ذلك الاتحاد فعالًا حقًا وإطلاق العنان لإمكاناته. يجب تنسيق القوانين، وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع شركاء جدد ممن لديهم سلع التي لا تمتلكها دول الاتحاد الأوراسي. وتبحث عن سلع يمكن للاتحاد بيعها بأسعار رخيصة، على خلفية تكوين ثروة أكثر مساواة بين أعضائها ودرجة أكبر من التنسيق والتكامل.
اقرأ أيضا: الأسمدة وحرب أوكرانيا.. خطر جديد يهدد الإنتاج الزراعي العالمي
الصين والناجون من العقوبات
تعد الشراكة الاستراتيجية مع الصين مهمة، ولكن يجب إعطاء مساحة أكبر لبلدان البريكس الأخرى. من حيث الاستيراد والتصدير، والتعاون بين القطاعات، وأجندة إزالة الدولار. وكلما كان التنويع أعمق، زاد التأثير.
في الفترة المقبلة، ربما يجب على القوة الروسية أن تتعلم من الماضي. من تجارب القوى الكبرى والصغرى التي وجدت نفسها رهائن لحروب اقتصادية واسعة النطاق. مثل كوريا الشمالية وإيران، واللتان تعتبرا حالتان مثيرتان للاهتمام للبقاء لعقود طويلة.
لكن -والحديث للمحلل الجيوسياسي الإيطالي- لا يمكن اعتبار كوريا الشمالية وإيران مثالين استرشادين. يجب أن يكون من الأفضل التركيز على دراسات الحالة الأقل دراسة، ولكنها مفيدة للتاريخ الحديث. مثل مقاومة المملكة المتحدة ضد الحصار القاري لنابليون. رد إيطاليا الفاشية على الحصار الاقتصادي لأوروبا الغربية، ومحاولات كوبا العديدة للتحايل على الحظر الذي تقوده الولايات المتحدة.