دأبت في طفولتي، بسبب حبي للسينما، على متابعة البرامج التي كانت تعرض في التليفزيون المصري في ذلك الوقت عن كواليس السينما وحواديت الممثلين والمخرجين. ومن تلك الحواديت ما كان يُحكي عن المخرج الكبير الراحل حسين كمال (وكان يؤخذ عليه) أن القرية أو الحارة في أفلامه تبدو وكأنها قد غُسلت للتو قبل التصوير. مسألة ناقشها واختلف عليها الكثيرون من المهتمين بالسينما وجمهورها المستهدف.
ومضات غرائبية..
تذكرت تلك التفصيلة وأنا أتابع، مع أيام رمضان الأولى، بعض الإعلانات المعروضة على قنوات تليفزيونية مختلفة.
قد أتفهم الصورة اللامعة والإيقاعات الغربية السريعة والرقصات التعبيرية الحديثة إذا كان الإعلان بخصوص كومباوند سكني فاخر، فيصبح السكن في الكومباوند الفاخر هو الحل لمشكلة التعرض للزحام. وفي تلك الحالة، تكون الأدوات الفنية المستخدمة في الإعلان مناسبة للجمهور المستهدف اقتصاديًا واجتماعيًا.
لكن ما أثار دهشتي هو استخدام نفس تلك الأدوات لإعلانات من المفترض أن يكون جمهورها المستهدف الأساسي من المزارعين على سبيل المثال. لقطات متتابعة من الحركات الحداثية الراقصة بإيقاع يكاد يقترب من الهستيريا.
أو إعلان آخر هدفه الرئيسي “توعوي” لطبقات بعينها حول مخاطر مجتمعية محددة. وأبطال الإعلان الرئيسيون من الأطفال. ومرة أخرى جاءت الموسيقى والتعبير الحركي المصاحب لها في انفصال تام عن الموضوع. والسؤال هنا مرة أخرى، حول طريقة اختيار اللغة البصرية والمسموعة الأنسب للجمهور المستهدف.
عودة إلى الجذور.. مصادر المعرفة ومن يصنعها
عادةً ما يتم اعتبار الإعلانات التليفزيونية أحد أكثر وسائل التعبير البصري مباشرةً. حيث يُفترض أن يقوم المُعلِن بإيصال رسالة تسويقية واضحة في زمن قصير على الشاشة، في محاولة لإقناع مشتر محدد سواء لمنتَج أو خدمة محددة. وهو الأمر الذي يستلزم تحديد دقيق للجمهور المستهدف.
من باب التبسيط يمكننا عرض العملية الإبداعية الإنتاجية كالتالي:
تبدأ عملية إنتاج الإعلان من القسم الإبداعي بشركات إنتاج الإعلانات. حيث يجتمع فريق من المبدعين للعمل على فكرة الإعلان بخطوطها العريضة ثم تفاصيلها.
وبالتالي، فإن تكوين ذلك الفريق هو محدد رئيسي في الصورة التي سينتهي إليها الإعلان. وبالنظر لتكوين أغلب تلك الفرق الإبداعية في شركات الاعلان والتسويق، نرى انتشارًا كبيرًا لثقافة ما يمكن أن نسميه “التغريب”. حيث المصدر الرئيسي للمعرفة البصرية هو الأفلام أو المسلسلات أو الإعلانات الغربية. ويتم التعامل مع كل ما هو محلي على أنه دون المستوى بشكل أقرب للوصم.
وبالتالي، فمهما كان الموضوع أو الرسالة المرغوب في إيصالها، فإن القالب الجاهز هو في أغلب الأحوال قالبًا تغريبيًا.
مرة أخرى، قد ينجح ذلك في حالة كان الجمهور المستهدف للمُنتج أو الخدمة من طبقة اجتماعية بعينها. ولكن تخيل معي رد فعل المزارع أو العامل وهو يشاهد هذا الأداء الحركي التعبيري الذي يليق بجمهور مهرجان المسرح التجريبي، وليس حتى قريبًا من فن قدمته فرقة رضا على مدى سنوات طويلة ومزجت فيه فنون الأداء الحركي بالثقافة المصرية القريبة من الجميع.
قليل من التواصل مع الشارع وطبيعته لا يضر.
قليل من الفهم لطبيعة الطبقات والفروق بينها مفيد للجميع.