في هذه اللحظة الراهنة والغامضة في الآن ذاته، ربما علينا أن نستعيد قدرتنا على أن نمسك بتلابيب “الحاضر” ونساءله بجسارة، فكيف يمكن لنا أن نحيا لحظة لا ندرك كنه ماهيتها؟، إنها إحدى تلك اللحظات القليلة التي يتعثر فيها الحاضر تحت أقدام صراع ما بين الماضي العتيد والمستقبل المربك غير المتعين، تصبح قدرتنا على أن نتوقف هنا/الآن فعل مقاومة ومواجهة يكتسب أهمية ودلالة من طبيعة اللحظة، فما بين نجاحات وإخفاقات، نتوقف لنتساءل حول أزمتنا الراهنة، “حقا نحن في أزمة!”، هل المسافة شاسعة بيننا وبين المجتمعات التي أنجزت نهضتها بالفعل وتسير في ركب آخر؟! والهدف الأهم ليس تثبيت هذه اللحظة الحاضرة على أي حال بل فقط لنتبين إراداتنا ونستعيد قدراتنا على تحديد الاتجاهات نحو نهضة نتطلع إليه منذ أمد.
وربما يصبح من الجيد أن نستعيد مشاعر لحظة أخرى ذات دلالة في تاريخنا الحديث، وهي لحظة توقفنا أيضا عندها لنقول “حقا نحن في أزمة!”، إنها تلك اللحظة التي دخلت فيها القوات الفرنسية إلى القاهرة في استعراض قوى، ليس عسكريا فحسب بل وعلميا وتكنولوجيا أيضًا، لتعلو وجوهنا الدهشة وندرك المسافة الشاسعة التي كان علينا أن نقطعها.
ففي العام 1798 تمكنت الحملة الفرنسية بقيادة القائد “نابليون بونابرت” من احتلال مصر وهزيمة المماليك هزيمة منكرة، كان سببها الرئيس هذه المسافة الشاسعة التي لم نكن نعرفها بين تكنولوجيا قديمة ولت أيامها، وتكنولوجيا حديثة تعلن عن نفسها، وتكشفت تلك الهوة بين الواقع في مصر والمنطقة العربية والتقدم العلمي والتقني الغربي.
وفي واقع الأمر، أن المشكل ليس في التعرف على السبل التي سلكتها “الاستمراريات” لكي تنشأ، ولا الطريقة التي يتمكن بها نفس المصير من أن يبقى كما هو، ويرسم أفقا واحدا تنخرط فيه عقول متباينة ومتعاقبة. بل المشكل الاكبر هو تعقب تلك “الانفصالات” والمنعطفات التي حولت العقل ودفعت المجتمع لاتخاذ مسارات مغايرة، المشكل الأكبر هو قدرتنا على رصد “الانقطاعات” المعرفية التي تتباين تباينا كبيرا في طبيعتها، والتي قطعت الطريق أمام التراكم اللامحدود للمعارف، وفصلتها عن مصدرها ودوافعها الأصلية. لنتساءل: كيف يمكننا تقصي تلك البدايات الصامتة، ورصد نمط جديد من المعقولية واكتشاف نتائجه.
يقول أحدهم: إن السير في طريق للمرة الاولى هو الأصعب، فمن سيأتي بعد سيسير أسرع في طريق قد تم تمهيده، فهل حقا يمكننا تتبع خطى النهضة الأوروبية لننجز نهضتنا، هل يمكن لنا أن نسير على نفس الخطى قدما بقدم لنلحق بركب التقدم، ومنذ خروج الحملة الفرنسية من مصر والأحداث تتسارع، فالحدث لم يكن بسيطا ولا يمكن إعادة الأمور في مصر إلى ما كانت عليه قبل، والعقل الجمعي يرفض الانصياع للهيمنة العثمانية مرة أخرى، والاستمرار في لحظة الموات والجمود التي استحضرها آل عثمان منذ بداية القرن السادس عشر. وتحديد في العام 1517 والتي يصفها المؤرخون (واندفع جنود الجيش العثماني يعيثون في القاهرة ويحرقون المساجد التي كان المماليك يتحصنون بها ويقتلون من يقابلون من الأهالي حتى كان عدد من قتلوا في تلك الواقعة نحو العشرة آلاف. ثم داهموا الجامع الأزهر ومسجد الحاكم بأمر الله وجامع أحمد بن طولون وعدة من المساجد والمزارات يفتشون فيها عن المماليك، وتكررت مشاهد كبس الحارات والبيوت وترويع الأهالي وقتلهم ظلمًا. وكان من يؤسَر، يؤخَذ لمعسكر سليم حيث يتم قطع رأسه وإلقاء جثته في النيل. ويسهب ابن إياس في سرد المذابح المروعة والتي يشبهها بواقعة غزو الملك البابلي نبوخذ نصر لمصر في العصور القديمة، وباجتياح هولاكو بغداد سابقًا). ومنذ هذه اللحظة البائسة وعلى مدى القرون التالية حتى وصول الحملة الفرنسة كان المصريون يعيشون تحت نير الجهل والمرض والظلم والتخلف الذي أراده لهم العثمانيون ليسهل عليهم استمرار الاحتلال. غاب المصريون عن مشهد الحضارة ما يقارب القرون الثلاثة ولكنهم في هذه اللحظة أرادوا أن يجدوا مكانا لهم على خارطة هذا العالم الجديد، واختاروا “محمد علي” الذي تمكن في مدة قصيرة اعتمادا على المصريين من بناء مصر الحديثة. يقول “شكيب أرسلان صاحب كتاب “النهضة العربية”: كل نهضة لا يكون ظهيرها العلم فما هي إلا ساعة وتضمحل. وعندي أنه لا نهضة للأمم سوى النهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت سائر النهضات، من سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية..ألخ، آخذا بعضها برقاب بعض. وهو ما فعله محمد علي.
أعاد محمد على هندسة المجتمع المصري على كل المستويات، استجلب الخبرات العلمية من فرنسا وألمانيا وغيرها، وأرسل البعثات المصرية إلى أوروبا وخاصة فرنسا، وبنى المدارس المتنوعة، نظم الرزراعة والري، واستجلب المحاصيل الجديدة، ونظم الأراضي، وبنى القناطر. نظم الإدارة وشرع القوانين واللوائح، وأنشأ السجلات. وصاغ نظاما بيروقراطيا مركزيا ظل مطبقا في الدوائر الحكومية إلى وقت قريب، وأنشأ نظاما قضائيا وشرطيا، وأنشأ نظاما نيابيا (ديوان الشورى)، وأنشأ مجلس النظار (الدواوين)، وقسم مصر (إداريا) إلى سبع مديريات، وقسم المديريات إلى مراكز.
سار إذن “محمد علي” على خطا النهضة الأوروبية وقام ببناء مصر الحديثة كما نعرفها الآن، وما زالت الشواهد حاضرة، ولكن في هذه اللحظة تطرح التساؤلات في بعض الدوائر حول دوافع محمد على ونواياه بل وجنسيته غير المصرية، في الوقت الذي كانت الهوية (الوطنية) في هذه المنطقة (دولة الخلافة) لا تعول كثيرا على مثل هذه الوحدات المحلية (الدولة). وفي الوقت الذي أصبح الحديث عن (الدولة المصرية) ممكنا بعد مئة عاما تقريبا من لحظة تولي محمد على حكم مصر، وطرحت “النخب المصرية” مسألة الهوية والأمة (المصرية) للتداول والسيجالات الفكرية، ترفض بعض الدوائر الفكرية في مصر كل هذا وتريد محو التاريخ ورفض معطياته، بديلا عن استكمال البناء، وهي أزمة مصرية بامتياز. وربما يكون من الجيد العودة إلى الماضي ونقده، بل ومحاكمته بغرض المضي قدما نحو مستقبل أفضل، وهو أمر لا شك محمود، أما أن يكون الغرض نفيه والتنكر له، والرغبة في تدميره، فهو أمر يبدو غريبا، فالدول (القومية) الأوروبية الحديثة في نشأتها الأولى تعرضت لمثل هذه الاختلاطات في الأجناس والأصول ولكنها في لخظة ما تجاوزت مثل هذه التساؤلات التي تعيق التقدم، واستكملت البناء الاجتماعي من نقطة الوصول، ولم ترغب في استرجاع نقطة البدايات في أية لحظة تاريخية.
الأحداث الدرامية التي توالت على مصر في القرنين الماضيين بين نجاحات تارة وإخفاقات تارة أخرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي جعلت من المسألة المصرية شديدة التعقيد، وربما يصبح علينا هنا التوقف عند اللحظتين معا، اللحظة الراهنة من ناحية، وبدايات القرن التاسع عشر وعقب خروج الحملة الفرنسية من مصر، وما بينهما خلال مئتي عاما جرت في النهر مياها كثيرة. وانتقل المجتمع المصري انتقالات تاريخية هامة ولكن يظل الفعل الأهم على الإطلاق هو اكتشاف المصريين لـ”ذواتهم” بوصفهم (فاعلين) يمتلكون القدرة على المشاركة بفاعلية في الأمور العامة للمجتمع، وهو أمر كان يشق على المصريين كثيرا، ورفضه غالبيتهم على مدار أزمنة وعصور، يستجلبون المماليك ليحكموهم، يرحبون بالغرباء ليتولوا أمرهم، ولكن في لحظة جديدة كل الجدة بينما تخلى عنهم الجميع، المماليك والأتراك وغيرهم يقف المصريون معا في مواجهة الاحتلال الفرنسي، يثورون ضد ما رأوه خطرا يحدق بهم، ومن بعدها يختارون ويقررون مصيرهم دون الانصياع إلى رغبات (الباب العالي) وينخرطون معا في بناء مصر الحديثة، وتظهر الشخصيات المصرية مثل “علي مبارك” و”رفاعة الطهطاوي” وصولا إلى “محمد عبده” و”طه حسين” و “أحمد لطفي السد” ويبرع المصريون في كافة المجالات، العلمية، والأدبية، والاقتصادية، والفكرية…ألخ. ويصنعون تاريخهم الحديث في ظل تقلبات عالمية ومحلية وإقليمية. وفي سياق مليء بالتحديات والمنعطفات التي شكلت عالما جديدا. تمكن فيه المصريون من بناء دولتهم القومية الحديثة على أسس (مدنية – عالمانية).
فما الذي حدث؟!
وكيف تداخلت الأحداث والأفكار؟!
وكيف صاغ المصريون عصر تنويرهم؟!
يتبع.