حرية التعبير تعني قُدرة الفَرد أو المجموعة على التعبير عن مُعتقداتهم وأفكارهم ومشاعِرِهِم حول قضايا مُختلفة دون خوف من الرقابة، ولما كان الأصل هو أن تكون الحرية وخصوصاً في مجال الرأي والتعبير، ذلك بحسب كونها من أهم ركائز الديموقراطيات الحديثة في كافة المجتمعات والنظم القانونية. لكن ما هو نطاق الحقّ في حرية التعبير؟ وهل هو حق مُطلَق؟ من الواضح انه ليس كذلك، وذلك إذ أن لكن حرية التعبير أصبحت مُهددة بشكل مُتزايد في الآونة الأخيرة. فمن ناحية، يتزايد عدد الحُكّام المُستبدّين في جميع أنحاء العالم، ومعهم الملاحقات القضائية لوسائل الإعلام المُستقلة والناشطين الاجتماعيين، ومن ناحية أخرى، يفرض الحجم والتأثير المُتزايد لشركات التكنولوجيا الكبرى تحديات جديدة لكافة الأنظمة الديمقراطية الحديثة.وإذ أن الحق في حرية الرأي؛ والحق في حرية التعبير هما حقان مشروعان؛ وحقان مكفولان، فكل إنسان يحق له اعتناق ما يشاء من آراء وأفكار، بناء على تفكيره الشخصي الحر، دون مضايقة من أحد، فلا يجوز أن يٌفرض على الشخص تبني أفكار وآراء معينة، ومنعه من تبني غيرها، كما لا يجوز مساءلة الشخص، ومعاقبته على ما يعتنقه من أفكار، حيث تُعد حرية الرأي والتعبير من الحقوق والحريات الأساسية التي تُحتمها طبيعة النظام الديمقراطي، وهي ركيزة مهمة من ركائز الحكم الديمقراطي السليم، كونها حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في تعريف المواطنين خاصة، والرأي العام عامة، بكل ما يشهده المجتمع من أحداث سياسية واقتصادي واجتماعية؛ من جهة، ولإتاحة الفرص لجميع المواطنين للمساهمة بالرأي في تسير شؤون البلاد؛ من جهة ثانية.
اقرأ أيضا في بالمقال الأول
وإذا كان إن الحق في حرية الرأي هو حق مطلق، لا يجوز تقيده بأي قيود كانت، فلا يحق لأي أحد، مهما كانت سلطته ومكانته الروحية والاجتماعية والسياسية أن يمنع الآخرين من التفكير في الأشياء، إيجابا أم سلبا، لأن الحق في حرية الرأي هو قضية تتعلق بالإنسان نفسه، ولا تتعدى غيره، ومازالت كذلك؛ فلا يجوز تقيدها أو الحد منها، بل لا يمكن تصور تقييدها أو حدها إلا بموت الشخص نفسه. ويمكن تغيير أفكار الآخرين بالمنطق والعقل والحجة فقط.
وقد أقرت اتفاقيات حقوق الإنسان بعض القيود على ممارسة حرية الرأي والتعبير مثل الدعاية للحرب والحث على الكراهية والعنف أو التمييز العنصري أو الديني، وقد أقرت ذلك محكمتنا الدستورية العليا في الحكم رقم 153 لسنة 21 قضائية دستورية، وذلك بقولها ” ومن المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التي تتولد عنها، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخي قمعها. إذ يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التي تجول في عقولهم ويطرحونها عزما ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثا من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوبا، ومن ثم وجب القول بأن حرية التعبير التي كفلها الدستور هي القاعدة في كل تنظيم ديموقراطي، فلا يقوم إلا بها، ولا ينهض مستويا إلا عليها. كما أكدت على تلك الحدود الراسمة لممارسة حرية الرأي والتعبير المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1550 لسنة 33 عليا بقوله أنه ” كفل الدستور حرية التعبير عن الرأي وحرية النشر – إبداء رأى معارض للحكومة ونشره بمختلف الوسائل في الداخل أو الخارج هو حق من الحقوق المشروعة – يشترط لاستعمال هذا الحق ألا يتجاوز حدود المشروعية أو يمس الأمن القومي أو النظام العام أو مقتضيات الدفاع الاجتماعي من خلال ارتكاب جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات “.
كما أنه من مجمل القول أن تنظيم ممارسة الحق أو الحرية يجب أن يقف عند حد تنظيم كيفية ممارسة الحرية، دون إثقالها بالقيود التي تعوق ممارستها، أو تضييق النطاق حول كيفية الممارسة الفعلية لحرية الرأي والتعبير، أو أن تسعى النظم القانونية أو التشريعية إلى الانتقاص منها بما يقوض حقيقة وجودها في الحياة الفعلية، أو أن تسعى القوانين إلى تفريغها من مضمونها الحقيقي، وذلك لكون حرية الرأي والتعبير تحقق هدفها بما لا يضر المجتمع في أمنه القومي أو يسعى لعمل فتنة أو حث على كراهية أو يدعو إلى الحروب أو تمييز أيا ما يكون نوعه، أو عدم التعرض بالإساءة لمعتقدات الآخرين، كون المعتقد هو المؤثر الأول في المشاعر الإنسانية، والإساءة له تثير ردود أفعال غير محسوبة من أصحاب المعتقد.
ومع التقدم العام الذي تشهده المجتمعات في كافة أرجاء العالم، فإن حرية الرأي والتعبير وبما أضحت عليه من قيمة مع التطورات التكنولوجية المتلاحقة، فيجب أن تسعى النظم القانونية الداخلية على احترام تلك القيمة العليا وأن تضع قوانينها في موضع يتناسب مع تلك التطورات، ومع ما يتماشى مع المنطق الدستوري في إطلاق تلك الحرية، وأن تسعى كذلك إلى عدم التضييق الفعلي حال الممارسة الواقعية لتلك الحريات، وأن تسعى إلى الحد أو منع القبض على الصحفيين بشكل كامل، ومنع الحبس الاحتياطي لهم تحت أي مسمى.
اقرأ أيضا في بالمقال الأول
ومن هنا تأتي الحاجة على مراجعة كافة التشريعات المصرية الداخلية، وبشكل أخص التشريعات العقابية وقوانين مكافحة الإرهاب وكافة التشريعات الفرعية الأخرى، وذلك بما يضمن حسن ممارسة العمل الصحفي أو ما يشمل أية ممارسات حقيقية للحق في حرية الرأي والتعبير بشكل كامل وغير منقوص، ومنها على أوجه التخصيص الحق في النقد العام، والتعرض بالنقد لأعمال الوظيفة العامة بغض النظر عن شخص من يتولى الموقع أو الوظيفة، على أن تقف الحدود التنظيمية عند تلك الحدود التي استقرت عليها كافة بلدان العالم احتراماً منها على ما جاء منها من الانضمام إلى اتفاقيات ومواثيق دولية معنية بحقوق الإنسان، ولا يكون الزج بالصحفيين وممارسي الحق العام في التعبير عن الآراء خلف السجون وسيلة لقمع الممارسة الفعلية.
وكما قال فولتير، أن تخالف أحدهم الرأي، ولكن تموت دفاعا عن حقه في قوله.. وإذ إني أقر بأن مسألة حرية الرأي والتعبير وحدودها واختلافها عن خطاب الكراهية أو مخالفة القانون، محل نقاش دائم ومستمر، ليس فقط في الديمقراطيات الحديثة، بل أيضاً في الديمقراطيات الراسخة، وهو نقاش حيوي ومفيد، ومؤشر إيجابي على الاهتمام بحرية التعبير كقيمة وكوسيلة للمشاركة في الحكم والعملية التشريعية، أو للمشاركة في المجال العام بشكل كامل