“عادت مريم وهيب إلى منزلها ونشكر الأجهزة الأمنية”. هكذا اعتاد الأقباط إسدال الستار على ما يسمى بوقائع خطف الفتيات التي تتشابه فيها الملابسات والظروف. وتنتهي بطريقة مماثلة، دون أن يجرؤ أي طرف على كشف ملابسات ما جرى. وما تتناقله الألسن، وما يتم السكوت عنه. إما بغرض “الحفاظ على السمعة”، أو حتى بنية غلق الملفات التي يتسبب فتحها في فتنة لا تنتهي.

إلا إن واقعة مريم وهيب، التي ادعى زوجها اختطافها في بني سويف. ومنذ اختفائها في الخامس من أبريل/نيسان، وحتى ظهورها. قد تسبب -ربما للمرة الأولى- في انقسام الرأي العام القبطي. الذي كان يميل في سنوات سابقة إلى تصديق رواية الأسرة حول الفتاة المغدورة. التي خطفتها الذئاب البشرية وأجبرتها على اعتناق دين آخر.

وقائع اختفاء مريم وهيب.. سيناريو متكرر وأسماء مختلفة

مريم وهيب زوجة في بداية الثلاثينات، أي إنها ليست فتاة قاصر. متزوجة ولديها طفلان، وتعمل مدرسة بإحدى المدارس الخاصة الشهيرة، أي إنها تلقت قدرًا من التعليم العالي. ووفقا لرواية زوجها، فقد اختفت بعد أن ركبت تاكسي في وضح النهار. لتظهر بعدها بأيام في فيديو على فيسبوك بملامح باهتة، ترتدي الحجاب وتشهر إسلامها. بينما يطالب الزوج صارخًا وصائحا الجميع بالصلاة لعودة زوجته المختطفة. مؤكدا على هويته كخادم شهير في الكنيسة، يعرف بالتقوى والصلاح، حتى أن من يعرفونه يتوقعون ترشيحه قريبا لـ “نيل نعمة الكهنوت”. أي أن يصبح قسيسا، مثلما يقول أحد خدام الكنيسة التي تنتمي إليها الأسرة. رافضا الكشف عن المزيد من التفاصيل.

يواصل الزوج صلواته وتضرعاته تلك على مواقع التواصل الاجتماعي. راجيًا أن تعود زوجته التي اختطفتها الذئاب، بينما يلوح الأنبا غبريال أسقف بني سويف بما لديه من معلومات في الأفق. فيقول بجرأة وشجاعة ردا على سؤال تلقاه من أحد الحاضرين: “ليس هناك حالات خطف. أخدم كأسقف من 25 سنة، وليس هناك خطف جسدي، بل الخطف ذهني. ولا أتحدث عن مريم وهيب بل بشكل عام فليس هناك خطف”.

الأنبا غبريال أسقف بني سويف.. بين نار المسئولية السياسية والخدمة الكنسية

لا يستطيع الأسقف بحكم خدمته وأمانته أن يكشف عن المزيد مما لديه من أسرار أسرية. بحكم الخدمة الكنسية التي تجعل الكهنة يتلقون اعترافات الرعايا. فيسمعون أنين الزوجات من حياة زوجية غير مستقرة، أو آلام الأزواج من معاملة قاسية من النساء مثلًا. لذلك، يصبح الأسقف بين نارين، نار الكشف عن خبايا وأسرار البيوت، ونار المسئولية السياسية أمام رأي عام مسيحي متربص. ومن ثم لا يستطيع الأسقف سوى أن يلمح ولا يصرح.

 العلاقات العاطفية السبب الأول في حالات العنف الديني طوال 60 سنة

ماريز تادرس الأستاذة بجامعة سسيكس بالمملكة المتحدة، وأحد أشهر الأكاديميين في مجال دراسات شئون الكنيسة. أشارت من قبل إلى أن العلاقات العاطفية بين طرفين مسلم ومسيحي. كانت السبب الأول في وقائع العنف الديني منذ تأسيس الجمهورية المصرية في الخمسينات وحتى عام 2012. تليها الأزمات المتعلقة ببناء دور العبادة.

إذا كانت الدولة المصرية قد أصدرت عام 2016 قانون بناء وترميم الكنائس. في محاولة جادة لحل السبب الثاني في حالات العنف الديني، فإن السبب الأول الذي يتعلق بالعلاقات العاطفية يرتبط بعدة عوامل. أبرزها صعوبة الطلاق لدى الأقباط الأرثوذكس، مما يجعل حالات تغيير الدين مخرجا لحياة زوجية غير مستقرة. بينما يمكن السبب الثاني في إمكانية التحول إلى الإسلام قانونيا، دون وجود إمكانية مشابهة في المقابل. بالشكل الذي يجعل حالات التحول الديني أسباب لأزمات أسرية واجتماعية -إضافة إلى وجود تاريخ من الأزمات- ارتبط بالتحول الديني للنساء تحديدا، لاسيما في عصر مبارك.

الزواج المدني وحرية الاعتقاد .. حلول لتقليل التوتر الاجتماعي

يقول بيشوي القمص، الكاتب المهتم بالتاريخ وبشئون الكنيسة: في غالبية حالات تغير الدين التي تابعت تفاصيلها عن كثب، من قبل سيدات أو فتيات مسيحيات. لم أسمع عن حالة اختطاف واحدة، تم فيها إجبار السيدة أو الفتاة على تغيير دينها بالقوة. كأفلام سينما التسعينات الهابطة.

أضاف: في كل الحالات تقريباً، نكتشف في تتر النهاية قبل إسدال الستار على المسرحية، أن السيدة أو الفتاة قد تم التغرير بها بوسائل مختلفة. كالعاطفة، أو الدخول في علاقة محرمة، او ربما حتى الضغط عليها بإغراءات مادية ومعنوية. قد يدفع السيدة  لذلك عوامل متعددة. مثل زوج عنيف لا تطيق معاشرته، أو أب قاسي وبيت جاف لا تجد فيه الفتاة أي معاني العاطفة. مع مجلس إكليريكي متصلب متجمد، يسد كل الطرق لانفصال الزوجة عن زوجها الذي لا تطيق الحياة معه. فلا تجد السيدة أو الفتاة حلاً سوى في الباب الوحيد المفتوح الذي سيحل لها كل مشاكلها في لحظة واحدة.. إشهار إسلامها.
يتابع القمص: يؤكد نظريتي تلك، أن في كل الحالات التي عادت فيها السيدة أو الفتاة إلى أهلها بوساطات ترغب في التهدئة. يأبى الأهل والأقارب عن ذكر أي تفاصيل عن حالة الخطف المزعومة. بحجة واهية أن الموضوع شخصي ولا يحق للعامة التحدث فيه. مع أنهم نفس العامة الذين دعموهم وتضامنوا معهم حتى عادت الضحية إلى أهلها، مما يؤكد نفس النظرية السابقة أنه لا توجد أي شبهة خطف جنائي في الموضوع.

ويختتم بالقول: سيناريو يكاد أن يكون متطابقا ومتكررا إلى حد الملل. والحل في منتهى السهولة، إطلاق حرية تغيير الدين في الاتجاهين. وليس إطلاقه في اتجاه بعينه، وغلقه في الاتجاه الآخر.

القمص أشار إلى أن هذه الأزمة لن تختفي ولن تنتهي إلا بوضع عدة حلول. أبرزها فتح الباب أمام الزواج المدني غير الكنسي بين المسلمين والمسيحيين. أو بين المسيحيين والمسيحيين بالشكل الذي يترك للزوجين حرية الطلاق بعيدا عن السلطة الكنسية، أو السلطة الدينية بشكل عام. مشيرا إلى أن غلق باب الطلاق لسوء المعاشرة أو للعنف يؤدي بالنساء للهرب من الأسرة. سواء متزوجات أو قاصرات. ثم تدعي الأسرة الخطف لحفظ ماء وجهها أمام المجتمع، غير ملتفتة للاحتقان الطائفي الذي تتسبب فيه مثل تلك الوقائع.

مريم وهيب ورانيا عبد المسيح وقائمة طويلة من مختفيات يعدن

بعد عودة مريم وهيب إلى أسرتها بوساطة كنسية، نشر الصحفي نادر شكري -الذي كان يتابع الواقعة- بيانا رفض فيه الكشف عن التفاصيل. ملوحًا بما اسماه “الاختطاف الذهني”. إذ طلب من جميع الأسر احتواء الفتيات، وهو نفس السيناريو الذي تكرر عام 2020 في واقعة رانيا عبد المسيح. التي تعمل مدرسة أيضا بالمنوفية، وهي زوجة وأم كانت تخدم في لجان بيت العائلة المصرية كممثلة عن الكنيسة. واختفت وسط مطالبات الأقباط بعودتها وإدعاء اختطافها، حتى عادت مرة أخرى إلى أسرتها دون الكشف عن المزيد من التفاصيل.

إسحق إبراهيم، الباحث في قضايا الأقليات، يؤكد: خلال السنوات العشر الأخيرة. لا توجد حالة وحيدة لسيدة أو فتاة من بين العشرات، أعلن بشكل واضح ومؤكد بعد عودتها أنها خطفت لإجبارها على تغيير ديانتها. يوجد فرق بين الترغيب والتسهيل والهروب من المشاكل وبين الترهيب والخطف. من حق كل إنسان اختيار ما يشاء وتغيير قناعاته واختياراته وقتما يشاء، وبدون البحث في أسباب أو نوايا ذلك. وبالمثل، من حق الأسر أن تطمئن من عدم تعرض من تريد التغيير لإكراه أو عنف.

وأضاف: التشريعات التي تجعل تغيير الدين متاحا ومدعوما في اتجاه واحد هى من تصنع الأزمة. خصوصا أنه عادة ما يصاحب هذه الحالات اختفاء أو إخفاء. لافتا إلى أن حالات اختفاء القبطيات “تؤجج المشاعر الطائفية”، وتوجه أصابع اتهام لعدة أطراف أبرزها الدولة. التي عليها حماية المواطنات في حالة خطفهن. بينما تغلق تلك الملفات مع إسكات الأسرة التي أشاعت البلبلة في الرأي العام، وكأن شيئا لم يكن حتى تظهر واقعة جديدة.

 لعل اتباع إجراءات مختلفة في المستقبل قد يقلل الآثار السلبية الناتجة عما يحدث. كأن تتم محاكمة من اشاع معلومات خاطئة عن حالة خطف. وهو يعلم إن بطلة الواقعة قد تركت أسرتها طوعًا. أو أن يتم الكشف عن كافة التفاصيل والملابسات بشفافية. دون مراعاة لأي عوامل اجتماعية، كالعيب، والسمعة. لأن البديل هو التشكيك في أجهزة الردع وتطبيق القانون التي تقدم المجرمين للعدالة في جرائم الخطف. بينما الصمت عمن أشاعوا البلبلة، وروجوا معلومات خاطئة بغرض تحقيق السلام الاجتماعي. يعني إن المستقبل سوف يشهد سيناريوهات مماثلة لأسر تكذب، حتى تتجنب فاجعة اختفاء فتاة تحمل اسم زوجها أو أبيها، في مجتمع ريفي لا يرحم.