لا يَنتج عن التناقض أن يُفْنِي طرفٌ الطرفَ الآخر كما يرى البعض، حتى وإن وصلا إلى نقطة “التَعَادي” التي أشرت إلى تفسير “ماو” لها في المقال السابق، حيث يتنافى ذلك مع مفهوم التناقض نفسه باعتباره شكلًا للحركة التى تقتضي وجود ضدين أو أكثر، فإذا انتهى صراع الضدين بالتلاشي التام لواحدٍ منهما وسيادة الآخر ومن ثَم انفراده بِرَسمِ وجوده وحيدًا، فلن يتقدم التاريخ الإنساني، حيث لا حركة إلى الأمام وهو الأمر الذي سيفضي إما إلى الارتداد للوراء أو الفناء التام. نشوء فيروس كورونا على سبيل المثال باعتباره مظهرًا من مظاهر الموت هو نقيضٍ للحياة، والبحث في إيجاد علاج له كان هو نقطة “التعادي” التي نتج عنها صنع اللقاح، وتفاوت المصالح الاقتصادية والطموحات الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا وضع كل منها كطرفين في تناقضٍ كانت الحرب بينهما هي نقطة “التعادي” به والتي لابد أن تسفر حتمًا عن تركيبٍ جديدٍ مازالا -مع الأطراف المرتبطة بكل منهما- يبحثان فيه. لابد إذن من وجود التناقض طالما أن هناك حياةٌ هي بذاتها في تناقض مع الموت، وبهذا المنطق يمكننا فهم وتحليل الظواهر من حولنا.
بانهيار جدار برلين والذي نتج عنه أن فرضت القوة الوحيدة بالعالم نموذجها القيمي بكل جوانبه، انتفى التناقض “الواضح” المُستَنِد إلى أساس ثقافي/فكري بين النخب الحاكمة في مجتمعات دول حِلفَي وارسو والناتو ليحل محله تناقض جديد بمستويات متعددة بين المجتمعات الإنسانية دون حدود بِفِعل العولمة، فعلى سبيل المثال تَجَلَى التناقض الحقيقي بشكل أكثر وضوحًا بين المجتمعات الفقيرة والمجتمعات الغنية ليصل منذ أيام قلائل إلى مستوى يقترب من نقطة “التعادي” تَمَثَل في إعلان مسئولي بعض الدول -ولو بشكل غير رسمي- عن معاناة مجتمعاتهم من صعوبات مالية بالغة تعيق قدرة تلك المجتمعات على سداد ديونها السيادية، وهو أمر بالغ الخطورة كنت أتوقعه منذ زمن لكنه لم يكن ملموسًا بالقدر الكافي إلا بعد أزمة كورونا ثم أزمة أوكرانيا (يمكن للقارئ الكريم أن يَطَّلع على مزيد من التفاصيل في تقرير مصر 360 الهام الذي نُشِرَ في 12 أبريل 2022 عن أزمة الديون العالمية بقلم الأستاذ/محمد سيد أحمد).
كَبُرَت كرة الثلج التي لابد لها من ذوبانٍ قد نشهد بموجبه تركيبًا جديدًا في آلية عمل وتعامل النظام المالي العالمي مع تسوية مديونيات المجتمعات الفقيرة بشكل قد يتجاوز آلية العمل القائمة حاليًا والمُتَمَثَلة في مبادرة البنك الدولي “للدول الفقيرة المُثقَلة بالديون” Heavily Indebted Poor Countries HIPC والتي أتوقع -إن لم تُستبدل بآلية جديدة- أن يحدث بأسلوب عملها تغيير جوهري بِحُكم واقع جديد فَرَضَهُ تناقضٌ تَعَدى مرحلة التجلي النظري للأزمة إلى ما هو أشَقُ من ذلك عمليًا ما قد يدفع إلي تَجْبِيهٍ من نوعٍ ما بين النخب الحاكمة بتلك المجتمعات الفقيرة ربما يتبعه نشوء تحالف رسمي بينها للتفاهم بشكل جماعي مع الدائنين لإسقاط ديونها أو جزء منها وخفض أعباء خدمة تلك الديون لنسب محدودة من نواتجها القومية حتى تتمكن من الوفاء باحتياجات مجتمعاتها الأساسية. كان هذا مثالًا على تجلى “التناقض” الذي حرصت القوة الوحيدة بالعالم مع حلفاءها التقليديين على الحيلولة دون تناميه -كَمُحَفِزٍ للتطور- بغرض السيطرة على الأسواق ومصادر الطاقة من خلال إعاقة التطور الصناعي والتحديث الزراعي بالمجتمعات الفقيرة وإغراقها في ديون الاستهلاك، إلا أن الأحداث المستجدة المتتابعة بسرعة شديدة جعلت من تلك السيطرةِ أمر غير قابل للإستمرار مالم يأتِ الشيخ الجالس بالمكتب البيضاوي بِفِعلٍ استثنائي.
إليك قارئي الكريم تناقضًا آخر أكثر خصوصية ووضوح تَجَلى مؤخرًا كظاهرةٍ تسترعي الانتباه في مركز النظام المالي العالمي الذي استقر لعقود. كان أقصى ما يأمله الحالمون بعالمٍ أكثر عدلًا أثناء الحرب الباردة أن يتحدث العمال في وِرَش المصانع “بديترويت” أو الفلاحين في مزارع البرتقال “بفلوريدا”، أو المشردين بلا مأوى في الشوارع الخلفية “بِهَارلم”.. حديثٌ (مجرد حديث) تُستخدم فيه تعابير من قَبيل “مصالح عائلات الطبقة العاملة” Interests of the Working Class Families أو “إسقاط ديون تعليم الطلبة”Cancel Student Debts، فإذا بالثمانيني العجوز الذى أتى من “برلينجتون” إلى قلب “واشنطون” يُحَوِل تلك التعابير من مجرد كونها شعاراتٍ إنشائية تُتَداول هَمسًا إلى خطط فعلية يناقشها مع الناس بمنتهى الحيوية والجرأة في الشارع ثم يطرحها في أروقة الكونجرس الأمريكي مع تقديم مصادر لتمويلها كحَمْلَة “افرضوا ضرائب على الأغنياء “Tax The Rich”، إنه”بيرني ساندرز” الذي يتشكل على يديه حاليًا تركيبٌ جديد -أطلقتُ عليه منذ ظهوره اسم “الساندريزم”- تَكَوَن بفعل التراكم الناتج عن تناقضات المجتمع الأمريكي. ربما أخصص في المستقبل مقالًا مُنفصِلًا عن “الساندريزم” حيث لن يسمح ترابط هذه السلسة بمزيدٍ من الاستطراد في الحديث بشأنه، لذا فسأكتفى الآن فقط بالإشارة إليه كمثالٍ نموذجيٍ لتعايش الضدين في سياق زماني وجغرافي واحد ثم الصراع بينهما فالتراكم في سبيل التركيب، لأجل الحث على مزيد من التفحص لمحاولةِ فهم الواقع والتعرف على ما يفرزه من ظواهر يمكن في ضوءِ تَحليلِها استنباط نتائج تُعين في التنبؤ بما هو قادم في ظل ظروف دولية سريعة التبدل وبالغة التعقيد.
للحديث بقية إن كان في العمر بقية.