أمام مشهد بالغ التعقيد تقف ليبيا، وقد كانت قاب قوسين أو أدنى من إتمام الاستحقاقات الانتخابية في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي. ذلك قبل أن تلغى الانتخابات. الأمر الذي أعاد البلد الذي يعاني الفوضى والاقتتال منذ عام 2012 إلى نفق الأزمة مجددًا. حيث تتصارع مجموعة من السيناريوهات التي تحركها أطراف دولية وأخرى محلية.
فمع تأجيل الانتخابات وما أعقبها مؤخرًا من قيام مجلس النواب المنعقد في طبرق بتنصيب حكومة جديدة (الاستقرار) برئاسة فتحي باشاغا، ورفض عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة التنحي، اختلطت الأوراق مجددًا وسط محاولات لإحياء المسار الانتخابي في أسرع وقت ممكن. فيما تتواصل أعمال لجنة المسار الدستوري المجتمعة في مصر برعاية الأمم المتحدة وبمشاركة أعضاء مجلسي النواب الدولة الليبيين.
أزمة ليبيا.. الدبيبة والقاعدة الشعبية والولاءات
في ظل حالة الفوضى التي تخيم على المشهد الليبي، يعد السيناريو الأقرب هو استمرار الوضع الراهن. حيث حكومتان إحداهما تحكم فعليًا يرأسها الدبيبة، وأخرى تتابع المشهد فقط ويرأسها باشاغا. ذلك إلى حين توافق القوى الدولية الفاعلة في المشهد الليبي وحلفاؤها في الداخل حول صيغة يتم من خلالها إجراء الاستحقاقات الانتخابية المعطلة.
الدبيبة الذي اختير رئيسًا للوزراء عبر هيئة سياسية مكونة من 75 مندوبًا، اختارتهم الأمم المتحدة من الفصائل السياسية والمناطق الليبية في تصويت جرى في جنيف العام الماضي، سعى منذ اللحظة الأولى لتوليه المهمة في مارس 2021، إلى بناء قاعدة شعبية في غرب البلاد وتحصين نفسه بالولاءات.
كما سعى إلى استمالة كل قطاعات المشهد السياسي الليبي المفتت. ووعد بتوفير الأموال لمدن منسية، وعرض أموالًا على حديثي الزواج. كما تحرك على المستوى الدولي ساعيًا لشراء نفوذ يعزز به موقفه عبر توزيع حصص إعادة الإعمار. وذلك قبل أن يعلن عن ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية. وهو ما يخالف تعهده عند تولي الحكومة الانتقالية بعدم الترشح. الأمر الذي كان من بين الأسباب الرئيسية التي نسفت العملية الانتخابية.
الدبيبة والقوى الغربية والبعثة الأممية
عمل الدبيبة منذ اللحظة الأولى لأزمة الانقسام الجديدة التي أعقبت تكليف مجلس النواب لحكومة جديدة، على إسماع القوى الغربية والبعثة الأممية، ما يرغبون في سماعه، بالشكل الذي ساعده على الاحتفاظ بالاعتراف الأممي إلى الآن. مؤكدًا تمسكه بشرعيته من خلال تقديم تصور لإجراء الانتخابات قبل نهاية يونيو المقبل. ذلك في الوقت الذي تتبنى فيه البعثة الأممية، بقيادة ستيفاني وليامز مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة والمدعومة أمريكيًا، رؤية رافضة لاستمرار المراحل الانتقالية. مع ضرورة إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي ستنقل البلد المضطرب إلى حالة الهدوء.
أدرك الدبيبة طبيعة معادلة الحكم في بلاده، ووزع جهوده جيدًا، بين تحركات لكسب الشارع عبر زيادة المخصصات المالية للمنح المقدمة للفئات الأكثر احتياجًا، وأخرى لنيل دعم اللاعبين الدوليين الأكثر تأثيرًا في المشهد. ذلك إلى جانب توفير قوة عسكرية داعمة له تكون حائط صد على المستوى الداخلي، من خلال تفاهمات مع المليشيات المسلحة الكبرى في العاصمة، بخلاف الكتائب المسلحة المنحازة له في مصراتة، بحكم الانتماء القبلي، حيث تنتشر عائلته.
أزمة ليبيا.. تحركات باشاغا المحكومة بخط أحمر أمريكي
بعد نحو شهر ونصف من تكليف مجلس النواب فتحي باشاغا رئيسًا لحكومة انتقالية جديدة، بات واضحًا أن فرصه في فرض حكومته كأمر واقع آخذة في التراجع. ذلك رغم التفاهمات التي توصل إليها مع قادة معسكر شرق ليبيا، وفي مقدمتهم قائد الجيش خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
يتواجد باشاغا حاليًا في تونس، لعقد لقاءات مع عدد من قادة المليشيات. ذلك في مسعى للدخول إلى العاصمة خلال الأيام المقبلة. ذلك بعدما فشلت محاولاته السابقة. وقد حذرت الإدارة الأمريكية من اندلاع اقتتال جديد. وقالت إن عودة القتال في ليبيا غير مسموح. بينما هددت من يجر البلاد لهذا الاقتتال بعقوبات قاسية.
ويرى رئيس حزب المؤتمر الوطني الحر، بشير السعداوي، أن باشاغا فرصه باتت ضعيفة. مؤكدًا صعوبة نجاح تحركاته في إحداث أي اختراق للأزمة مع حكومة الدبيبة. وهو يشير إلى أن حكومته أصبحت تقترب من حكم الماضي. خاصة أن الكل بات يدفع نحو الانتخابات.
وما يدعم رؤية السعداوي هو الموقف الصادر عن عدد من قادة الكتائب المسلحة بالمنطقة الغربية ، وذلك بعد لقائهم بباشاغا في تونس ، حيث أكدوا على عدم اللجوء إلى الصدام المسلح، وإبقاء الحوار السياسي وسيلة لحل الأزمة، لافتين أنهم اتفقوا مع الطرفين (باشاغا والدبيبة ) على ذلك .
ما يزيد من صعوبة موقف باشاغا ، هو تأمين الدبيبة لموقف مدينة مصراتة التي يعول عليها غريمه ، في ضوء لقاءاته المتواصلة مع قادة المليشيات الكبرى هناك لضمان موقفهم .
سيناريو بديل
في الوقت الذي تتواصل فيه اجتماعات القاعدة الدستورية بين أعضاء مجلسي النواب والدولة في العاصمة المصرية القاهرة، كانت هناك تحركات أخرى بهدف تأمين سيناريو بديل. ويتمثل ذلك في اللجوء لإحدى الشخصيات القضائية، للدفع بها إلى المشهد بدعم دولي حال تعقدت الأزمة، وفشل سيناريو الذهاب للانتخابات في وقت قريب.
السيناريو البديل الذي تعكف عليه دوائر أمريكية يبحث في الوقت الراهن عدد من الأسماء ذات الخلفية القضائية من غير أصحاب الانتماءات السياسية، لتجهيز أسم من بينهم يتم الدفع به لرئاسة البلاد في مرحلة انتقالية تتراوح بين عام وعامين.
ووفقًا لشخصيات ليبية بارزة فإن قائمة الأسماء تضمنت المستشار إبراهيم دغدنة. وقد شغل في وقت سابق عضوية المجلس الأعلى للقضاء. وهو مندوب ليبيا السابق لدى جامعة الدول العربية كما عمل مستشارًا بمحكمة الاستثمار العربية التابعة لجامعة الدول العربية في الفترة من 2010 إلى 2015.
كما تضم قائمة الأسماء أيضا المستشار محمد الحافي رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة العليا.
الأنظار تتجه للقاء شكري وأوغلو المرتقب
ما كشف عنه مؤخرًا وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، بشأن زيارة نظيره المصري سامح شكري إسطنبول قريبًا، لا يحمل بين طياته إن حدث انفراجة بالنسبة للعلاقات المصرية التركية فقط. ولكن ربما يكون مؤشرًا على بداية تطورات جديدة على صعيد الأزمة الليبية. ذلك في الوقت الذي تمثل فيه البلدان رقمين مهمين في المعادلة الدولية الخاصة بالملف الليبي، فتركيا تتمتع بنفوذ واسع في غرب ليبيا، من خلال تواجد قوات عسكرية تابعة لها هناك والتي جاءت بعد الاتفاقية الأمنية الموقعة بين أنقرة و حكومة الوفاق الوطني السابقة .
أوغلو قال مؤخرًا خلال كلمة اجتماع لحزب العدالة والتنمية الحاكم “سألتقي بوزير خارجية مصر على مائدة الإفطار في إسطنبول، خلال رمضان الحالي، إذا لم يكن هناك أي طارئ”. وذلك في الوقت الذي أكدت فيه تقارير تركية الأسبوع الماضي، تسمية صالح موتلو شين، سفيرًا لبلاده في مصر. وهو قرار يأتي بعد 9 سنوات من خلو المنصب. وقد خلا المنصب في أعقاب توتر العلاقات بين البلدين بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي وجماعة الإخوان.
إتمام مثل هذا اللقاء يعني أن هناك توافقات ما تلوح في الأفق بشأن الأزمة الليبية. خاصة وأنها أحد الملفات العالقة التي تعطل عودة العلاقات لطبيعتها بين القاهرة وأنقرة، بحسب تصريحات لرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في العاشر من سبتمبر 2021. قال حينها “إن إحدى القضايا الرئيسية لمصر هي تدخل تركيا في ليبيا. ونود أن يحدد الليبيون مستقبلهم. لا ينبغي أن تتدخل دول أخرى في ليبيا، أو تحاول التأثير على صنع القرار فيها”.
أزمة ليبيا بين مصر وتركيا
ورغم أن تركيا تدعم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. إلا أنها لن تقف حائلًا أمام تولي باشاغا المدعوم مصريًا زمام الأمور حال جرى توافق بشأن ذلك.
منتصف فبراير الماضي كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبالتحديد عقب زيارته الاستثنائية لدولة الإمارات على توضيح موقف بلاده بشأن الأزمة الليبية في أعقاب تكليف مجلس النواب لباشاغا. قال: “أعلن فتحي باشاغا ترشحه، علاقاتنا معه جيدة، من ناحية أخرى العلاقات طيبة أيضا مع الدبيبة. والمهم هو من يختار الشعب الليبي وكيف”.
حال حدوث مقاربة مصرية تركية حتما سينعكس ذلك إيجابًا على الوضع في ليبيا، التي يعول عليها الطرفان كثيرًا. سواء فيما يخص عقود إعادة الإعمار أو فتح أسواق جديدة ومسارات من شأنها أن تحد من التداعيات الاقتصادية العنيفة للحرب الروسية على أوكرانيا.
ختامًا يمكن القول إنه رغم الضبابية الشديدة التي تسيطر على المشهد في ليبيا. إلا أن سيناريو الحرب رغم الحديث من وقت لآخر بشأن تحشيد عسكري هنا وهناك بات أمرًا مستبعدًا. ذلك لأسباب كثيرة، أبرزها عدم سماح القوى الدولية الكبرى بهذا السيناريو. خاصة في ظل الأزمات المتتالية التي تشهدها الأسواق العالمية على وقع الحرب الروسية في أوكرانيا. كذلك المقاربات الدولية التي تمت مؤخرا. وجاء في مقدمتها المصالحة التركية الإماراتية، والتي تعد من بين ضمانات غياب الحلول العسكرية للأزمة في ليبيا. ذلك بعدما كانت أبوظبي لفترة طويلة أحد المحفزين للخيارات العسكرية عبر حلفائها في معسكر شرق ليبيا.