إنك لن تفهم أسرار الاقتصاد إلا لو بحثت في التفاصيل، وفطنت إلى طبيعة تكوين المتغيرات الحاكمة للوضع الاقتصادي لأية دولة، خاصة تلك التي تتوارى خلف البيانات الصحفية للمؤسسات والهيئات. كذلك لا يجوز أن تغرق في تفاصيل غير معنوية ملتفتاً بها عن حقيقة الصورة الكلية لحال الاقتصاد. إدارة الأسواق المالية غير المصرفية في مصر تحمل مثالًا واضحًا على تنميق التقارير والبيانات الإعلامية والدعوة إلى المؤتمرات وورش العمل وإطلاق المبادرات.. مع انفصالها التام عن واقع الأسواق.
ما قيمة تبنّي هيئة الرقابة المالية مثلا مبادرة لتحقيق المساواة بين الجنسين في مجالس الإدارات، إذا كانت مجالس الإدارات كلها على اختلاف أنواع أعضائها تعاني من صعوبات في التعاطي مع التغيرات المستمرة في قواعد اللعبة، والمتمثلة في التشريعات واللوائح والقرارات المنظمة للأسواق، بصورة ساهمت في نفور الاستثمار الأجنبي قبل المحلي، ووضعت البورصة المصرية في ذيل قائمة البورصات من حيث الأداء للعامين الماضيين؟ ما قيمة مبادرات نشر الوعي المالي إن كان مزيد من الوعي يقتضي مقاطعة الأسواق التي يغيب عنها الحد الفاصل بين دور الرقيب ودور “الشريك المخالف” الذي يتدخل في كل صفقة لعرقلتها، وفى عمليات تداول لإلغائها، بل وفي انتخابات مجالس إدارات الشركات لاختيار مرشحين واستبعاد آخرين من غير أولي الحظوة؟!
تفاصيل كثيرة تلفتنا عن الصورة الكلية لكل من أسواق المال والتأمين والتمويل العقاري والتي اجتمعت كلها تحت رقيب واحد منذ عام 2008. منذ ذلك التاريخ نجحت الهيئة خلال عامين من إنشائها في العبور فوق تفاصيل عملية الدمج بين المؤسسات المتمثلة في هيئات سوق المال والرقابة على التأمين والتمويل العقاري، وكان يرجى بعد إتمام الدمج وتسوية العقبات الخاصة بهياكل الأجور واللوائح الخاصة بكل هيئة أن تزداد كفاءة تنظيم الأسواق، وأن ينعكس ذلك الدمج على تحسن مؤشراتها بشكل يبرر اتباع نموذج الرقيب المالي المزدوج (بمعنى رقيب مالي مصرفي متمثلًا في البنك المركزي ورقيب مالي غير مصرفي متمثلًا في الهيئة العامة للرقابة المالية).
لكن الواقع كان مخالفًا لكل التوقعات، فمنذ إنشاء الهيئة الجديدة وبعد تهيئة وضع خاص لها بدستورنا الجديد، تراجعت كافة مؤشرات أداء السوق الثانوي وفي مقدمتها نسبة رأس المال السوقي للشركات المقيدة إلى الناتج المحلى الإجمالي. فعشية الأزمة المالية العالمية عام 2008 تجاوزت تلك النسبة 103% بينما تقل اليوم عن 10% في دلالة قاطعة على أن البورصة قد انفصلت عن الاقتصاد، ولم يعد من المناسب وصفها بمرآة الاقتصاد المصري. من ناحية أخرى تراجع أداء السوق الأولي على نحو ملحوظ لدرجة ان برنامج الطروحات الحكومية عام 2005 قد حقق نجاحاً باهراً إذا ما قورن ببرنامج أكثر طموحاً تم إطلاقه بعد تعويم نوفمبر 2016 ولم يتحقق 10% منه حتى اليوم، بل لم تتمكن الحكومة من استغلال البورصة إلا لبيع حصص رمزية من بعض الشركات وذلك عبر طروحات خاصة في أغلبها، إذ لم تتعد نسب الطرح العام إلا الكسور، على النقيض مما حدث في طروحات شركات سيدى كرير وأموك والمصرية للاتصالات عام 2005.
مؤشر آخر على تراجع أهمية البورصة في مصر هو التركّز القطاعي في مؤشرات السوق وتحكّم ورقة مالية واحدة تمثل قطاعاً واحداً في مؤشر البورصة الرئيس EGX30. كما ان نسبة تعاملات الأجانب وعدد العمليات ونسبة تعاملات المؤسسات كلها أسوأ من نظيرتها قبل اندماج الهيئات.
من ناحية أخرى نرى أن أهم مؤشرات سوق التأمين هو ما نطلق عليه معدل الاختراق penetration rate ويتم احتسابه بقسمة إجمالي أقساط التأمين في الدولة على ناتجها المحلى الإجمالي، وتلك النسبة لا تتخطى في مصر 0.11%! وهي في الولايات المتحدة تصل إلى 12%. فإذا كانت دولة بها ما يزيد عن مائة مليون مواطن وتتعدد بها المخاطر المالية، وتمثل حوادث الطرق بها نسبة مرتفعة جداً عالمياً… وعلى الرغم من كل هذا لا يبلغ فيها معدل الاختراق التأميني حتى ثمن في المائة! فكيف تصدر بيانات من قطاع التأمين تشيد بتحسن الأداء، وأى تفاصيل غير هامة تلك التي يراد بها أن تلفتنا عن الصورة الكلية وتفاصيلها الهامة والمعنوية؟!
بالنسبة للتمويل العقاري (وفقًا لورقة بحثية للباحث أحمد فتيحة)، فعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على صدور القانون المنظم له، إلا أن أداء سوق التمويل العقاري مازال مخيبًا للآمال. فقد بلغ حجم القروض العقارية القائمة بنهاية 2021 حوالي 52 مليار جنيه ما يمثل أقل من 10% من حجم القطاع العقاري والإنشاءات البالغ 676 مليار بنهاية العام المالي 2021. وتشير هذه الأرقام إلى اعتماد السوق العقاري على الدفع النقدي أو أشكال أخرى من التمويل مثل الإقراض بضمان الشيكات. كما لا يتعدى حجم التمويل العقاري 2% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بنسب تفوق 10% في جنوب افريقيا وتونس، وتفوق 6% في تركيا وهي النسب نفسها التي تعتبر منخفضة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة. وبتحليل أسباب الضعف يتضح أن العامل التنظيمي غاية في الأهمية وخاصة ما يتعلق بتسهيل تسجيل العقارات، فأين جهود الجهة المنظمة في هذا الإطار؟!
وعلى الرغم من كل تلك الإخفاقات التي حققها أطراف الأسواق الثلاثة، وعلى الرغم من زيادة حجم وأعباء الدعاوى القضائية التي أصبحت الهيئة الموحّدة طرفاً فيها فضلًا عن الأزمات الأخرى…تبشرنا هيئة الرقابة المالية بأنها حققت فوائض مالية كبيرة من تحصيل الغرامات ومقابل الخدمات بل ومقابل طلبات التظلم! ليصل المبلغ المتبرع به إلى جهة واحدة فقط نصف مليار جنيه! على الرغم من كون تحقيق الأرباح ليس من أهداف الهيئة، وتلك لطيفة هامة فإذا كانت الهيئة الحكومية ليست أكفأ مدير للأموال فكم كان من الممكن أن تصنع تلك الملايين في يد أصحابها إذا ما بقيت في حوزتهم أو في القليل تم ردّها إلى الأسواق بشكل عادل؟! لا أحد يهتم..
النتيجة أن فرصًا ضائعة كبيرة حققها الاقتصاد المصري بعد تحريرين لأسعار الصرف كان من الممكن أن يتسببا في جذب مئات المليارات (غير الساخنة) لو أن السوق يتمتع بالكفاءة والاستقرار، ولو أن السيولة لم يتم سحبها إلى أسواق أخرى مثل العقارات والذهب وشهادات الادخار على خلفية نفور المستثمر من سوق المال، والتي كان أحدث مظاهرها ما أوردته شبكة بلومبرج من انسحاب مصرف أبو ظبي الأول من صفقة الاستحواذ على نسبة حاكمة في بنك الاستثمار “هيرمس”، معللة ذلك ببطء الرقيب وباضطراب الأسواق. وإذا كان البعض يعاتب الحكومة على بيع حصص في شركات هامة وبنك كبير لصندوق سيادي عربي بأسعار متدنية، فوحدها السوق الثانوية النشطة ذات السيولة هي التي لا تبخس أسعار الأسهم، وهي التي توفر بدائل لطرح الأسهم بخلاف البيع لمستثمر استراتيجي.