إهداء: إلى كاميل جسور وصابر رشدي اعترافا بفضل المحبة الداعمة والروح النقية
(فردوس مهجور)
وحشتني الثقافة، وحشتني السينما، وحشتني المناقشات في الإبداعات الجديدة، وحشني الشعر وتبادل قراءته في ليالي السمر، وحشني الأدب والفن التشكيلي ومقالات الفلسفة ونظريات النقد الجديدة والحكايات السرية للداديين والسورياليين والفوضويين وعصبية الكائنات الملسوعة بحلم الثورة وهاجس التغيير، وإخلاص المنتظرين لأشياء لا تأتي، وبرغم ذلك لا يمكن الانصراف عنها وإنهاء شغف انتظارها وشهوة التفكير في لحظة وصول جودو.
لا أصدق أبدا أن ذلك “الفردوس المهجور” قد انتهى وصار “مجرد خرابة سوء” خلف سيرك القوة الغاشمة، أو “مجرد قتيل منسي” في المعركة الحقيرة التي انتصر فيها الإعلام على الثقافة، فطغى الميديوكرز على الموهوبين، وآلت سلطة الكلام للمدعين لا للمبدعين..
شيء ما يظل يذكرني بالحلاج وجوردون كريج وجمال حمدان والسيدة فلانجن وأروى صالح وموراكامي وعبد الحميد الديب وستانسلافيسكي وبريخت وأحمد عبيدة وبوشكين وإبراهيم فهمي وأمادو وابن دقيق العيد ونيرودا ونجيب سرور وإدواردو جاليانو ويحيى الطاهر عبد الله والسيد بالومار…
وهذا ما أستأذنكم في الكتابة عنه في هذا المقال الاستثنائي الذي يضغط على أعصابي ويعطلني عن الكتابة في القضايا المطلوبة في سوق القراءة هذه الأيام، فربما لو تخلصت من هذا الضغط بمجرد رثاء أو تأبين للثقافة المؤودة أتمكن من تجرع الأصناف الرائجة على موائد الكلام العام
(حياة بالومار)
من بين الأسماء السابقة كلها يتميز “السيد بالومار” بأنه ليس شخصية حقيقية، لكنه اسم مرصد فلكي في الولايات المتحدة، انشغل به الأديب الإيطالي المدهش إيتالو كالفينو، حتى اختاره قناعا لتأملاته وأفكاره ومراجعته لحياة الإنسان قرب نهاية الرحلة، ووضع كالفينو تأملاته تلك في رواية مبهرة ومسلية، برغم أنها “عميقة الأسى”، والجميل في رواية “السيد بالومار” مالم يكتبه كالفينو عن “العمق”، فقد رأى أن الاهتمام بالسطح يكفي، فالسطح مليء بتفاصيل ومشاهد وفيرة لا ينتهي فيها الحديث أبدا..
في البدء كان كالفينو يفكر في كتابة رواية برأسين: “بالومار وموهول”، الأول يمثل الرصد الخارجي للعالم والتطلع نحو السماء والنظرة الكلية (مرصد فلكي بقى) و”موهول” يمثل العمق، والاسم مستعار من مشروع لسبر أعماق الكرة الأرض بما يمثله ذلك من صعوبة الظلام والغموض والغوص في الباطن.
وضع كالفينو خطة بأن يبدأ ببلورة شخصية وتأملات بالومار، ثم يكتب الجانب المقابل في شخصية موهول، لكنه استغرق في تأملات بالومار ورأى أنها تكفي، لأن الوصف اللانهائي للظواهر يحمل في طياته فكرة كافية عن العمق حتى لو لم “نخرق الأرض”، فالتفاهة تكفي لإدراك عكسها عن طريق غيابه وليس حضوره، وربما لهذا تركزون مثلي على كل شيء غائب، وربما لهذا اكتفيت باستعادة أسماء الموتى واستبعدت أسماء شخصيات “موهولية” جميلة حاضرة في حياتنا، لا أقول تعيش بيننا، ولكن استخدم تعبير كالفينو: “كائنات تعلمت أن تموت وهي حية” أي أنها تحمل كل جمال الأموات ومحاسنهم، لكنها تتنفس وتتعامل مع الغلاء والأسعار وانهيار الأخلاق وانتشار القبح، لكن دون أن تسقط في المستنقع، لأنها تستمد من الأموات قدرتهم العظيمة على تجاهل المشاكل، والتعايش مع الألم من غير أن يقتل الأمل.
(موت هدهود)
كتبت بوست للمقارنة بين موت الفدائي الفلسطيني رعد فتحي وحياة اللواء هدهود الذي استقال بعد فضيحة اقتناص ميدالية بطوبة لم يلعب فيها!! قلت فيها: “خير لك أن تموت كرعد من أن تعيش كهدهود” وبعد أيام قليلة قرأت خبرا عن موت أيمن هدهود في مقر احتجاز رسمي داخل قسم المتهمين بمستشفى الأمراض النفسية، على خلفية احتجاز أمني، وشعرت بأن البوست يتضمن إساءة لقضية المحتجز القتيل في معرض السخرية من سلوك لواء يحمل الاسم نفسه، دفعني “العمق” إلى تجنب الالتباس القبيح الذي يؤدي إليه السطح، ثم شعرت بعبثية موقفي: هل يفيد العمق في استعادة أيمن هدهود لحياته أو لضمان موته بطريقة سلمية لا تثير أسئلة غامضة ومطالبات بسبر الأعماق المظلمة؟!
اقرأ أيضًا: النيابة تُسدل ستار التحقيقات على وفاة الباحث أيمن هدهود
كتبت مطالبا بالحقيقة، وقرأت تعليقا من صديق يقول: هناك حقيقة واحدة وعداها تضليل: لقد قتلوه، ارتديت ثياب الحكمة وقلت له علينا أن نسأل لتلقي إجابة، وعلينا أن نحكم بعد التحري والتحقيق، لا يجب أن نهدر فكرة التحقيق والدراسة العميقة لأي قرار. ثم سألت نفسي مرة أخرى عن جدوى بيانات الشرطة والنيابة العامة وتقرير الطب الشرعي وشهادات الأهل بالنسبة لرجل مات في ظروف تحملها وحده أثناء حياته؟
ما فائدة أن أعرف المشاكل التي تعرض لها هدهود الثاني بعد موته، بينما تعرفت على مشاكل هدهود الأول في حياته؟!
أوجعني التفكير بعمق في مأساة لا أملك حلا ولا إسهاما جيدا فيها وفي غيرها، ورأيت أن الجميع يرتاح لوصف ما حدث، النيابة تصف، والطب الشرعي يصف، والناس تكرر وتستمع بالوصف حتى عن التعذيب والإهمال الطبي أو وسائل الاحتجاز وعلاقته بالقانون وضمانات إبلاغ المحامين والأهل، كل هذا لا قيمة له عند هدهود الثاني وأمثاله الذين يعيشون معاناة لا نعرفها ولا نفيد فيها، ثم نتدخل ونساهم بوصف ما حدث بعد أن يتخلص هؤلاء من معاناتهم بالحل السحري العظيم: الموت
(لا تطلب من بشر ما يختص به إله)
نحن نكتفي بوصف العالم، لأننا في الحقيقة لا نملك أية حلول، فالقتل معروف من بدء الخليقة ولم نستطع إيقافه، ربما لذلك ندور حول الموضوع ونحب أن نتحدث عنه، ونطالع أخباره بشغف في صفحات الجريمة، ليس القتل وحده الذي لم نستطع التخلص منه، لدينا الجشع والسرقة والرغبة في النفوذ وممارسة التسلط على الآخرين والنزوع الخفي أو الصريح إلى البقاء والخلود، ولدينا عالم واسع مثل السيد بالومار (ومثل كالفينو نفسه) لا يملك إلا الوصف.. كل لغتنا وممارساتنا صارت وصفية للظواهر التي نعيشها، ازدهر الحديث عن الفلك والظواهر الفلكية وتنتشر المراصد بينما فشل مشروع الوصول إلى نواة الأرض، فالفلك يعني السماء والنور والتطلع لأعلى بينما سبر الأعماق يعني الظلام والاختناق والنزول إلى أسفل..
“بالومار” يبدو أكثر إنسانية من “موهول”، لأنه يتصرف حسب قدرته كبشر ولا يتوهم أنه إله، الآلهة له دور لا تستطيع القيام به مخلوقات، وهذا يدعونا للتفرقة بين ما نطلبه من الناس (مثل بالومار) وما ننتظره من الآلهة (مثل أرباب العمل والحكم وكل المسؤولين الذين يملكون القرارات، فالإله الواحد موضوع خارج جدالنا، نحن نتحدث عن أرباب الأرض التي تهمل فكرة الحساب وتمارس الجور وانتهاك القواعد.
يبدو هذا المقطع تفهما وتبريرا لعجز بالومار عن تغيير الواقع والاكتفاء بوصفه، لكن المؤسف أنني عشت معظم حياتي كمهندس في مشروع موهول، الذي انصرف عنه الممولون وانصرفت عنه اهتمامات الناس وأوشك على الإفلاس، وبالتالي لم أتمكن من تحصيل خبرة بالومار في تأمل نهد عار لحسناء تتمدد على شاطئ في حمام شمس، وإثارة أسئلة من نوع: أنظر أو لا أنظر؟ بوصفها قضية أخلاقية وعلمية تستحق التفكير والتأمل لوقت طويل
(عودة إلى الأدب)
قبل سنوات قليلة اتصل بي أديب كبير ومقدر، والتقينا في نقاش إنساني وأدبي وسياسي رفيع المستوى، كانت نتيجته أن أعلن الأديب الموقر عن اعتزال كتابة المقالات في الشؤون العامة تحت شعار “العودة إلى الأدب”، وعاش مثل بالومار يكتب كتابة مستفيضة عن “غناء الشحرور” ويصف أسراب الحمام في سماء المدينة ويسأل عن معنى الصمت المطلق والصمت بين الكلمات…
أتذكر كلمات كالفينو في زاويته الأدبية بصحيفة “ريبابليكا”: “عندما أصف أسراب الطيور المهاجرة في سماء روما أثناء الخريف، كنت أعرف أنني لا أقول شيئا مفيدا، لكنني كنت أقوم بتمرين أدبي غير نافع لإتقان الوصف، مثل وصف سلحفاتين في حديقة أو أنواع الطعام في فصل “بالومار يتسوق”، وهذا صادق لأن بالومار لا يجب أن يظهر كفاءات لا يملكها في الحديث عن العلم أو حلول المشاكل..
كان بالومار يتصور أنه يستغرق في الوصف ليتعلم الحكمة خطوة بخطوة، لكنه اكتشف أن الوصف التهم الوقت وأنه قضى عمره يكرر الحكايات عن الخيبات دون أن يجد مخرجا منها، وهكذا أدى الاستغراق في الوصف إلى استهلاك الزمن، ولما شعر بالومار بنفاذ الزمن قرر التوقف عن الوصف والتفكير في الموت، وحينها مات..
ليس بالومار الذي مات (ربنا يعطيك طولة العمر) لكن كالفينو هو الذي مات، وكانت هذه الرواية العجيبة تغريدته الأخيرة.
(من الميت فينا؟)
أي الهدهودين ميت وأيهما حيّ؟، وهل هناك تاريخ محدد يفصل بن الحياة والموت؟ بمعنى هل كانت حياتهما حياة فعلاً؟
أترككم لتأمل إجاباتكم على الأسئلة الغريبة، واقتطف من رواية كالفينو (بإيجاز) هذا المقطع من الفصل الأخير بعنوان “أن تتعلم الموت”، ربما يساعد في شيء لا أعرفه:
“قرر السيد بالومار أن يتصرّف كما لو كان ميّتا ليرى كيف يسير العالم من دونه؟ لقد أدرك أن الأمور بينه وبين العالم تغيرت، وأن كليهما لا ينتظر شيئا من الآخر، لذا من المريح للطرفين أن يتعلم بالومار كيف يعيش وهو ميت، حينها سيتوقف عن الاهتمام بمشاكل العالم وما يدبّره ضده، وبرغم صعوبة فكرة الموت وأنت حي إلا أن بالومار اهتدى إلى أنه لا يحتاج إلى جهد في ذلك، لأنه ميت فعلا، فهو غير مؤثر في العالم، والعالم لا يهتم بوجوده وحياته، وبالتالي من السهل أن يتصرف كمّيت من دون أن تحدث مشكلة له أو للعالم، ومن دون أن يتغير شيء..
(نصيحة مجربة)
تحسس رأسك… قد تجد مكانها شاشة موبايل.