أخذ الصراع الداخلي على النفط في ليبيا مؤخرا بعدا دوليا. في ظل احتدام الصراع السياسي. بين حكومتي الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، و”الاستقلال ” المكلفة من جانب مجلس النواب، والتي يقودها فتحي باشاغا. الذي يحظى بدعم المشير خليفة حفتر المسيطر بحكم الأمر الواقع على العديد من المنشآت النفطية المهمة.
تحول القطاع النفطي لورقة في الصراع السياسي رافق الأزمة الليبية في بداياتها. وتعرضت المؤسسة الوطنية للنفط التي تحتكر عمليات الإنتاج والتصدير عبر شركائها لضربات موجعة. أثّرت على البنية التحتية للقطاع، وفاقمت المصاعب الفنية التي أدت إلى تضاؤل حجم الإنتاج ومراكمة المشاكل. التي أعاقت العودة بمستويات الإنتاج إلى ما قبل عام 2011. وهي مشاكل ألقت بظلالها على الاقتصاد الليبي. الذي يعتمد بشكل كلي على عوائد بيع الطاقة في تغطية ميزان المدفوعات وتوفير النقد الأجنبي. مما يجعل ملف الطاقة النفطية ورقة ضغط رابحة وشديدة الحساسية على الصعيد الداخلي والخارجي.
الحرب الروسية تعزز قيمة النفط كسلاح في الأزمة الليبية
عادت الأطراف الليبية مؤخرا لاستعمال سلاح النفط لتسوية صراعاتها السياسية. في ظل ظرف دولي حساس، كسرت فيه أسعار البترول سقف الـ100 دولار للبرميل، بسبب تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا. وذلك في محاولة كل طرف من أطراف الصراع لاستمالة العواصم الغربية -وفي المقدمة منها واشنطن- إلى صفه. وذلك في الوقت الذي ينظر فيه إلى ليبيا كإحدى البدائل التي من شأنها المساعدة في تجاوز أزمة النفط والغاز الروسي. خاصة أنها تملك أكبر احتياطي للنفط في أفريقيا، بخلاف احتياطات هامة من الغاز معظمها غير مستغل.
في بداية عام 2020 في خضم حملته العسكرية على طرابلس. فرض حفتر حصارا نفطيا استمر لأشهر، لكن فشل هجومه على العاصمة لاحقا أقنعه بالتخلي عنه. وتكبدت البلاد حينها خسائر قدرت بنحو 10 مليارات دولار.
فيما تسببت موجة الإغلاقات الأخيرة في خسارة 600 ألف برميل. تعادل نصف إنتاج ليبيا اليومي من الخام بعد غلق حقول نفطية. من بينها حقل الشرارة الأكبر في البلاد، ومينائي البريقة والزويتينة.
منذ بداية الأسبوع الماضي، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط، حالة “القوة القاهرة”. وتعليق العمليات في شرق البلاد، فيما يستمر إغلاق ستة حقول نفطية في الجنوب والشرق.
ويمثّل إعلان حالة “القوة القاهرة” تعليقًا موقتًا للعمل. وحماية يوفرها القانون للمؤسسة في مواجهة المسؤولية القانونية الناجمة عن عدم تلبيتها العقود النفطية الأجنبية. بسبب أحداث خارجة عن سيطرة أطراف التعاقد.
بدلًا من حفتر
توالت البيانات الصادرة عن مجموعات ليبية تنتمي لمناطق خاضعة لسيطرة حفتر، تضم الموانئ والحقول النفطية. يعلنون خلالها إيقاف إنتاج وتصدير النفط حتى تسليم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة. السلطة للحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا. وإقالة رئيس مؤسسة النفط مصطفى صنع الله، الموالي لحكومة الوحدة. التي لاتزال تحظى بدعم واعتراف دوليين.
وأعلنت مجموعة تصف نفسها بـ”أهالي وأعيان وسكان بلدية الزويتينة”. بوقف ميناء الزويتينية النفطي حتى يتم تسليم الدبيبة السلطة لحكومة باشاغا. وضمان التوزيع العادل للموارد النفطية بشكل متساوٍ بين المناطق الليبية كافة. وأعقب ذلك بيان متطابق صادر بشكل متزامن من مجموعة وصفت نفسها بـ”أعيان الجنوب الليبي”.
تبع ذلك أيضا إعلان مجموعة قالت إنها تمثل “مكونات اجتماعية وقبلية في الجنوب”. إيقاف إنتاج وتصدير النفط من حقل الشرارة جنوب غرب ليبيا.
تضمنت البيانات الثلاثة تمسك بتسليم الدبيبة السلطة للحكومة المكلفة. وربما يكون ذلك إدراكا من جانب رعاة تلك التحركات لما يمثله النفط كسلاح في هذا التوقيت الذي تتصاعد فيه أزمة الطاقة العالمية، خاصة وأن البيانات صادرة عن مجموعات مدنية مجهولة، في وقت يخشى فيه حفتر من التعرض لعقوبات غربية حال ظهر بالصورة.
رسائل المجموعات المجهولة
ثمة رسالة أخرى تكمن خلف صدور البيانات عن مجموعات مجهولة، مفادها أن الفوضى والعشوائية التي سيخلفها تمسك الدبيبة بموقعه، بدعم غربي أو أممي ستطال المصالح الغربية لدى ليبيا.
خطوة البيانات الصادرة عن مجموعات مجهولة، جاءت ربما لتفادي رسائل التهديد شديد اللهجة التي بعثت بها الإدارة الأمريكية، لأطراف الصراع، والمتعلقة باستخدام الاقتتال العسكري كحل للأزمة، وسط تحذيرات من عقوبات قاسية من شأنها أن تفقد الطرف الذي سيقدم على تلك الخطوة أية شرعية سياسية لاحقا.
باشاغا كان قد رفض سابقا -خلال توليه حقيبة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني السابقة- استخدام سلاح النفط. من جانب حفتر المسيطر على أكبر حقول إنتاج النفط الليبي. وذلك قبل أن يلجأ لاستخدام السلاح ذاته عبر آليات مختلفة. لتفادي الضغوط الدولية عليه.
وبموازاة رسائل المنع، حرص باشاغا، على نقل رسائل أخرى للقوى الغربية. مؤكدا خلال حوار مع صحيفة التليجراف “إن ليبيا يمكن أن تساعد في تعويض النقص في إمدادات النفط الروسي إذا ساعدها الغرب على التعافي من سنوات الحرب”. موضحا أنه “من خلال الروابط التجارية التي تأسست، يمكن تحسين حياة الشعب الليبي وتوفير الموارد التي نعلم أن أوروبا والعالم بحاجة إليها”.
تقاطع مصالح روسي أمريكي أمام محابس النفط الليبي
في مارس الماضي، أغلق مسلحون بمنطقة الزنتان إحدى مدن الغرب الليبي التي تبعد عن العاصمة بنحو 170 كيلو متر، صمام خط نفط حقلي الشرارة والفيل، والذي يربطهما بميناء مليتة النفطي، ما أفقد ليبيا 330 ألف برميل يوميا من صادراتها النفطية، في ذروة ارتفاع أسعار النفط، وهو الأمر الذي فجر غضب الإدارة الأمريكية التي كانت تقود تحركات وتمارس ضغوطا على الدول المصدرة للنفط لزيادة صادراتها للسوق الدولية من أجل استقرار الأسعار، نتيجة الاضطراب الناجم عن الحرب الروسية على أوكرانيا.
طالب حينها المبعوث الأميركي إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، بفك الحصار عن النفط فورا، ولكون الزنتان، تقع في منطقة سيطرة حكومة الوحدة، أمر الدبيبة، قواته بالتحرك لفتح الصمامات بشكل عاجل.
لكن خلال الأزمة الراهنة أمام توالي عمليات الإقفال للحقول والموانئ النفطية، الواقعة في مناطق خارج نطاق سيطرة حكومة الدبيبة جعل الأمر أكثر تعقيدا.
من شأن غلق حقل الفيل والزويتينة، تقليص صادرات ليبيا النفطية التي وعد الدبيبة بزيادتها استجابة للطلبات الأميركية والغربية، وأيضا نكاية في روسيا التي تدعم حكومة باشاغا، وهو ما ظهر واضحا في تصويت ليبيا لصالح إدانة “الغزو الروسي لأوكرانيا”، كما أنها كادت أن تكون الدولة العربية الوحيدة التي أيدت “تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان”، في تصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
موسكو، التي تنحاز لحكومة باشاغا من مصلحتها تراجع صادرات النفط الليبية، لأنه يعقد المساعي الغربية لوقف استيراد المحروقات من روسيا.
كما يساعد انخفاض صادرات ليبيا من النفط على إبقاء الأسواق الدولية تحت الضغط بما يصب في مصلحة روسيا التي تؤدي دورا رئيسيا في ليبيا من خلال دعم حفتر عسكريا بمرتزقة شركة “فاغنر” الخاصة المرتبطة بالكرملين والتي تنتشر في شرق وجنوب البلاد، بل وحول بعض المنشآت النفطية.
هدف مزدوج
بخلاف البعد الدولي لخطوة إغلاق الموانئ والحقول النفطية، مؤخرا، يسعى معسكر الشرق حرمان حكومة الدبيبة من أموال النفط، وبالتالي إجبارها على الاستقالة، بعد تجفيف منابع تمويلها، خاصة في الوقت يوجهون فيه الاتهامات للدبيبة باستخدام إيرادات النفط لتمويل مشروعات إنفاق شعبوية يعتبرونها أيضًا من قبيل الدعاية الانتخابية.
وكانت الشرارة التي أشعلت فتيل أزمة الإغلاق الأخيرة، هي الاتفاقية التي أبرمت بين مؤسسة النفط وحكومة الدبيبة في الثالث عشر من إبريل، والتي نصت على تحويل 8 مليارات دولار من عائدات النفط إلى خزائن حكومة الوحدة في طرابلس، وكانت بمثابة تعزيز لقدرات الدبيبة على الاستمرار في موقفه.
ثمة هدف آخر يسعى له معسكر شرق ليبيا من وراء التحركات الأخيرة التي طالت القطاع النفطي، وهو فرض إدارة دولية لهذا القطاع، بالشكل الذي يحرم الدبيبة من استخدامه.
عقوبات غربية تعزز أهمية النفط الليبي
ما كشفته تقارير غربية بشأن عقوبات مرتقبة على قطاع النفط الروسي، من شأنه أن يزيد فاعلية النفط الليبي كأداة من أدوات الصراع السياسي في البلد المضطرب منذ عام 2012.
مجلة “بوليتيكو” الأمريكية ذكرت أن الاتحاد الأوروبي يستعد للإعلان قريبا عن حزمة جديدة من العقوبات على روسيا في ظل عمليتها العسكرية المتواصلة في أوكرانيا، وبحسب الصحيفة فإن دبلوماسيون أوروبيون أكدوا أن الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية التي قد يعلن عنها الاتحاد الأسبوع القادم ستشمل “نوعا من الحظر على استيراد النفط الروسي”.
ووفقا للمجلة الأمريكية فإنه من المرجح أن يخص الحظر أنواعا محددة من النفط الروسي وأساليب معينة لنقله بحرا أو عبر خطوط الأنابيب.
طبيعة الخطوة الاوروبية المرتقبة ومدى شموليتها ستحدد بدرجة كبيرة، حجم وطبيعة الضغوط التي ستمارسها القوى الأوروبية على أطراف المشهد الليبي خلال الفترة القادمة، في ظل توجه الأنظار نحوها كبديل جاهز لتعويض جزء من النفط الوارد للدول الأوروبية من روسيا.