يضع البطل “ماهر” (الاسم الذي يبدو كإحالة للشخصية التي مثلها عادل إمام في فيلم “المشبوه”) ساعته فوق عربة صغيرة كي يتوضأ، فتنطلق مغادرة ويجري ماهر وراءها مسرعًا للحاق بساعته.
هكذا أراد صناع مسلسل “المشوار” أن يبدأوا عملهم الدرامي. وهذا ما أرادوا قوله.. البطل في صراع مرير يحاول اللحاق بالوقت.
اتفاق ضمني بين صناع العمل والمشاهدين على توقع إيقاع لاهث، كمطاردة ماهر للعربة، لهذه الملاحقة للوقت والهروب من عدو يتضح مع مرور الحلقات.
إيقاع يدفع للأمام نحو قدر الأبطال في نهاية تلك الرحلة. لكن الطرف الأول (صناع المسلسل) لم يلتزم على ما يبدو بذلك الاتفاق. فالأزمة إذًا ليست مطلقة في تمهل إيقاع الأحداث أو في تعود جماهير التليفزيون على الإيقاع الأمريكي المبالغ في سرعته أحيانًا والذي يغزو الشاشات، ولم أراه يتحقق على أي حال في أغلب مسلسلات هذا الموسم الرمضاني.
فالجميع يعيد ويكرر في مشاهد حوارية لا تدفع بالأحداث في أي اتجاه. كما أنه من غير الإنصاف الاعتقاد بعدم قدرة صناع المسلسل على غزل ذاك الايقاع. فنفس كاتب السيناريو “محمد فريد” هو من كتب مسلسل “هذا المساء” الذي كان مثار إعجاب الكثير من جماهير التليفزيون ونقاده.
كما أن مخرج العمل “محمد ياسين” هو مخرج أعمال سينمائية وتليفزيونية ناجحة كثيرة، منها مسلسلات “موجة حارة” و”أفراح القبة”. إلى جانب وجود مدير التصوير “عبد السلام موسى” بقدرته على خلق عالم بصري مبهر، وإشراف المونتير المتمرس “محمد عيد” على عملية المونتاج. فأين أصل الخلل؟
مواسم الهجرة للتليفزيون..
مر الإنتاج السينمائي في مصر بفترات من الكساد، تقلص فيها بشدة عدد الأفلام التي يتم إنتاجها، فاتجه بعض المخرجين السينمائيين في تلك الفترات.
وقد كانت أقرب تلك الفترات ما بعد العام 2011. حيث هاجر إلى التليفزيون مخرجين مثل “محمد ياسين” و”كاملة أبو ذكري” و”تامر محسن”، فظهرت أعمال تليفزيونية تحمل العناصر الفنية البصرية المميزة للسينما مثل “ذات” و”موجة حارة” و”بدون ذكر أسماء”.
أعمال ارتبط نجاحها بلا شك بما هو أبعد من جودة العناصر الفنية. فالظرف الاجتماعي والسياسي الاستثنائي في تلك اللحظة أعطى مجالًا غير مسبوق لتلقي أفكار وتقنيات لم تكن معتادة تليفزيونيًا، تحديدًا من حيث طريقة الكتابة التي تستغرق أكثر وتهتم بعرض الشخصيات على مهل دون حصر التركيز على تلاحق الأحداث، كما من حيث تقنيات التصوير والإضاءة الأقرب لروح شاشات السينما.
عودة للحاضر..
بعد حوالي 11 عامًا من تلك اللحظة، ومع تغير تلك الظروف الاجتماعية والسياسية، تغير معها بالتبعية المزاج العام للمشاهدين وما يرغبون في مشاهدته، فأصبحوا أكثر ميلًا لمشاهدة ما هو أخف وما يمكن الاستئناس به بدون ضغوط أو حاجة للتركيز. وبقى العامل المشترك هو ضعف الإنتاج السينمائي كمًا وكيفًا.
كما استمر، كالعادة، التركيز الأكبر للمشاهدة التليفزيونية على المسلسلات المنتَجة خصيصًا للموسم الرمضاني. إلى جانب رغبة أغلب الجهات الإنتاجية في التوفير لأقصى درجة ممكنة في العملية الإنتاجية لتحقيق أقصى عائد ممكن. فنرى أوقات مضغوطة لجداول التصوير تؤدي إلى عدد لا إنساني من ساعات التصوير لا يمكن أن يؤدي إلا لجودة محدودة للمنتَج النهائي، سواء من حيث الكتابة أو التنفيذ.
ويصبح العاملون من الفنيين بين شقي الرحى. فإما الرضوخ للشروط المجحفة لبيئة العمل، أو عدم العمل نهائيًا. وفي نهاية الأمر توجد طوابير في الانتظار من المستعدين للقفز على أي فرصة والعمل تحت أي ظرف.
أما في الأعمال التي يتوافر لها ظرف إنتاجي أفضل يسمح بالاستعانة بوحدات تصوير إضافية، فإننا نصبح أمام تحدي فني من نوع آخر، حيث يصبح من شبه المستحيل الحفاظ على الحد الأدنى من الاتساق في العناصر الفنية، لنصبح أمام قطع متناثرة غير متناسقة لا يجمعها إلا إطار مفكك.
أنماط بديلة..
مع ظهور منصات العرض الإلكترونية مؤخرًا وما خلقته من أنماط مشاهدة مختلفة لدى الكثير من المشاهدين، واحتياجها لمنتجات بصرية كثيرة ومتنوعة لملء عدد غير محدود من ساعات المشاهدة، أصبح هناك متسعًا لكثير من العاملين في مجال الإنتاج البصري (الأفلام والمسلسلات) للعمل في ظروف إنتاجية أفضل نسبيًا.
ومن هذه التجارب مؤخرًا مجموعة من الأفلام القصيرة أنتجتها منصة نيتفليكس لمجموعة من الفنانين المصريين، بينهم على سبيل المثال فيلم “يوم الحداد الوطني في المكسيك” للمخرج “خيري بشارة” من كتابة “نورا الشيخ”، ومسلسل “منورة بأهلها” الذي أنتجته منصة شاهد للمخرج “يسري نصر الله” من كتابة “محمد أمين راضي”. إلى جانب تجارب أخرى سابقة أعطت مجال للعمل خارج هيستريا الضغوط الإنتاجية للحاق بالموسم التليفزيوني الرمضاني.
مساحة قد تكون الأنسب لجيل حالي واجيال قادمة من السينمائيين لتقديم أعمال تليق بأسمائهم وما لديهم من إمكانات فنية لم تفلت هذا الموسم من المفرمة الإنتاجية التي لا يبدو أنها ستتوقف قريبًا.