“في عالم مثالي، كنت أفضل وجود شرطة وجيش ولكن من الصعب جدًا العثور عليه الآن”، بهذه الكلمات بدأت “سارة” من مدينة طرابلس الليبية، تسرد معاناتها في ظل الصراع القائم في ليبيا وانتشار الجماعات المسلحة في بعض المدن هناك، وكيف أثر هذا علي حرية التنقل وعدم شعورهم بالأمان.
منذ سقوط معمر القذافي، عام 2011، تعيش ليبيا لسنوات حالة من الفوضى والحروب الأهلية والتدهور الاقتصادي، ما كان له تأثير عميق على النسيج الاجتماعي، لاسيما علي حياة النساء والفتيات، اللائي تعرض أمنهن للخطر، وتقلص حركتهن ، وتقلصت فرص العمل بالنسبة لهن، بجانب انتشار العديد من الجماعات المسلحة في المدن الليبية، في درنة وبنغازي وطرابلس وأجدابيا، بحسب المعهد الملكي للشؤون الدولية ” تشاتام هاوس” فى تقرير الصادر فى يونيه الماضي.
أجري المعهد مقابلات فى نوفمير 2019 مع بعض النساء الليبيات بشأن تعاملهن مع الجماعات المسلحة المسيطرة على الأمن وبعض المناطق في البلاد، قبل سيطرة قوات الجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر علي معظم المناطق بليبيا.
أضافت سارة، التي تعيش في ضاحية سوق الجمعة بطرابلس، قائلة ‘هناك خط لن تتخطاه المجموعات المسلحة إذا كنت من المنطقة نفسها، إنهم يعيشون في نفس الحي وعليهم احترام المجتمع”.
الأمن وحرية التنقل
بينما قالت “مرام” من بلدة هون بالواحة المركزية لـ” تشاتام هاوس”: “لا يمكن معرفة أصل ومصدر هذه الجماعات، ولكنني لا أشعر بالأمان بشكل كامل، ولا أثق في هؤلاء الأشخاص”.
تعود”سارة” لتقول “بالنسبة للعديد من النساء الليبيات، يمكن أن تؤدي أي معاملة أو سلوك غير لائق إلى وصمة اجتماعية لنا، وبالتالي تعتبر العادات المجتمعية والأعراف أساسًا لتعاملات”.
ومخالفًا للروايات السابقة، تقول “سرور”، التي تعيش في بني غازي، “شاهدنا في هذه الأيام العديد من عمليات الاغتيالات والقتل التي تتم بشكل يومي، وكنا عاجزين عن ابداء أي رد فعل، ولكن مع قدوم قوات الحيش الوطني تحسن الأمن بشكل كبير، وأصبحت الأمور بها بعض الاستقرار، فالأمر غير قابل للمقارنة”.
ولفت “المعهد” إلى أن من خلال المقابلات التي أجريت كان هناك اتفاق علي أن سيطرت قوات الجيش علي منطقة شرق البلاد ثم التوغل في الجنوب ساهم في تحسين الأمن، مما سهل على النساء السفر والتنقل، كما انخفض النشاط الإجرامي في المنطقة نسبيًا.
و أكدت “نجوي”، التي رفضت كسابقيها ذكر أسمائهن بالكامل، بأن “مدينة سبها أصبحت مركز للجرائم ، كان لدينا كل شيء ، الاختطاف، القتل، السرقة، كان الخروج بمفردك أمرًا خطيرًا ، لذلك كنا نخرج في مجموعات للحماية”.
ومع ذلك، لكن بعض الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات قالوا أن سيطرة القوات الجيش الوطني الليبي في بعض المناطق قد صاحبها قيود على حرية التعبير ،كما لايزال التنقل للنساء مشروطًا دون محرم ، إذ كشفت “عبير” من مدينة طبرق، بالقرب من الحدود الليبية المصرية، عن معاناتها للحصول علي مواقفة أمنية للسفر أو التنقل بين مدينة وأخري، قائلة: “كان على أخي أن يدعي في كل مرة إنني ذاهبة للعلاج وكانت عائلتي تنتظرني في الجانب الآخر”، مضيفة أنه رغم رفع الحظر والسماح للنساء بالسفر دون محرم، ألا إنها اضطرت للكذب كل مرة عند السفر من مدينة لأخري لتجنب المزيد من التدقيق والأسئلة”.
البحث عن “لقمة العيش”
وأثرت الصراعات الداخلية والتنافس الدولي في ليبيا بشكل أعمق علي فرص عمل النساء وسبل رزقهن، ففي الجنوب، اقتصرت الحركة إلى حد كبير على المراكز الحضرية رغم التحسن الأمني.
في مدينة “سبها”، علي سبيل المثال، تم نقل العديد من الشركات الحديثة والمنظمات المحلية إلى أحياء جديدة في أطراف المدينة، وشهدت المنطقة طفرة إنشائية، مع ذلك كانت النساء قلقة بشأن مغادرة المناطق المركزية أو الحيوية.
و أشارت إحدى النساء التي تم مقابلتهم إنها رفضت عرض عمل في منطقة سبها الجديدة بسبب المسافة من منزلها والخوف مما قد تتعرض له في الطريق: “لا بأس إذا كنت بحاجة إلى الذهاب إلى هناك مرة أو مرتين، ولكن الذهاب إلى هناك يوميا سيضعني تحت خطر ، فإن الأمور لا تزال آمنة بشكل كافي”.
في المقابل، قد وجدت بعض النساء الليبيات طرقًا مبتكرة لكسب النقود من خلال بدء أعمالهن ومشاريعهن الخاصة، حيث لجئ البعض إلي عمل وجبات طعام وتوصليها إلى المحلات والمصالح التجارية، بينما البعض الآخر بدء عمل ورش خياطة وتصميم الملابس وبيعها عبر الانترنت، لتجنب مخاطر السفر والتنقل”.
“قبل الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد، كانت تحصل بعض النساء على رواتبهن من الدولة وهم في المنزل، لكن لم يعد ذلك ممكنًا الآن، يجب أن تعمل المرأة لتكون قادرة على إعالة أسرتها. أصبح بدء عمل تجاري شيئًا يتم التباهي الآن، وهو ما يندرج تحت الاقتصاد غير الرسمي”، بحسب “نجوي”، من سبها.
استطردت:” في السابق كان عمل النساء أو تفكيرهن ببدء مشروع خاص لهم وصمة عار” للرجل والأسرة، فهو يعتبر انتقاص من دوره القيادي كرب أسرة، ولكن الآن أصبح هذا الأمر مقبول بل ويتزايد كل يوم عن الذي سبقه، لأن هناك حاجة واضحة للمال في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في البلاد”.
وعلق “المعهد” بأن هذا المناخ رغم مساوئه إلا أنه يعتبر فرصة “ذهبية ” للمرأة الليبية للقيام بدور أكبر وقيادي خارج المنزل، ولكنه يتطلب المزيد من الجهد للحفاظ على هذه التطورات .
الوصول إلي الخدمات
علي جانب آخر، تعتبر الفئة التي يصعب عليها الوصول إلى المؤسسات العامة والمحليات لإنهاء أحد الخدمات أكثر عرضة لخطر التلاعب بهم من قبل المليشيات المسلحة، وتقول “سلوى”، شابة من ضاحية الحدبة بطرابلس تدرس في الجامعة هناك ، أن “أعضاء الميليشيات المكلفين بتوفير الأمن في جامعتها يطلبون خدمات بسيطة من الطالبات مقابل مساعدتهم في تخليص الخدمات الإدارية، كالتسجيل في أحد الدورات أو اقناع المحاضر بإعادة الامتحان بالجامعة، لكن فى المقابل، يطلب منهن تبادل أرقام هواتفهن الشخصية أو مرافقته إلى أحد الأماكن خارج الحرم الجامعي”.
لكنها أردفت”، أنه رغم ذلك لا يوجد ضغط من جانبهم أو اجبار أحد علي ذلك بالقوة، ولكن من شأن التحدث معهم تسريع الخدمات وانهاء في وقت أسرع، مشيرة إلى “هذه التصرفات تحدث حاليًا وسيستمر حدوثها بسبب عدم وجود نظام في الحرم الجامعي بشكل عام والسلطة التي تتمتع بها هذه المجموعات على الموظفين”.
بينما قالت “مني”، من منطقة أبو سليم بطرابلس، “أشعر بالأمان عندما أذهب إلى البلدية أو البنك المحلي وأطلب المساعدة من الحراس الشباب، يعاملونني مثل والدتهم، لكنني لن أرسل ابنتي إلى هناك تحت أي ظرف”، “فلا يزال يُنظر إلى النساء الأصغر سنًا على أنهن ضعيفات لاسيما في الأماكن العامة والمصالح الحكومية”.
وفي نفس السياق، اتفقت جميع النساء اللاتي أجريت معهن مقابلات خارج العاصمة طرابلس، على أن المشاركة في الأنشطة غير القانونية المدرة للدخل لم تعد تعتبر وصمة اجتماعية كما السابق، مرجعين ذلك الي الضغط الاجتماعي علي الشباب لتوفير الاحتياجات الأساسية واتمام مشاريع الزواج.
القيود المفروضة علي النساء
تزامنًا مع الأوضاع الاقتصادية والأمنية الصعبة، تأتي الرقابة المتشددة علي وسائل التواصل الاجتماعي أو بعض تحركات النساء كأحد القيود التي فرضتها الفوضى في ليبيا، ففي ديسمبر 2018، تم القبض علي مجموعات من الفتيات داخل إحدى مقاهي مدينة بنغازي شرق ليبيا، بتهمة “الإخلال بالآداب العامة ومخالفة القانون والعرف والخروج عن الدين”، كما اعتقلت المسؤولين عن المقهى، الأمر الذي أثار جدلا واسعا حينها في ليبيا، وفتح النقاش حول موضوع الحريات الفردية.
ورغم اسقاط التهم آنذاك بعد الهجوم الذي شنه رواد مواقع التواصل علي السلطات، غير أن كثير من الفتيات التي أجريت معهم مقابلات، أجمعوا علي أن الأمر لم ينتهي بل هم من شعرن بوجوب عمل كل الأنشطة والتجمعات بينهما بشكل سري، حفاظا علي أنفسهن،
وقالت سرور، وكانت من الفتيات التي تم القبض عيلها في الحادثة المذكورة،: “أدركنا أن هذه الأشياء يمكن أن تحدث لأي شخص، لذا نحافظ الآن على عمل كل شيء بشكل سري وخاص بيننا، مضيفًا أن “هناك زيادة في المراقبة عبر الإنترنت من قبل الجماعات السلفية ومؤيدي أيديولوجيتها بعد الحادث”.
خلاف موازي
أما الحياة السياسة في ليبيا فقد أصبحت مستقطبة بشكل متزايد في سياق الصراع الدائر بين حكومة الوفاق، برئاسة فايز السراج، وبين الجيش الوطني الليبي، بقيادة الجنرال خليفة حفتر، كما تم تقسيم بعض المنظمات التي تمثل النساء على هذا المنوال.
بينما تري “سلمي” من مدينة سبها، أن “النساء شريان الحياة وقوة مطلوبة في المناصب الحكومية رغم الثقافة السائدة والمقاومة لذلك، في إشارة منها إلى تشكيل لجنة تمكين المرأة الليبية، بقيادة الدكتورة عائشة البرغثي .
وقد وجُهت انتقادات دولية وأميمة لليبيا بسبب عدم تمكين المرأة في الحياة السياسية، إذ أشارت منظمات حقوقية إلى الدور التاريخي الذي لعبته النساء الليبيات في الوساطة وحل النزاعات بين الطوائف، علي رغم من تزايد الضغوط عليهن.