لا يزال العلم في حيرة إزاء مسألة تجدد خلايا المخ، كان المستقر طويلا أنها لا تتجدد إطلاقا خاصة بعد سن البلوغ، ثمة دراسات حديثة تقول إن بعض الخلايا العصبية- لا أكثر- يمكن أن تتجدد أما أكثر المخ فلا يمكن له – بعد تلف خلاياه – أن يجدد نفسه. لي صديق قديم كان كلما سمع معلومة تافهة – أو لا لزوم لها لديه – أخذ يتحسر على خلايا مخه التي استهلكت في تلك المعلومة بلا رجعة، أتذكر قول صديقي كثيرا هذه الأيام بعد أن أجبرنا الإنترنت على تقديم خلايانا المخية أضحية لشلالات التفاهة اليومية.
في الأيام الخوالي للصحافة الورقية كان يمكن لمحبي الرياضة أن يفتحوا الجريدة على الصفحة الرياضية مباشرة، وكذلك الحال لمحبي قراءة أخبار الجريمة والحوادث، أو المهتمين بالسياسة دون غيرها، أما قراء الوفيات المخلصين فكانوا ينفردون بالصفحات الأخيرة دونما إزعاج من أصحاب الأجيال الأصغر، كان ممكنا في ذلك العصر أن يتمعن أحدهم في قراءة ما يهمه في الجريدة من دون أن ينتبه إلى خبر رئيسي منشور في الصفحة الأولى، وكان يمكن لمدمني الكلمات المتقاطعة أو الأبراج أو المنوعات أن يستمتعوا بالصفحة الأخيرة من دون تعكير الدم بالحوادث التي تمتلىء بها بقية الصفحات، هكذا كانت خلايا مخهم تستقبل ما يحبون وما يهتمون به مباشرة من دون مشاركة أو قرابين مخيّة حتمية قبل الوصول للفقرات المنشودة.
اليوم، بعدما صارت مواقع التواصل الاجتماعي هي ساحة لقاء سكان العالم، ما أجبر وسائل الأخبار على الوصول إلى القاريء عبر “التايم لاين”، لم يعد “التبويب” قائما، صار خبر عن احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة يتلي خبرا عن عودة فلان وفلانة إلى بعضهما البعض للمرة الثالثة أو الرابعة حسب ما يتطلب التريند، يليهما خبر عن انقلاب أوتوبيس مسافرين بسبب اصطدام – كالعادة- بسيارة نقل أو “السرعة الجنونية”، ثم نتيجة مباراة إنبي وسيراميكا كليوباترا.
لم يعد ممكنا حماية خلايا مخنا كما كان يتمنى ذلك الصديق القديم، صار العقل – الواعي واللاواعي بالتبعية – أشبه بمكب نفايات أو ميدان مزدحم ضربت فيه الفوضى، وصارت عملية تلقي الأخبار جزءا من التفاعل النفسي المضطرب مع “حالات” الأصدقاء المتضاربة على التايم لاين، حين تتنقل من المواساة والتعازي لـ “ستيتيوس” يعلن حالة وفاة، إلى التباريك عند آخر يعلن ولادة طفل، ثم إلى نقاش حاد حول الاقتصاد أو كرة القدم، ثم التهنئة بصدور كتاب أو حفل زفاف، وكل ذلك في دقائق معدودة.
في ذلك السياق من التنافس العاطفي على جذب اهتمام المستخدم، تتفوق الصياغة اللاذعة أو الشعبوية للأخبار، وبدلا من أن يكون الخبر استجابة للـتريند (أي لاهتمامات الرأي العام)، يحاول صناع الأخبار صناعة التريند بأنفسهم، عبر العناوين والأسئلة الاستفزازية، وتعمد إثارة الجدل في وسيط لا فارق لديه بين أن يكون المستخدم مرحبّا أو رافضا، المهم أن يكون متفاعلا.
هل ثمة حل؟ ربما يحمل المستقبل والتطور الذي لا يتوقف حلولا تخفف الاضطراب العصبي لمستخدمي الإنترنت ومتلقي الأخبار، وثمة نجاحات حالية جيدة – لكنها معدودة – في مجال صحافة القوائم البريدية، الأكيد أن التضييق على الصحافة يزيد من مساحة التفاهة فيكبر حجم المشكلة.