لا يخفى على أحد يعمل في مجال العمل العام على مدى السنوات الثمانية الماضية، وتحديدا الأحزاب ووسائل الاعلام والمنظمات العاملة في مجالات حقوق الإنسان والنقابات، أن الأوضاع خانقة وشديدة الصعوبة، وأن المسموح فقط هو ترديد الحجج الرسمية المؤيدة للرئيس في إطار القناعة أن مصر الآن تخوض معارك على كافة الأصعدة، سواء كانت في مواجهة الإرهاب أو الأوضاع الإقليمية المضطربة او التنمية الاقتصادية، وبالتالي لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ولا مجال ولا مكان للمعارضة وبتوع الكلام.
لم يكن هذا الوضع مستغربا بالنسبة لي كصحفي بدأ ممارسة مهنته وتجربته في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. فهو أيضا تم ترقيته سريعا إلى مرتبة الفرعون الذي يضحي بكل ملذات الحياة من أجل خدمة شعب مصر، والكل يتذكر مقال رئيس تحرير الأخبار رالسابق الشهير في آخر مراحل انحدار نظام الرجل الكهل حين قال إنه يجب علينا التعاطف مع مبارك لأنه محروم من “طشة الملوخية” وأكلة الكباب وقعدة القهوة. ومع مرور الوقت، يصبح الرئيس هو الوحيد القادر على التدخل في كافة المجالات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية لاتخاذ القرار الحاسم والنهائي، سواء تعلق الأمر بالسياسة الخارجية ومكافحة الإرهاب، أو استصلاح الأراضي وتنمية الثروة الحيوانية.
ومقابل كل ذلك لا يحق لأحد أن يطلب من الرئيس أن يتنافس في انتخابات، فهذه إهانة وتشكيك في شعبيته وزعم أن هناك من يقدر أن يقوم بمهام في مصر والمنطقة والعالم لا يستطيع سوى مبارك فقط القيام بها. وبعد نحو ربع قرن من الحكم عن طريق الاستفتاءات “ونعم نعم من جوه القلب، نعم نعم بنقولها بحب” قرر مبارك عقد انتخابات تعددية للمرة الأولى في 2005 ونافسه أيمن نور. وفور انتهاء الانتخابات، تم حبس نور خمس سنوات.
وبينما بدأ مبارك رئاسته نهاية 1981 بارتداء بدلة صيفية بسيطة وعمل دؤوب وحديث عن إدراكه أن الكفن ليس به جيوب، انتهى الأمر بحسابات بمليارات الدولار لأبناءه في بنوك أوروبية وخليجية ومخفية، وحديث صريح عن أن مكافأة نهاية الخدمة لهذا الرجل العظيم هي السماح له بتوريث حكم البلد لأبنه الذكي الذي يتقن الإنجليزية وفنون إدارة الأعمال. مبارك ابن المؤسسة العسكرية وكان يدرك جيدا أن هذه المؤسسة العتيدة تشعر أن حكم مصر هو أمر مستحق لها منذ القيام بثورة 1952 وبناء الجمهورية والإطاحة بالملكية، وكذلك مقابل ما قدمته من تضحيات ودماء في حروب عدة في مواجهة إسرائيل، ولذلك لم يكن من السهل تقبل فكرة تسليم الحكم لمدني عبر التوريث. ولكنه قلب الأب، وضغوط الأم وأجواء عجيبة سادت أوساط حكام الجمهوريات العربية في ذلك الوقت دفعت بهم إلى استحسان فكرة توريث الحكم للأبناء منذ ان استن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد هذا التقليد.
لم تسير الأمور في الاتجاه الذي أراده الآباء الذين طال بقاءهم في مناصبهم وسجلوا أرقام قياسية في هذا الصدد. وبدا أن كل هؤلاء انفجرت من بعدهم الأوضاع في بلادهم حيث أنهم كانوا يحكمون فوق براميل بارود مغلقة بإحكام عبر وسائل القمع والقهر والتخويف. اقتتل الشيعة والسنة في العراق في إحياء لمعارك تجاوز عمرها 1400 عام، واقتتلت القبائل في ليبيا وانقسمت البلد إلى ثلاثة أجزاء شرق وغرب وجنوب، وتحولت سوريا “العلوية” إلى جبهة تتواجه فيها السعودية ودول الخليج السنية مع إيران الشيعية وانصارها من حزب الله وفصائل عراقية.
أما في مصر، فدفعنا ثمن تجريف السياسة على مدى ثلاثة عقود كاملة في ظل حكم مبارك الفرد الذي تم في عهده مأسسة الفساد وترسيخه في ظل تولي نجله واصدقاءه في لجنة السياسات شؤون إدارة اقتصاد البلاد واتخاذ قرارات الخصخصة والتعويم والقروض والعمولات. وعندما رحل لم يكن هناك قوة سياسية منظمة على الساحة سوى جماعة الإخوان المسلمين حيث ان الأحزاب المدنية، ليبرالية، يسارية او قومية/ناصرية، كانت محاصرة وكان اقصى درجات التأثير بالنسبة لها هي صحف تصدر اسبوعية ومهددة دائما بالتوقف لأن الأحزاب غير قادرة على دفع تكاليف الطباعة.
الإخوان في مصر، ومنذ أن قام السادات بإطلاق سراحهم في منتصف السبعينات، تحولوا إلى دولة داخل الدولة. منظمة عالمية ترفض الخضوع لرقابة الدولة وتتلقى تبرعات بمئات الملايين من الدولارات من مختلف أرجاء العالم، سواء من إخوان دول الخليج في السعودية والكويت والإمارات وقطر، أو إخوان أوروبا الذين هجروا مصر منذ الخمسينات وبلغت بهم درجة الثراء أن أصبحوا ملاكا لبنوك وشركات كبرى. وهذا كله بجانب التزامات الأعضاء المادية تجاه الجماعة وتقديمهم جزء من دخلهم الشهري وصدقاتهم وزكاتهم لتمويل أنشطتها. وعندما سألت المرشد العام السابق للجماعة مأمون الهضيبي في حوار صحفي عن سبب رفض الجماعة خضوع ميزانيتها لرقابة الدولة، كان رده لافتا بالنسبة لي، وسأل، “وهل تقوم الدولة بمراقبة حسابات وتبرعات الكنيسة القبطية في مصر؟” استغربت مقارنة جماعة سياسية دينية عمرها مائة عام بمؤسسة دينية عمرها ألفي سنة، واعتبار أن الإخوان يمثلون الإسلام فلا يخضعون للرقابة، كما تمثل الكنيسة المسيحيين ولا تخضع للرقابة.
ورغم الرفض الرسمي للاعتراف بهم، فلقد أتقن الإخوان باحتراف لعبة الانتخابات، سواء في النقابات أو في البرلمان. وكان نهجهم الناجح هو الاستفادة من أي ثغرة متاحة لإثبات وجودهم وتأثيرهم كقوة سياسية تنمو وتكبر حتى يتم السيطرة تدريجيا على المجتمع والنظام السياسي من دون الحاجة للقيام بثورة دموية أو انقلاب، ويتحقق شعارهم أن مصر دولة إسلامية وأن الإسلام هو الحل. ولكن ثورة 25 يناير 2011 أسالت لعابهم، ورأوا أنهم يفوزون في كل الاستفتاءات والانتخابات وظنوا أن الله سبحانه وتعالى قد منحهم جائزة صبرهم وسيمكنهم من حكم مصر مئات الأعوام.
انتهت مرحلة الاستكانة والابتسامة الصفراء المزيفة، ولبسهم الغرور والصلف. التقيت مرة بالمتحدث الرسمي للإخوان في حوار تلفزيوني، وقلت له ألا ينسوا أنهم لم يفوزوا في الجولة الأولى من انتخابات رئاسة 2012 سوى بنحو 20 في المائة من الأصوات، وبالكاد 51 في المائة في الجولة الثانية، وأن الديمقراطية لا تعني أن يسعى الفائز لمحو المنافسين وكتابة الدستور بمفردهم والتمكين من كل المناصب. وكان رده، “معلش لما تبقوا خمسين في المية تبقوا تعملوا اللي عاوزينه”.
اكتسبت الأحزاب المدنية بدورها زخما إيجابيا بعد ثورة 25 يناير، وظهر على السطح عدة أحزاب ظن المراقبون وقتها أنها سترث أحزاب حقبة مبارك الكرتوينة. وشكلت احزاب الدستور والمصري الديمقراطي الاجتماعي والمصريين الأحرار والتحالف الاشتراكي والكرامة المكون الرئيسي لجبهة الإنقاذ الوطني مع آخرين، وأصبحوا واجهة المعارضة المدنية الرئيسية لحكم جماعة الإخوان المسلمين.
التجربة العملية كانت قد اثبتت ان رفع القيود على ممارسة العمل الحزبي قد لقت تجاوبا من المصريين بعد عقود من حكم الحزب الواحد والرئيس الوحيد. وبعد أن كان كل رجال الأعمال، مثلا، مضطرين إلى دخول الحزب الوطني المنحل فقط اذا أرادوا استمرار ونجاح أعمالهم، فلقد اصبح هناك امكانية للمرة الأولى أن يعبر هؤلاء عن مواقفهم وتوجهاتهم عبر دعم هذا الحزب أو ذاك، بجانب تبرعات واشتراكات المواطنين. المقصود أنه تمكنت الأحزاب المدنية بكافة توجهاتها من اليسار إلى اليمين أن تثبت وجودها، وحشد المواطنين لدعم مواقفها، وهو ما انتهى بثورة 30 يونيو والإطاحة بحكم الإخوان.
بدأت مرحلة ما بعد 3 يوليو بشراكة بين الأحزاب المدنية والمؤسسة العسكرية التي دعمت وحمت التحرك الشعبي في 30 يونيو. تولى الدكتور محمد البرادعي منصب نائب رئيس الجمهورية، وتشكلت أول حكومة برئاسة عضو مجلس أمناء الحزب المصري الديمقراطي د حازم الببلاوي، والتي ضمت وزراء سياسين من أحزاب الوفد والكرامة والدستور. ولكنها كانت تجربة قصيرة الأمد، واختار النظام الجديد استبعاد كل هؤلاء، وربما محو اسم جبهة الإنقاذ الوطني من الذاكرة وترسيخ فكرة أن التضحية الكبرى قامت بها المؤسسة العسكرية فقط.
كمتحدث سابق باسم جبهة الإنقاذ الوطني كنا نبذل جهدا كبيرا بعد 3 يوليو لتأكيد ان ما حدث في مصر لم يكن انقلابا عسكريا كما تمسك الإخوان، والقول ان الجيش لم يكن ليتدخل لو لم يكن هناك حراك في الشارع مقابل غباء الإخوان ودفعهم للبلد نحو حرب أهلية واقتتال طائفي. وكنت اتندر انا ورفاق الزنزانة في سجن ليمان طرة كيف أننا كنا نجوب عدة دول اوروبية، وكنت التقي هنا في القاهرة كل يوم سفراء أجانب لكي اؤكد لهم اننا كأحزاب مدنية شاركنا في ثورة 25 يناير دعمنا التغيير الأخير في 30 يونيو بهدف استكمال تحقيق أهداف ثورة التي انحرف عنها الإخوان، وليس دعما لانقلاب عسكري.
المقصود أن النظام الحالي هو الذي بادر باستبعاد القوى المدنية التي كانت شريكة له في 3 يوليو، والتي قامت بذلك ليس دعما لانقلاب، ولكن لاجراء انتخابات رئاسية مبكرة تسمح بالعودة للمسار الديمقراطي بعيدا عن الخطاب الطائفي والإقصائي للإخوان. ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل تطور الأمر تدريجيا إلى التضييق الكامل على أنشطة تلك الأحزاب، والسيطرة الكاملة على وسائل الاعلام، وتجميد انشطة المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان وتناسي كلمة نقابات مستقلة.
لم يتم العودة فقط لمرحلة مبارك حيث الأحزاب ورقية، بل تدهورت الأوضاع تماما، وتجمدت عمليا أنشطة تلك الأحزاب التي ظهرت بعد 25 يناير، واحتل مكانها على الساحة احزاب شكلها ومولها النظام كلها تحمل اسم الوطن، وكأن المعارضين ليسوا جزءا من الوطن. كما قام النظام بتعديل دستور 2014 الذي ظنت أحزاب جبهة الإنقاذ انه العقد الاجتماعي لما هو قادم وما سيضمن إمكانية عقد انتخابات رئاسية تعددية تضمن عدم العودة لمرحلة مبارك حيث يبقى الرئيس في منصبه للأبد، واحترام حقوق وحريات المواطنين ووسائل الاعلام، وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية عبر نسب ملزمة للانفاق على التعليم والصحة.
وكانت النهاية الدرامية في خريف العام 2019، حيث تم القبض في سبتمبر 2019 على عدد كبير من أعضاء تلك الأحزاب المدنية، بما في ذلك كاتب المقال، الرئيس السابق لحزب الدستور، ومعه نواب رؤساء أحزاب التحالف الاشتراكي والكرامة ومئات آخرين. وفي السجن كانت المفارقة ان كل أحزاب جبهة الانقاذ الوطني كانت ممثلة من خلال رموز لها خلف القضبان، عدا مئات آخرين من أعضاء الحركات الشبابية التي ظهرت في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، ونتذكر جميعا صورهم وهم يقفون بجوار قيادات المجلس العسكري والرئيس الحالي شخصيا عندما كان يتولى منصب مدير المخابرات الحربية.
بعد الخروج من السجن الذي من المؤكد أنني لم أكن أراه مبررا او مستحقا، جعلت همي الرئيسي الدفع نحو اغلاق ملف المحبوسين منذ سبتمبر 2019، وكذلك أعضاء الأحزاب والحركات المدنية القابعين في السجون منذ فترات تتراوح بين عامين واربعة. الأستاذ يحيى حسين عبد الهادي، الذي كان يفتح لنا في جبهة الإنقاذ مقر معهد إعداد القادة في العجوزة في عام حكم الإخوان لكي نعقد مؤتمراتنا واجتماعاتنا، ما زال في السجن منذ يناير 2019، اي قبل ثلاثة أعوام وثلاثة شهور. هشام فؤاد وزياد العليمي ومحمد رمضان وهيثم محمدين وأيمن عبد المعطي وعلاء عبد الفتاح ومحمد الباقر وأحمد دومة ومحمد أكسجين وخلود سعيد ومروة عرفة ونرمين حسين ومحمد عادل وعبد الرحمن موكا وعلاء عصام ومعتز عبد الوهاب وشريف الروبي هم فقط بعض ممن لا يزالون داخل السجون وكنت اتمنى لو كانوا قد تمكنوا من قضاء العيد مع أسرهم في منازلهم بعد أن طال غيابهم.
كانت السلطات الأمنية تتجاوب ببطء مع مطلب اطلاق سراح هؤلاء، بمعدل اثنين او ثلاثة كل عدة شهور. وبقي الوضع كذلك حتى جاءت المبادرة الإيجابية من الرئاسة بدعوة الأستاذ حمدين صباحي وكاتب المقال وآخرين من رؤساء أحزاب المعارضة لافطار الأسرة المصرية يوم الثلاثاء الماضي. لم يكن القرار سهلا، ولكن صباح نفس اليوم كان قد صدر قرار من النائب العام باخلاء سبيل 41 من السجناء الاحتياطي من المحبوسين على ذمة قضايا نشر في الأساس، كما كان الوضع بالنسبة لي قبل ان يتم إطلاق سراحي في ابريل 2021. وكانت هذه هي عمليا أكبر دفعة يتم الافراج عنها. لم أكن أعرف شخصيا لمن تم توجيه الدعوات لافطار الأسرة المصرية، أو أن الأستاذ حمدين سيحضر. فقط فكرت في زملائي واصدقاءي ومئات آخرين لا أعرفهم يقبعون داخل السجون إحتياطيا دون محاكمة منذ سنوات، وآخرين صدرتهم بحقهم بالسجن اربع وخمس سنوات. وقررت أنه إذا كان هناك بادرة إيجابية من الأجهزة المعنية تجاه المعارضين، تمثلت أول بشائرها بالإفراج عن عدد من السجناء، فلا بد من التجاوب معها.
نحن كأحزاب معارضة مدنية لم نشكك يوما في شرعية الرئيس أو النظام، بل نافس الأستاذ حمدين الرئيس السيسي في انتخابات 2014، ولو كانت الظروف قد سمحت، لخاض صديقي خالد علي انتخابات 2018. وبالتالي بدى مستغربا وغير مفهوما بالنسبة لي أن ينتقدني بعض أصدقاء ورفاق الميدان في يناير قائلين إن حضور الإفطار يمثل “اقرارا بشرعية الرئيس.” الحديث أو التشكيك عن “شرعية الرئيس” هو شعار إخواني في الأساس، بينما أنا عضو في حزب سياسي شرعي يعمل في إطار الدستور والقانون. وكان من ضمن اكثر ما آلمني في فترة الحبس أن يتم اتهامي بمشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها بينما كنت طوال الوقت أرى نفسي يساريا مؤمنا بالعمل السلمي. ولكوني صحفي أساسا، وخضت غمار السياسة لأنه لا صحافة حرة دون نظام ديمقراطي، فلقد آلمني جدا ايضا اتهامي بنشر اخبار كاذبة.
أعارض الرئيس، وارفض سجن المعارضين واطالب بتطبيق الدستور والقانون، ولكن كل ذلك بالطبع في اطار شرعية النظام الحالي، وأهمية الحفاظ على الدولة ومؤسساتها واستقرارها. ولو كان موقفنا الرسمي هو رفض شرعية النظام، لكنا أعضاء في جماعات سرية ولكان قمعنا وحبسنا مبررا. كما انه من السذاجة اثارة قضية الشرعية هذه بعد ثمانية سنوات من حكم السيسي، وفي الوقت الذي يتعامل معه العالم بأجمعه انه الرئيس الشرعي لمصر.
كما غضب مني نفس الرفاق لأني وصفت النظام الحالي في أحد المقابلات الصحفية بأنه “نظام وطني” رغم سجني وما يتعرض له مئات آخرين ما زالوا داخل السجون. صحيح ان الزميل الذي أجرى المقابلة خرج بعنوان لم يرد في نص المقابلة على سبيل الترويج وهو ما سبب بعض اللبس، ولكني بالفعل لا انفي القول اننا نتعامل مع النظام الحالي انه نظام وطني. بداية نحن في المعارضة نشعر بحزن بالغ عندما يتم وصمنا بالخيانة والعمالة طوال الوقت، وبالتالي سيكون من الخطأ الفادح استخدام نفس الورقة في مواجهة النظام الذي نعارضه.
نختلف مع النظام الحالي في الكثير من سياساته، بداية من التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير ومرورا بتعديل الدستور وعودة نظام الرئيس الواحد بلا منافس وحبس المعارضين وخنق الاعلام وزيادة الديون الخارجية والانفاق على العاصمة الادارية وبناء طرق وكباري والتعاقد على مشاريع بمليارات الدولارات دون اي نقاش مجتمعي او برلماني مسبق، نعارض كل هذا ونتمسك بمواقفنا حتى لو انتهى الأمر بنا في السجن. ولكن يبقى النظام “وطنيا” بكل تأكيد كما نحن معارضة وطنية. ورغم مشاركتي في ثورة يناير ومعارضتي لمبارك، فلم يكن ذلك تشكيكا في وطنيته، ولكن لأسباب أخرى عديدة أخرى على رأسها مشروع التوريث والفساد وتزوير الانتخابات.
أما الإخوان وأنصارهم، فلهم معركة أخرى لا علاقة للأحزاب المدنية بها، ولسنا جزءا منها، ومن الخطر والخطأ الاشتراك بسذاجة معهم في خطابهم وأهدافهم. واذا كانت نظم ثورة يوليو 1952 المتعاقبة، ناصر والسادات ومبارك، قد تعاملت مع المعارضين عن طريق التخويف والترغيب والقمع، فإن التجربة المريرة مع جماعة الإخوان منذ ثورة يناير 2011 وحتى 3 يوليو 2013 والتي كادت ان تدفع بمصر نحو الحرب الأهلية يجب أن تجعلنا ندرك انه قد جرت في الأنهر مياه كثيرة منذ ثورة يناير وسط وضع اقليمي وعالمي شديد الصعوبة. وبالتالي الجميع مطالب بحساب خطواته جيدا وعدم الاكتفاء بترديد الشعارات الثورية، بل التعامل مع الواقع وانقاذ ما يمكن انقاذه املا في تقدم بطيء نحو مستقبل افضل قليل.
أتمنى أن تتوقف اولا سياسة حبس المعارضين بسبب كتابتهم لمواقف وآراء على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يتم اخلاء سبيل كل المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا ليست لها علاقة بممارسة العنف، وصدور قرارات رئاسية بالعفو عن الأحكام الصادرة بحق احمد دومة وهشام فؤاد وزياد العليمي وعلاء عبد الفتاح ومحمد الباقر ومحمد اكسجين، وان يتم فتح المجال العام سواء في وسائل الاعلام او في ممارسة العمل السياسي والحزبي. اقدر كثيرا قرار عودة لجنة العفو الرئاسي للعمل، ولكن اسماء المعارضين المسجونين الذين أشرت لهم سابقا في المقال يتم التداول بشأنهم مع السلطات المعنية منذ عامين وثلاثة، وربما يكون اطلاق سراحهم اسهل لطول فترة بقاءهم في السجن وكذلك لان ملفاتهم قد تم بالتأكيد مراجعتها عدة مرات خلال تلك الفترة. واخيرا اتطلع ان يكون الحوار الوطني الذي دعا له الرئيس حوارا جادا مثمرا، وهو ما سيكون من الصعب تحقيقه لو تحول إلى مكلمة يشارك بها المئات من كل الجهات والتخصصات. المعارضة الوطنية لن تدخر جهدا في اي حوار مع النظام الوطني من أجل مصلحة الوطن الذي يجب أن يتسع الجميع.