جدل مجتمعي واسع تسبب فيه وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة مؤخرًا، جعله يتصدر قائمة الشخصيات الأكثر تداولًا على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما أرجعه كثير من المتابعين إلى قراراته التي افتقدت الحكمة واللياقة السياسية. ذلك في وقت دقيق وشديد الحساسية، وفي ظل ظرف راهن ، يعاني فيه المواطنون توترًا متزايدًا بفعل الأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتدادات أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا.
هذا التخبط من جانب الوزير، وعدم الدراسة الجيدة لشكل وإخراج القرارات ذات الحساسية والمرتبطة بالمشاعر الدينية لشعب يوصف دائمًا بـ”أنه متدين بطبعه”، وضع الحكومة برمتها في حرج. إذ ظهر سوء إدارة من جانب جمعة، وأجبره ذلك على التراجع مؤخرًا عن قراره السابق بحظر صلاة التهجد في المساجد”، خلال الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان. وقد لاقى قراره رد فعل مجتمعي رافض وواسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي لما أثارته صور مفتشي وزارة الأوقاف المتجولون ليلًا للتأكد من إغلاق المساجد، تنفيذًا لقرار الوزير.
أداء وزير الأوقاف متخبط يضر بالتحول السياسي
لقد جاء أداء الوزير المتخبط، وقراراته التي بعدت عن الحكمة السياسية في توقيت تبذل فيه القيادة السياسية جهدًا مضاعفًا لاحتواء الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية الضاربة للاقتصاد العالمي وليس المصري فقط.. الأمر الذي لم يتناسب مع توقيت التحول في السياسة المصرية. كما أنه لم يتناسب مع مبادرة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرًا لحوار وطني جامع لكافة القوى والأحزاب السياسية دون استثناء تعرض مخرجاته عليه شخصيًا. مع إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي التي كانت قد تشكلت عام 2016. وقد أمر بتوسيع صلاحياتها.
تحركات الرئيس الأخيرة وعلى رأسها مبادرة الحوارالوطني، وإن كانت تهدف في ظاهرها لتوحيد وتضافر جهود الشعب والحكومة معًا للخروج من الأزمة التي تواجه البلاد. ويرجعها الرئيس إلى أسباب خارجة عن الإرادة المصرية كجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. إلا أنها بشكل غير مباشر تأتي لقطع طريق الصيد في الماء العكر وتوظيف الأزمة لخدمة أهدافها ومصالحها أمام المتشددة المعارضة.
وفي المقابل، جاء إخراج القرارات الخاصة بمنع صلاة التهجد والاعتكاف في المساجد من جانب وزير الأوقاف وأدائه في التعامل مع تطوراتها، بمثابة هدية مجانية للمتشددين. وقد تلقفوا تلك الخطوات بتوجيه نقد للحكومة واتهامها بمعاداة الدين. وكذلك التضييق على المواطنين في شعائرهم. وتحولت الأزمة من مشكلة قرارات إدارية لتتخذ طابعًا سياسيًا، وتجد الدولة نفسها في موضع الدفاع عن نفسها أمام مواطنيها.
وزير الأوقاف افتقد مفردات تراعي طبيعة الحالة الروحانية للمصريين
لم يكن الوزير قادرًا على التعاطي مع الأزمة منذ بدايتها بخطاب ومفردات تراعي طبيعة الحالة الروحانية للمصريين في الشهر الكريم. وهنا تمثل المساجد بالنسبة لهم مفرًا من أزماتهم لجوءًا إلى الله لرفع البلاء والتضرع من أجل يسر الحال وجلاء الأزمة. وقد أخذ الوزير يستفز مشاعرهم. خاصة بعد الإصرار على نشر الصور التي تظهر مفتشي الوزارة أمام المساجد المغلقة. وهو ما عزز شكوك بعض المواطنين الذين يرون أنه لا يوجد ما يستدعي التضييق عليهم في أداء شعائرهم خلال رمضان. ذلك في الوقت الذي خفضت فيه الحكومة قيودها وإجراءاتها الاحترازية المتعلقة بالجائحة وبشكل ملحوظ.
وبدلًا من أن تذهب الوزارة باتجاه بناء جسور الثقة بين أئمة ودعاة المساجد والمواطنين، تضاعفت الفجوة التي دائمًا ما ينفذ منها أصحاب الأفكار المتشددة.
عناد الوزير دفعه لتكثيف استخدام خطاب الاتهامات الجاهزة والمعلبة لمن ينتقد أداءه وقراراته التي شابها العوار. وبدلًا من أن يقدم الوزير خطابًا علميًا وتفنيدًا فقهيًا لقراراته، أخذ يصب الاتهامات بالأخونة على المنتقدين. وقد نشر تغريدة عبر حسابه الشخصي، توجه فيها بالشكر للداعية خالد الجندي لدعم موقفه. ذلك قبل أن يعلن غضبه من منتقديه، واصفًا إياهم بأنهم “شراذم الجماعات الإرهابية”، وأنهم جميعًا عبارة عن “كتائب لجماعة الإخوان الإرهابية”.
لماذا لم يجهد وزير الأوقاف نفسه بالاستماع؟
لو أجهد الوزير نفسه، وكلف إحدى الإدارات المختصة، بتحليل عينة عشوائية من حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، التي هاجمت وانتقدت القرارات الأخيرة الخاصة بمنع التهجد والاعتكاف ومنع الأطفال دون الطفل “المٌميز” من صلاة العيد، لعلم حجم الخطأ الذي وقع فيه. وربما “الإثم ” من الناحية الشرعية بأن يرمي الناس بما ليس فيهم.
فإن جولة بسيطة في عينة عشوائية من الحسابات، تكشف أن نسبة منها عبارة عن لجان إلكترونية صحيح. لكن النسبة الأعظم لمواطنين عاديين. بل أن بعضهم تدل محتويات حساباتهم أنهم من أشد المؤيدين للدولة وأجهزتها. كما أن بعضهم ربما يكون من غير الملتزمين من الأساس. لكنها النزعة الدينية الفطرية التي استفزها الوزير بإدائه غير المقنع وخطابه المستفز لمشاعرهم الدينية.
ما تحتاجه وزارة الأوقاف ولا يدركه الوزير
وهذه الأزمة الأخيرة تكشف بشكل واضح عدم قدرة وزير الأوقاف على إنتاج خطاب يتماشى مع طبيعة المرحلة الحالية التي اقتضت تغيير الأولويات، ويدعو فيها الرئيس لانفتاح سياسي وتقبل الرأي المخالف. وقد أكد في كلمته خلال حفل إفطار الأسرة المصرية الأخيرة على شعار أن “الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”. ذلك دون أن يذهب إلى تخوين معارضيه. الرئيس نفسه حينما أتى على ذكر الرئيس الراحل محمد مرسي قال “الرئيس المرحوم”، وقد رحب بمعارضيه الذين لبوا دعوة الإفطار. فلماذا يخالف الوزير التوجه الجديد للإدارة المصرية، ويتحول إلى سب مخالفيه.
عجز الوزير عن إنتاج خطاب جديد مغاير لذلك الذي دأب على استخدامه طوال السنوات الماضية، وجعل منه عبئًا على الحكومة من واحد يعد من أقدم وزرائها. الأمر الذي دفع كثيرون من أصحاب النزعة الدينية الشعبية على أن ينأوا بأنفسهم عن إذاعة القرآن الكريم الرسمية. ولا سبب هنا سوى خطاب الوزير المفروض عليها. وهو لا يتجدد أو يتغير بتغير المناسبات والأحداث. فمفرداته تكاد تكون واحدة، ومضمونه يكاد يكون متشابهًا. ما يطرح تساؤلًا مشروعًا عن احتياج الوزارة إلى شخصية جديدة تدرك طبيعة المرحلة، وتعمل على تطوير الأداء بالشكل الذي يواكب المتغيرات الأخيرة التي تفرضها المرحلة الحالية بكل تفاصيلها وتعقيداتها.
الحرج الدولي الذي سببته قرارات الوزير
بخلاف الجدل وحالة الغضب المجتمعي التي أثارتها قرارات وأداء الوزير، كان هناك بعد آخر خارجي عرض الدولة للحرج. وظهر هذا في البيان الذي أصدرته منظمة “هيومن رايتس وتش”، تدعو فيه مصر -بلد الأزهر الشريف- إنهاء ما وصفته بـ”جميع القيود التعسفية على التجمعات الدينية والصلاة والشعائر خلال العشر الأواخر من رمضان واحتفالات العيد”. وقد استندت في ذلك إلى البيانات الرسمية الصادرة عن الوزارة وتصريحات الوزير وقيادات وزارته.
العودة في القرارات
إن طريقة اتخاذ القرارات في الوزارة وضعت الحكومة في وضع محرج، بعدما اضطرت إلى التراجع عن مجموعة من القرارات التي سبق وأعلنها الوزير. وفي مقدمتها، السماح بصلاة التهجد بدءًا من ليلة السابع والعشرين من رمضان. ذلك بعدما عمد الوزير إلى التشديد والتأكيد على المنع الكامل، قبل أن تدرك الحكومة حجم الغضب المجتمعي الذي خلفه قرار الوزير.
ثاني القرارات التي وضعت الحكومة في موقف محرج واضطرت أمام ما خلفه من إثارة السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك المتعلق بقواعد صلاة العيد. فبعد إصرار من جانب الوزارة على منع الصلاة في الساحات المفتوحة وعدم اصطحاب الأطفال في المناسبة التي تنتظرها الأسر المصرية لاستعادة البهجة المفقودة بفعل ضغوط الحياة اليومية، أصدر الوزير نفسه قرارًا جديدًا مساء الجمعة بشأن تجهيز 600 ساحة على مستوى الجمهورية، وفتح المساجد قبل صلاة العيد بنصف ساعة، وكذلك السماح باصطحاب الأطفال وفتح مصليات السيدات. وهو تراجع جديد عن جملة من القرارات التي ظلت طوال شهر رمضان محل سجالات على مواقع التواصل الاجتماعي.
الاهتزاز في إدارة وزير الأوقاف
جانب آخر من الجوانب التي تكشف حجم التخبط الذي يعانيه الوزير، يوضحه التباين بين خطابه وما يحدث على أرض الواقع. ففي الوقت الذي يعلن فيه الوزير عن افتتاحات أسبوعية لأعداد ضخمة من المساجد على مستوى الجمهورية. وهي تتجاوز 50 مسجدًا في الأسبوع، نجد الوزير يقدم على قرارات من شأنها تخفيض أعداد المتواجدين بالمساجد. وذلك بشكل يناقض أعداد المساجد التي تفتتح أسبوعيًا.
نهاية العام الماضي 2021 فقط، أعلنت الوزارة عن إحلال وتجديد وافتتاح 1277 مسجدًا. ذلك بتكلفة تقدر بنحو مليارًا و600 مليون جنيه.
وما بين أداء الوزير والتوسع في افتتاح المساجد يحار السؤال. لماذا لم يتم توجيه هذا الإنفاق إلى تطوير وبناء مسستشفيات في دولة كانت تواجه جائحة عنيفة، في الوقت الذي كانت فيه المساجد شبه مغلقة، ويؤدي الناس صلواتهم إما في أماكن مفتوحة أو في منازلهم؟
ما فعله وزير الأوقاف في هذا البند فقط يعد بمثابة إهدار للمال العام الذي أؤتمن عليه، وسوء تقدير أدى إلى إنفاق أموال الدولة في غير محلها، وبما لا يتلائم مع أولويات كل مرحلة. خاصة أن قرارات الوزير في هذا الملف بالتحديد كانت تأتي في توقيت عملت فيه الدولة على ترشيد النفقات.
اتهامات وشبهات فساد
بالإضافة إلى كل ما سبق، كان النائب البرلماني السابق أحمد طنطاوي أسئلة مشروعة للوزير. ذلك خلال إحدى جلسات مجلس النواب الماضي التي شهدت حضور الوزير للرد على طلبات إحاطة. وقد أشار النائب السابق إلى باب خفي للفساد، يتعلق بتخصيص الأراضي التي تقع تحت تصرف الوزارة.
قال طنطاوي: “لو أن مواطنًا جاء إلى الوزارة للحصول على قطعة أرض لبناء مدرسة أو مركز شباب أو وحدة صحية كتبرع سيلاقي الأمرين. وربما لن يحصل على الموافقة”. وقد أضاف النائب السابق حينها: “لكن لو أن أحد العارفين بالسكك والخبايا تقدم بنفس الطلب للحصول على قطعة أرض لبناء عمارات سكنية وتقسيمها سيحصل عليها فورًا”. وقد ضرب المثل بإحدى الوقائع التي طالب الوزير بالتحقيق فيها. لافتًا إلى أنه في محافظة كفرالشيخ وفي نطاق دائرته الانتخابية تحصل بعض الأفراد على قطعة أرض بملايين قليلة من الجنيهات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. ذلك قبل أن يقوموا بتقسيمها وإعادة بيعها بنحو 900 مليون جنيه.
أحد الملفات الأخرى في هذا البند أيضًا حسبما أشار إليه طنطاوي هو ملف فرش المساجد. قال إن الموافقة على الطلبات تتم لاعتبارات سياسية وليس لاعتبارات ما تقتضيه الحاجة والموضوعية. وقد طالب الوزير بأن تكون طلبات فرش المساجد المشفوعة بتزكية أحد نواب البرلمان، مرتبطة بمعاينة لجنة من إدارة الأوقاف المختصة. على الأقل للتأكد من مدى احتياج المسجد من عدمه.