فكرة الحوار السياسي بين الحكام والمحكومين قديمة وعابرة لمختلف النظم السياسية. ومسألة الحوار بين النظم الحاكمة والمعارضة تعرفها البلاد الديمقراطية وغير الديمقراطية على السواء. أما في بلادنا فقد عرفنا صورا مختلفة للحوار الوطني منذ انطلاق المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في مايو 1962 بين الزعيم جمال عبد الناصر وقوى سياسية وشخصيات عامة بينهم من عارضوه علنا في المؤتمر. مرورا بمؤتمرات الرئيسين السادات ومبارك. وانتهاء بالمؤتمر الذي دعا إليه الرئيس السيسي في إفطار الأسرة المصرية.
والحقيقة أن مبدأ الحوار بين الحكم والتيارات السياسية أمر إيجابي لا يجب رفضه. وأن المشاركة والاشتباك مع الواقع مهما كانت صعوبته ستظل أمرا محمودا حتى لو كانت المكاسب التي ستتحقق محدودة أو توقفت عند الإفراج عن المحبوسين في قضايا الرأي والاختلاف السياسي.
والحقيقة أن معضلة هذا الحوار تكمن في الواقع المحيط به. والذي يعرف مجموعة من التحديات مهم بحثها حتى تكون هناك جدوى حقيقية للمشاركة فيه.
التحدي الأول يتعلق بعملية الإضعاف التي أصابت القوى والأحزاب المدنية في السنوات الخمس الأخيرة. وشملت حبس مئات من كوادرها وأعضائها وحصار نشاطهم داخل المقرات الحزبية. حتى أصبحت هذه القوى في أضعف حالتها مقارنة بما كانت عليه الحال في السنوات الخمس الأولى التي أعقبت ثورة يناير.
ويكفي تذكر قوة “التيار الشعبي” في الشارع المصري بعد انتخابات الرئاسة في 2012. والتي حل فيها حمدين صباحي ثالثا ونجح في أن يقود التيار حتى أصبح واحدا من أبرز القوى على الساحة السياسية المصرية.
والأمر نفسه ينطبق على حزب الدستور الذي -رغم مشكلاته الداخلية- مثّل إطارا شرعيا لقطاع كبير من شباب ثورة يناير. وكان يمكن أن يكون نواة لبناء مؤسسة حزبية تتحرك وفق الأطر الشرعية وتقدم كوادر سياسية حقيقية غير سابقة التجهيز. ولديها مصداقية في الشارع وستؤمن مع الوقت بالمسار الإصلاحي ما دامت عرفت أن هناك جدوى من العمل الشرعي.
من هنا فإن صيغة الحوار مع التيارات المدنية بعد إضعافها تختلف عن الحوار مع التيارات المدنية في قوتها. وبعيدا عن النقاش عمن يتحمل مسؤولية أكبر لهذا الإضعاف: القوى المدنية أم السلطة السياسية؟، فإن مسؤولية الأخيرة الكبيرة مؤكدة.
أما السؤال الذي يطرح نفسه سيكون: ما المنتظر من حوار بين سلطة “قوية” مع تيارات سياسية “ضعيفة”؟
فهناك من يرى أنها قد تكون بداية للسماح لهذه القوى بهامش أكبر من حرية الحركة يساعدها على استعادة عافيتها. وهناك من يشكك في نتائج حوار بين طرف يمتلك كل أدوات السلطة والقوة وطرف آخر لم يعد قادرا على الفعل والحركة والتأثير.
والحقيقة أن مشاركة التيارات المدنية التي أضعفت في الحوار لا يجب رفضه من حيث المبدأ. ولا يجب أن يخضع لمزايدات بدت وكأنها صفة ملازمة لأداء القوى المدنية. وكانت أحد الأسباب وراء ضعفها وانقسامها. إنما المطلوب معرفة أن حوارا من هذا النوع لن يسهم في ذاته بحل مشكلات النظام السياسي المصري. ولا مشكلات القوى الحزبية والسياسية. نتيجة غياب قدرتها على إحداث الربط المطلوب بين السياسي والاجتماعي وعدم امتلاك الأحزاب المدنية قاعدة اجتماعية.
هذا الوضع يفتح الباب أمام التحدي الثاني. وهو عدم جعل الحوار الوطني فقط بين السلطة والأحزاب والقوى السياسية. إنما يجب أن يكون هناك حوار مع القوى الاجتماعية المختلفة التي تضررت بشكل كبير من السياسات المتبعة في السنوات الأخيرة.
فهناك جمعيات المستثمرين التي بات من الواجب الاستماع لمشكلاتهم الواقعية دون “تزويق” أو شعارات. فقد شهدنا تراجعا في معدلات الاستثمار المحلي والأجنبي. وتراجعا لدور القطاع الخاص في ظل مشكلات معروفة تعانيها السوق المصرية. ومطلوب بحث قضية الرقابة على مؤسسات الدولة التي تتمتع بحصانة خاصة. رغم أنها تعمل في المجال الاقتصادي والمدني. مطلوب معرفة مشكلات أهل الحرف والصناعات والمهنيين والشريحة العريضة من رجال الأعمال ومعهم عمال لا تمثلهم نقابات حقيقية. وهؤلاء جميعا كان يفترض أن يجدوا أحزابا أو نقابات قوية تمثلهم وتدافع عن مصالحهم.
وهناك المهنيون الذين باتوا يعانون مشكلات كبيرة أثرت على قيامهم بوظائفهم وأعمالهم. خاصة الأطباء والمحامين والصحفيين وغيرهم. وحتى من انتخبوا مجلس نقابة نسبيا قوية ولديه هامشا محدودا من الاستقلال مثلما جرى مع نقابة الأطباء. سلطت عليهم وزيرة الصحة ودخلت في سجال يومي معهم في عز أزمة جائحة كورونا. ولم يخفف من وطأة تجاهلهم والأزمة الصحية إلا استقبال رئيس الوزراء لنقيب الأطباء في بادرة إيجابية وحيدة لعلاقة تواصل بين كيان نقابي منظم والدولة.
وهناك مشكلات الأحياء التي نالها “تطوير” دون مشاركة أهلها. وهي المساحة الآمنة في كل النظم السياسية ديمقراطية أم غير ديمقراطية. حيث يكون سكان الأحياء طرفا أصيلا في عمليات التطوير التي تمسهم.
ويكفي النظر إلى تجربة الحزب الشيوعي الصيني التي يحتفي بها البعض في بلادنا ليعرف آلية تواصل أحد نظم الحزب الواحد الكفؤة مع سكان الريف والأحياء قبل اتخاذ أي قرار حكومي.
ستبقي معضلة الحوار الوطني أنها ستجري مع أحزاب أضعفت. وليس لها قاعدة اجتماعية قوية. أما القوى الاجتماعية والمهنية فهي أقرب لتيارات فئوية غير منظمة تحتج أحيانا بشكل عفوي على مشكلاتها الاجتماعية. ولكن رفض العمل المنظم باعتباره مصدرا خطرا كان هو السياسة المتبعة في السنوات الأخيرة التي أنتجت أحزابا ضعيفة واحتجاجات اجتماعية غير منظمة وبلا وسيط نقابي أو سياسي يذكر.
لكي ينجح الحوار الوطني ويفتح الباب أمام مراجعة السياسات القائمة أو على الأقل يقبل بالوجود الشرعي والآمن لمن يطالب بمراجعتها. سيتطلب إما فتح الطريق أمام الأحزاب والقوى السياسية ليكون لها قاعدة اجتماعية. وإما يترك للقوى الاجتماعية أن تفرز قيادات نقابية ومهنية جديدة تزاوج بين الاجتماعي والسياسي. أما الحوار على أرضية “توازن الضعف” فهو لا يجب رفضه لكن لا يجب توقع نجاحه في فتح الباب أمام معادلات سياسية جديدة.