في كثير من المجتمعات العربية، هناك من ينتظر المخلص أو المنقذ الذي يبدو وكأنه سيهبط من السماء لينقذ الناس من الظلم والفساد ويغير أحوالهم من الفقر والعوز إلى اليسر والثراء.
ولقد عرف العالم في القرون الوسطي نماذج كثيرة لهؤلاء المخلصين؛ فكان منهم محاربين أشداء، وملوك وقادة اتسموا بالشجاعة وأسسوا لإمبراطوريات كبري عاشت لقرون. وهنا لم يختلف الشرق عن الغرب والشمال عن الجنوب.
عاد هذا النموذج وأطل برأسه بصور جديدة في العصور الحديثة؛ فوجدنا قادة في القرن الماضي والألفية الثالثة وصلوا للسلطة على اعتبار أنهم مخلصون، ووجدنا منهم زعماء الكوارث الكبرى، مثل هتلر الذي وصل بآلية ديمقراطية إلى حكم ألمانيا وروج بأنه منقذ ألمانيا من شروط الحرب العالمية الأولى، وأنه سيبني نهضتها الجديدة، ولكنه سرعان ما أدخل البلاد والعالم في الحرب الأكثر بشاعة في تاريخ البشرية من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار الذي خلفته.
وهناك زعماء التحرر مثل الجنرال ديجول الذي ارتدى ثوب مخلص فرنسا من الاحتلال النازي ووصل للسلطة بآلية ديمقراطية وغادرها بهدوء وسلام، وينظر له باعتباره منقذ فرنسا من الانكسار والاحتلال ومؤسس استقلالها وكبريائها الوطني المعاصر.
كما عرف العالم العربي نموذج القائد المخلص على يد جمال عبد الناصر الذي نال شعبية هائلة من المحيط إلى الخليج، باعتباره بطل تحرر وطني في مواجهة الاستعمار، واعتبره كثيرون قادرًا على تحقيق طموحاتهم؛ فهو الذي سينقذهم من الفقر وسيعيد لهم كرامتهم كما تصوروا لفترات طويلة.
والحقيقة أن السؤال الذي كثيرًا ما طرح: هل قضية المخلص لها بعد ثقافي يخص العالمين العربي والإسلامي؟ خاصةً وأن البعض ربط بينها وبين قضية المستبد العادل. وكيف أن العرب والمسلمين يفضلون قيمة العدل حتى لو ربطت بالاستبداد أكثر من قيمة الحرية؟
المؤكد أن التجارب التاريخية حتى الحرب العالمية الثانية تنفي هذه القضية؛ فالغرب كما الشرق عرف قادة اعتبرتهم شعوبهم مخلصين من أزمة اقتصادية أو من انكسار وطني وقدموا نتائج مختلفة، وبعضهم كان وبالًا على الإنسانية وبعضهم الآخر كان ملهمًا لها.
وقد تغير شكل “المخلصين” في العالم في العقود الأخيرة، وخاصة في أوروبا والبلاد الديمقراطية؛ فظهر قادة وسياسيون من خارج المشهد السياسي التقليدي، وقدموا أنفسهم باعتبارهم مجددين للنظام القائم ومن خارج أطره التقليدية وقواه السائدة، فمثلًا تجربة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصل للسلطة أول مرة في 2017 وهو يبلغ من العمر 40 عامًا، ومن خلال حزب سياسي (فرنسا إلى الأمام) أسسه قبل عام من انتخابه، مستغلًا أخطاء المعسكرين اللذين هيمنا على الحياة السياسية في فرنسا منذ تأسيس الجنرال ديجول الجمهورية الخامسة عام 1958. وهما يمين الوسط الديجولي، واليسار الاشتراكي.
اقتسام السلطة بين فريقين لأكثر من نصف قرن دفع قطاع من الفرنسيين إلى البحث عن “مغير” لهذه المنظومة؛ أي المخلص بالمعني المعاصر، والبحث عن صيغة بديلة عن الصيغة السائدة على يد زعيم قادم من خارج المشهد السائد.
أما الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فقد ارتدي صورة الرئيس القادم من خارج المشهد السياسي التقليدي ويرفض الطبقة السياسية المسيطرة والإعلام، واعتبر نفسه من خارجها؛ فهو رجال مال وأعمال وليس رجل سياسي وتصرف كتاجر أكثر منه كرئيس.
والحقيقة، أن انتخاب ترامب مثل عكس للقيم التي انتخب أوباما كأول رئيس في تاريخ أمريكا من أصول أفريقية على أساسها، بكل ما يمثله ذلك من “تحول ثوري” في بلد كان لا يسمح للأمريكيين الأفارقة أن يصوتوا من الأساس حتى عام 1968.
ترامب “المخلص” هو عكس أوباما “المخلص” أيضًا؛ فالأول رجل أعمال تقدر ثروته بما يقرب من 5 مليارات دولار، وأنفق أموال طائلة على حملته ودعمه كبار أثرياء أمريكا، على عكس أوباما الذي لأول مرة في تاريخ الانتخابات الأمريكية يعتمد أساسًا في تمويل حملته الانتخابية على التبرعات الصغيرة أكثر من تبرعات كبار رجال الأعمال.
إن ظاهرة القادم من خارج المشهد السياسي التقليدي تكررت في أمريكا وفي مجتمعات كثيرة؛ فالمرشح الديمقراطي الذي خسر السباق داخل الحزب الديمقراطي “بيرني ساندر” لصالح بايدن القادم من قلب المؤسسة التقليدية مثّل بدوره صوت المخلص اليساري من شرور المنظومة الرأسمالية السائدة.
صورة المرشح القادم من خارج المشهد السياسي تعطي دائمًا انطباعًا بأنه المخلص من هيمنة النخبة الحاكمة، ومن مساوئ النظام السياسي القائم. وفي أمريكا كانت صورة ترامب رجل الأعمال الصريح والفج وغير السياسي هي التي عبرت عن تيار “ضد النخبة” في أمريكا، ونجح، وعادت أمريكا واختارت رئيس من صميم هذه النخبة ولصيق بها لأكثر من نصف قرن وهو الرئيس بايدن.
نماذج المخلص أو المنقذ فيها الصالح والطالح، وفي عالمنا العربي عرفنا مؤخرًا زعماءً اعتبرهم قطاع واسع من شعوبهم أنهم مخلصين مثلما جرى مع الرئيس السيسي باعتباره منقذ البلاد من حكم الإخوان. وكذلك ينظر قطاع واسع من الشعب التونسي للرئيس قيس سعيد باعتباره المخلص من الفساد وتناحر الأحزاب ومن حركة النهضة.
النظر إلى سياسي أو زعيم باعتباره مخلصًا أو منقذًا لا يحمل في ذاته إدانة أو إشادة؛ لأن الاختيار الحقيقي سيكون في قدرته على احترم قواعد دولة القانون، و أن يعتبر نفسه رئيسًا يخطأ ويصيب وليس نصف إله محصن لا يناقشه ولا ينقده أحد.