السنوات الأخيرة من حكم مبارك والتالية للثورة عليه في 2011 شهدت ظهور تيارات وحركات سياسية. “6 إبريل”-“كلنا خالد سعيد”-“الاشتراكيين الثوريين” وغيرها. ما أحدث حراكا اجتماعيا وسياسيا واسعا لم تستطع الأحزاب التاريخية كـ”الوفد والتجمع والناصري” فعله.
لكن، سرعان ما انحسرت “المعارضة” في مصر. إما بفعل الداخل وصراعاته. أو بفعل تغيرات سياسية على شكل تشريعات كقانون التظاهر والجمعيات الأهلية. أو عبر التضييق على حركة الأحزاب والتجمعات.
ورغم صعوبة الحركة في المجال العام، دائما ما واجهت الأحزاب المصرية لوما على ضعف تأثيرها. فوصفت بأنها “هشة” وغير قادرة على منافسة النظم الحاكمة التي تعارضها. وكانت الأحزاب دائما ترد بأن عملها “مقيد ضمن حياة حزبية لا مساحة لها ولا متنفس”. فضلا عن “استقطاب الدولة بعض الأحزاب المدنية ذات التاريخ”. و”غياب مفهوم الديمقراطية وإقصاء الشباب وإحداث فجوة عظمى بين كل ما هو حزبي وفكرة الالتحام مع الجماهير بفعل فاعل”.
هذا الموقف ربما تنطق به أحزاب كالوفد والتجمع والناصري وبالطبع جماعة الإخوان كتجمع سياسي ديني قبل ثورة 25 يناير. حيث لم تلعب هذه الأحزاب والجماعات أي دور حقيقي في الحشد لثورة. وربما كان هذا هو سبب انصراف جماهير يناير عنها عقب الثورة والاتجاه لتأسيس أحزاب جديدة. فظهرت أحزاب “المصري الديمقراطي الاجتماعي” و”التحالف الشعبي الاشتراكي” و”الدستور” و”المصريين الأحرار” و”تيار الكرامة الناصري”. ثم “الحرية والعدالة” -حزب الإخوان مواكبة للتيار والأحداث- ثم النور السلفي.
اقرأ أيضا: ملامح الحوار السياسي المرتقب
برامج وأفكار من أجل الحوار
بقفزة سريعة إلى الأمام سنوات نجد دعوة إيجابية من الرئيس عبد الفتاح السيسي لحوار سياسي وطني يجمع المصريين كلهم دون استثناء. وهنا يعود السؤال الدفين: هل لدى الأحزاب والتيارات الحالية قدرة لتطرح رؤى بديلة للقضايا الملحة خاصة الأحزاب حديثة النشأة بعد 2011؟”.
المهندس أحمد بهاء شعبان -رئيس الحزب المصري الاشتراكي- ذي التوجه اليساري يرى أن الأحزاب لم تقصّر في طرح حلول لمشكلات المجتمع. بداية من قضية العدالة الاجتماعية وتحسين المعيشة وإصلاح الاقتصاد أو الثقافة. لكن الحصار الذي تعرّض له اليسار من السبعينيات عندما تحالف “السادات” مع “الجماعات الإسلامية” لإجهاض انتفاضة الطلبة وصولا إلى الممارسات التالية والحالية هو ما أضعف المعارضة.
وقال “بهاء” لـ”مصر 360″ إن الحوار السياسي لا بد أن ينفتح على القوى الحقيقية. التي لم تتلوث يدها بدماء أبناء الوطن ولم تتورط في إرهاب المجتمع. فضلا عن وضع ضمانات ينبنى عليها الحوار.
وأشار إلى أن هناك أحزابا حقيقية تعاني حتى من دفع إيجار مقراتها. وأخرى تعمل في قصور وهي لا تمتلك برنامجا أيدلولوجيا لحل مشكلة من مشكلات المجتمع. وتعتمد هذه في تقديم نفسها للجمهور على توزيع سلع غذائية. مستغلة عوز الناس لاستغلال أصواتهم في الانتخابات. وهي ممارسات جماعة الإخوان سابقا ويتشابه معها البرلمان الحالي في كثير من الأمور.
يرى “بهاء” أن الأحزاب ما زالت تمتلك كوادر وخبرة وأفكارا ورؤى للمساعدة. لكنها تحتاج إلى فتح المجال العام. وأكد أن انتقاد التوجهات الحالية من جانب بعض المعارضين ليس نوعا من المكايدة السياسية. لأن الجميع “في مركب واحد هو الوطن”. وأضاف: “أي تراجع يؤثر على الجميع. وهو ما أشار إليه الرئيس السيسي في خطابه خلال إفطار الأسرة المصرية أن هناك مشكلا يجب أن يتشارك الجميع في حلها”.
تجديد الكوادر
“أدى التشقق والانقسام في بعض التيارات لتفتتها لأحزاب صغيرة. كل منها يضعف في ذاته. فلا تجديد للقيادات ولا بناء لكوادر. فيما يستمر صراع بينها يمنع تكوين تحالفات انتخابية وسياسية محدودة. وبالتالي تفشل في منافسة التيارات الأخرى”. هكذا كتبت الدكتورة دينا شحاتة -رئيس وحدة الدراسات المصرية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- بأحد مقالاتها.
وحددت الدكتورة دينا عيوب الأحزاب المصرية في “الشخصنة وغياب الديمقراطية الداخلية”. حيث “تنفرد نخبة محدودة من القيادات بعميلة صنع القرار. وغالبا ما تتكون هذه النخبة من الذكور كبار السن. فيما يتم استبعاد العناصر النسوية والشبابية وممثلي الأقاليم والأقليات الدينية بشكل ممنهج. ما يضفي طابعا سلطويا ونخبويا وإقصائيا على هذه الأحزاب”. بل يجعلها في كثير من الأحيان صورة طبق الأصل من “الدولة السلطوية”.
وقالت إن تحالف أحزاب مع النظام الحاكم في مواجهة تيارات راديكالية خوفا من صعود هذه التيارات الإقصائية مبني على تصديق الأحزاب أن “الدولة السلطوية أقل خطورة من التيارات الراديكالية”.
مطاردة الكوادر
يعود بهاء شعبان ليؤكد أن وصف المعارضة بـ”الضعف” هو “افتئات على الحقيقة”. فهناك أسباب برأيه أدت لهذا الضعف. على رأسها أن النظام السياسي في مصر “يتعمد تهميش المعارضة ويطارد كوادرها” -حسب قوله. ويكمل: “فالأحزاب القديمة كالوفد والتجمع مرت كوادرها بتضييقات كثيرة ما أدى إلى حصارها داخل المقرات وحجبها من التواصل مع المجتمع”.
وأضاف أن الخطاب الإعلامي السلبي عن المعارضة ووصفها بـ”الهشاشة والتخوين” أحد أهم أسباب ضعف تأثيرها. ما أفقد الجماهير الثقة بها. إضافة إلى عدم تمكينها من الوصول إلى مراكز الدعم الثقافي والوزارات والتواصل مع الجماهير في الجامعات والمصانع. خصوصا بعد 2011. في المقابل يتم إغداق الأموال والمحاباة على أحزاب أخرى.
تشريعات مقيدة
كان لقانون التظاهر الصادر في 2013 -يحظر التظاهر والتجمهر دون الحصول على تصريح مسبق- ارتباطه بتغير نمط التعامل مع تيارات المعارضة. كما صدرت تشريعات أخرى كتعديل قانون جامعة الأزهر بإضافة مادة تجرم “إهانة الأزهر”. والذي منح إدارة الجامعات منع التجمهر أو التظاهر بكل الأساليب. وهو ما حدّ من قدرة الحركات الاجتماعية والقوى السياسية التي تمتلك قاعدة طلابية على الاتصال الجماهيري.
وأضاف “شعبان”: كما وُضعت ضوابط على عمل منظمات المجتمع المدني. وتم ترجمتها في قانون الجمعيات الأهلية. وهو ما انعكس على البرلمان المنتخب في ديسمبر 2015 ليعبر عن نقص شديد في الخبرات والتنوع السياسي.
وعن الإجراءات المقيدة للحريات والتظاهر اعتبر محمد أبوحامد -البرلماني السابق- أن التشريعات بعد “30 يونيو” تمت في ظروف استثنائية. ما جعل القوانين السياسية عموما يغلب على صياغتها رؤية متحفظة. حتى لا تستغلها عناصر الجماعات الإرهابية في أحداث فوضى. لكن بعد نجاح الدولة في تحقيق الاستقرار الأمني صار فتح المجال ضرورة ويحتاج إلى إعادة نظر كالقوانين المذكورة. وأكد أن القوى السياسية ستتطرق إلى هذا خلال الحوار السياسي الذي دعا إليه الرئيس السيسي.
اقرأ أيضا: وقف الاحتجاز التعسفي والإفراج عن المحبوسين احتياطيًا.. مطالب المجتمع المدني للحوار مع الدولة
لعبة الاستقطاب
الدكتور عمرو هاشم ربيع -الباحث في الشؤون السياسية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية- أرجع جميع الحركات الاجتماعية الموجود والناشئة في مصر إلى أربعة تيارات. اليسار ويضم “ناصريين وقوميين واشتراكيين وشيوعيين”. والليبرالي كـ”الوفد والمصري الديمقراطي الاجتماعي والدستور والمحافظين وغيرها). وتيار إسلامي ثم تيار الوسط. واعتبر الأخير “غير محدد الهوية الأيديولوجية وقابل للانجذاب لأي تيار يعبر عن مصالحه”. ورغم استحواذهم -الوسط- على الأغلبية في البرلمان فهم لا يعبرون عن المجتمع وقضاياه رغم أنهم ممثلون في البرلمان بصورة جيدة.
وقال “ربيع” لـ”مصر 360″ إن النظام قبل ثورة 25 يناير دخل مع الأحزاب في لعبة. فتعاون مع الإخوان لإزاحة الأحزاب المدنية. فصار طرف يستخدم الدين فزاعة لاستقطاب مؤيدين “الإخوان” ومن شابههم. والثاني “الدول” يستخدم مقدرات البلد لضم مؤيدين. فكانت النتيجة إقصاء التيارات الأخرى والتفاوض بين السلطة والإخوان. ما أدى إلى غلق الحياة السياسية.
تكوين المنابر
الدكتور صلاح السروي -عضو المكتب السياسي بالحزب الشيوعي المصري- أرجع هشاشة المعارضة في مصر إلى ما بعد سنة 1953. وهو تاريخ حل الأحزاب. وحتى مع السماح بتكوين التنظيمات ثم الأحزاب في السبعينيات كانت محكومة بموانع لا يسمح لها بالعمل إلا داخل مقراتها. وممنوعة من ممارسة السياسية مع الطلاب والفلاحين والعمال. ما أدى إضعاف الحركة الحزبية.
وقال “السري” إن السلطة في مصر عمدت لاختراق الأحزاب لإحداث انقسامات بها. مثلما جرى مع حزب الوفد. مشيرا إلى ملاحقة حزب التجمع والتضييق على كوادره.
إضافة إلى ما اعتبره “حملات تشويه عبر الإعلام بعد 2011 أدت إلى أفول عام للمشاركة مع أي تيار سياسي. بالإضافة إلى تراجع الثقافة السياسية في المجتمع.
وقال إن الأحزاب مدارس سياسية تؤهل وتدرب الكوادر سياسيا وتثقيفيا لتولي مناصب وممارسة سياسة. لذلك يفتقر الواقع الحالي القدرة على طرح أسماء ذات وزن لتولي حقائب وزارية ومواقع قيادة ممن لديهم خبرة. بسبب تجريف الحياة السياسية لعقود طويلة –حسب قوله.
الحوار وفرصة الانفتاح علي الجماهير
من مظاهر ضعف الأحزاب في نظر “السروي” محدودية الاتصال المباشر مع الجماهير. إذ حدثت عملية “تدجين” واستقطاب للأحزاب فتحولت من قوى موازية للنظام الحاكم لـ”أدوات تجميل وجه النظام”.
“السروي” أكد أن الأحزاب لا تزال قادرة على طرح رؤى سياسية إذا تم فتح المجال العام أمامها. وإذا ما توفر جو ملائم من حرية الفكر والتعبير والسماح لها بالانفتاح على الجماهير والمجتمع.
وطالب باستقلال الأحزاب ودعم الحركة الحزبية من قبل الدولة بإتاحة الفرص وتكافؤها في انتخابات البرلمان والمحليات لإثراء الحركة السياسية وإرسال رسائل ثقة للمواطن في جدوى المشاركة. وهذا كله يصنع مواطنا إيجابيا.
بيئة مناسبة
شهدت التجربة الحزبية بعد 2011 تناميا ملحوظا وحالة حراك سرعان ما تراجعت نتيجة اضطراب الوضع الأمني بالصدام مع الإخوان والجماعات الإرهابية. فتقلص دور الأحزاب في قالب شكلي لكن استقرار الوضع الأمني الآن دفع النظام للمبادرة والدعوة لحوار سياسي وطني يجمع كل الأطراف دون إقصاء لفصيل شرط ألا تكون يده تلوثت بدماء المصريين.
يوضح “أبوحامد” أن الأوضاع عقب 2013 وأعمال العنف والإرهاب لم تمنح الوقت الكافي للأحزاب لمشاركتها بفاعلية في الحياة السياسية. وجاءت دعوة الرئيس للحوار عندما تهيأت البيئة المناسبة لطرح رؤاها. لافتا إلى أن هذه الخطوة ستدفع الأحزاب لتفعيل دورها والبحث داخل أعضائها عن متخصصين لحل ومناقشة القضايا المطروحة.
واعتبر مبادرة الحوار السياسي بداية لفتح المجال العام ومنح المعارض فرصة لتدعيم قواعده والعمل بآليات طبيعية تعزز وجوده بتمثيل جيد في البرلمان أو داخل الحكومة نفسها.
ولفت الدكتور محمد حسن -أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة- إلى ضرورة إتاحة مساحة من الحرية للإعلام الحزبي وإصدار الصحف. وذلك لمخاطبة الجماهير بتوجهاتهم وأفكارهم. فهذا الأمر سيضع الأحزاب في اختبار واقعي لنرى إن كانت هذه الأفكار ستصمد أم تتراجع.
وطالب بتخفيف القيود والتضييقات المفروضة عن أفراد وكيانات لم تهاجم المجتمع ولم ترفع ضده السلاح. كما طالب المعارضة أن تأخذ طوة الحوار بجدية وألا تستعملها للمكايدة السياسية والتشفي لأن الجميع في مركب واحد كما قال الرئيس.