وسط تعويل على دور قطري لتحريك مفاوضات الاتفاق النووي المتوقفة زار أمير قطر تميم بن حمد مؤخرا إيران. وذلك للقيام بوساطة لدعم مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي العالقة بسبب مجموعة نقاط خلافية في محاولة لبناء الثقة بين الإدارة الأمريكية وطهران.
زيارة أمير قطر لطهران -التي من المقرر أن يتبعها بجولة أوروبية تشمل ألمانيا وبريطانيا- تأتي ضمن دفع أطراف الأزمة إلى أرضية مشتركة جديدة في ظل تمسك الإدارة الأمريكية وطهران بخطوطهما الحمراء والوصول إلى طريق مسدود. أمام إصرار إيران على مطلب شطب الحرس الثوري بكل أذرعه من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. وأيضا رفض الرئيس الأمريكي التعهد بعدم انسحاب أي رئيس أمريكي قادم من الاتفاق.
صفقة يحتاج إليها الطرفان
منتصف مارس الماضي كشفت صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية نقلا عن مسؤولين بارزين أن الولايات المتحدة وإيران طلبتا من قطر الوساطة لدعم المفاوضات حول الاتفاق النووي وحل القضايا العالقة بين الطرفين وأبرزها مسألتا الضمانات والعقوبات.
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن المصادر التي وصفتها بـ”المطلعة” على المفاوضات النووية قولهم. إن قطر زادت جهود الوساطة في محاولة لإقناع قادة إيران المترددين في التوقيع على إحياء الاتفاق النووي. مشيرةً إلى أن الدوحة تقوم بوساطة بناء على طلب من الولايات المتحدة وإيران لدعم المفاوضات.
ونقلت الصحفية الأمريكية عن دبلوماسي سابق مطلع على المحادثات أن “كلا الطرفين يحتاج إلى صفقة وهناك استعداد من كليهما”. و”كل طرف يعتقد أن الطرف الآخر لا يريدها وأنها غير شرعية”.
محاولات قطر في تقريب وجهات النظر بين إيران والولايات المتحدة لا تتوقف عند الملف النووي. وإنما تتجاوز ذلك نحو قضايا المحتجزين الغربيين في إيران. وبحث ملف الأموال الإيرانية المحتجزة في الغرب باعتبارها عوامل أساسية يمكن أن تسهم في التقدم في مفاوضات الاتفاق النووي.
علامَ تستند الدوحة في وساطتها؟
تطرح قطر نفسها مؤخرا وسيطا في أزمات إقليمية ودولية مستندة على مجموعة من المحفزات. فإضافة لاستضافتها سابقا محادثات بين الغرب وحركة طالبان قبل أن تستعيد الأخيرة السيطرة على أفغانستان وتشكل حكومة لم يعترف بها المجتمع الدولي. تستضيف الدوحة محادثات بين فرقاء تشاد وتتحرك في الوقت ذاته لدفع جهود التهدئة بين الخليج وإيران. وكذلك لإنعاش المحادثات النووية بين طهران من جهة وواشنطن وحلفائها الأوروبيين من جهة ثانية.
تأتي التحركات القطرية في ظل زخم تشهده دبلوماسيتها في أعقاب المصالحة الخليجية. التي شهدتها قمة مجلس التعاون الخليجي في “العلا” بالمملكة العربية السعودية مطلع عام 2021. وهو الاتفاق الذي كان بمثابة قوة دفع هائلة للدوحة جعلها تتحرك لانتزاع دور الوسيط في أزمات متناثرة.
وكان القرار الأمريكي في العاشر من مارس الماضي بتصنيف قطر حليفًا رئيسًا من خارج حلف الناتو عملا بالمادة 517 من قانون المساعدة الخارجية الأمريكي لعام 1961. بمثابة ضوء أخضر للدوحة بتوسيع مساحات نفوذها في الإقليم ودعم تحركها في عدد من أزمات المنطقة كوكيل للإدارة الأمريكية.
ويمنح هذا الوضع قطر بعض المزايا في الدفاع والتعاون الأمني. فمصطلح “حليف رئيسي خارج الناتو” أو (Major non-NATO ally) اختصاراً “MNNA” صفة يطلقها الناتو أو الحكومة الأمريكية على الدول التي لها معها علاقات قوية. لكنهم ليسوا بأعضاء في هذا الحلف.
هذا التصنيف يمنح قطر مزايا تفضيلية للحصول على المعدات والتكنولوجيا العسكرية الأمريكية. بما في ذلك المواد الفائضة المجانية والتعامل مع الصادرات بشكل عاجل وإعطاء الأولوية للتعاون في التدريب.
قطر والحياد
وستسمح تلك الخطوة لقطر بالحصول على أسلحة متقدمة مستقبلاً. والدخول في مشاريع البحث والتطوير التعاونية مع وزارة الدفاع الأمريكية (DoD) على أساس التكلفة المشتركة والمشاركة في بعض مبادرات ومشاريع مكافحة الإرهاب.
القرار الأمريكي يمكن قراءته ضمن جملة إشارات تظهر حجم العلاقة بين الإدارة الأمريكية الحالية والدوحة. خاصة بعدما استقبل الرئيس الأمريكي جو بادين أمير قطر في البيت الأبيض يناير الماضي كأول زعيم خليجي يزور أمريكا منذ تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة.
في المقابل كان حياد قطر الخليجي تجاه إيران عنصر قوة إضافي دعم طموح الدولة الصغيرة الدؤوب للبقاء لاعبا دوليا رئيسيا. فضلا عن قدرتها على الابتعاد عن الحافة بعد 5 سنوات من حظر إقليمي هدد بتحويلها إلى منطقة منعزلة في الشرق الأوسط. فخرجت الدوحة من عباءة السعودية بعد الحصار الذي فرضته عليها بالتعاون مع الإمارات والذي امتد من يونيو 2017 إلى يناير 2021.
واستطاعت قطر في أعقاب المقاطعة أن تنسج علاقة متينة مع كلٍّ من تركيا وإيران كدولتين كبيرتين في المنطقة. وكقوتين صاعدتين على مستوى الإقليم دون أن يعني ذلك أن الدوحة خرجت من العباءة الأمريكية. رغم دعم الرئيس الأمريكي وقتها دونالد ترامب للإجراء الخليجي.
تلك العلاقات الودية بين الدوحة وطهران كانت مثمرة مع وصول إيران والولايات المتحدة مؤخرا إلى منعطف حاسم في المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي.
خلال ذلك كله كانت قطر تحافظ على علاقات قوية مع “طالبان” المصنفة كجماعة متطرفة. وهي العلاقات التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى الاعتماد عليها كوكيل في محادثات مع الحركة بدأت عام 2020. كانت بمثابة مقدمة لانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. حيث لعبت الدوحة دورا رئيسيا خففت به من وطأة الخروج غير المنظم للقوات الأمريكية بالشكل الذي يضمن عدم مهاجمتها وكذلك تسهيل عمليات الإجلاء.
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية مؤخرا وما صاحبها من اضطرابات في سوق الطاقة العالمية وأمام الموقف الإماراتي السعودي المناوئ للإدارة الأمريكية ورفضهما للمطلب الأمريكي بزيادة إنتاج النفط. لتخفيف التأثيرات السلبية وتقديم يد العون للحلفاء الغربيين. قدمت قطر -أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم- عرضا للمساعدة في التخطيط الطارئ لإمكانية حدوث اضطرابات في إمدادات الطاقة في أوروبا حال ما إذا استمرت التداعيات السلبية للحرب. خاصة أن الدوحة وطهران تملكان ثاني وثالث أكبر احتياطات غاز في العالم. ولهما دور مؤثر في سوق الطاقة العالمية. وأي تداعيات تحصل في هذا المجال ستطال البلدين.
فرص نجاح قطر في إنقاذ الاتفاق النووي
تشير مجموعة من الدلائل إلى فرص ليست بالهينة لنجاح الدور القطري في الوقت الذي تحظى فيه الدوحة بثقة الولايات المتحدة. خاصة بعد جهودها في ملف محادثات السلام الأفغانية.
كذلك ترتبط الدوحة وطهران بعلاقات جيدة تعززت خلال الأزمة الخليجية في 2017 بعدما فتحت إيران مجاليها الجوي والبحري لكسر الحصار المفروض عليها. كما تتفهم إيران وضع الدوحة المتميز والمغاير لأي مخاوف وانعدام ثقة يجمعها مع أطراف أخرى. منها تل أبيب وجبهاتها وأنشطتها التحريضية لمواصلة التصعيد وتقويض استعادة الاتفاق النووي.
ثقة طرفي النزاع (واشنطن وطهران) في الدور القطري يعد من أبرز عوامل إنجاح الوساطة. وهو ما أكده مسؤول أمريكي بارز في حديث لـ”فايننشيال تايمز” مؤخرا بقوله “إن قطر كانت مفيدة للغاية في دعم الجهود لاستئناف التنفيذ الكامل لخطة العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي)”.
يزيد من فرص نجاح الجهود القطرية مصادفتها رغبة طرفي النزاع في تخفيف حدة التوتر. إما لأسباب داخلية في الحالة الإيرانية وأخرى خارجية في الحالة الأمريكية. خاصة في ظل انشغال الإدارة الأمريكية بقضايا عالمية أكبر وأكثر أهمية مرتبطة بالتنافس مع الصين والصراع مع روسيا في أوكرانيا.
يعزز فرص التوصل إلى اتفاق أيضا تحول توجهات الصدام عموما بعد رحيل إدارة ترامب ومجيء إدارة بايدن لتحدث تغيرا في التوجهات الدولية والإقليمية نحو منطق حماية المصالح وبراجماتية الأهداف المشتركة. وهو النهج الذي تسعى الإدارة الأمريكية لترسيخه لدى حلفائها في المنطقة.
كذلك تمثل التحركات من جانب قوى الخليج التقليدية ممثلة في السعودية والإمارات لفتح قنوات اتصال مع إيران. والاتجاه نحو تصحيح مسار العلاقات معها. في ظل عودة التقارب السعودي القطري مؤخرا في أعقاب المصالحة الخليجية أملا لنجاح المساعي القطرية. في وقت ربما تكون فيه الدوحة إحدى قنوات إيصال رسائل الطمأنة المتبادلة بين الرياض وطهران.