فرضت جائحة كورونا العديد من القيود على المصريين، حيث غيبت ظواهر استمرت عقودًا طويلة مضت، فلا يتخيل العقل المصري رؤية المقاهي الصاخبة صامتة بدون كركرة الأرجيلة الشهيرة ودخانها الكثيف الذي يغطي مجال رؤيتنا، في ظاهرة غير مألوفة على مجتمع ينفق 40 % من رواتبه على المقاهي، ويستهلك 40 مليار جنيه سنويا على المعسل والسجائر.
تطورت علاقة المصريين بالدخان على مدى القرون الأربعة الفائتة، فمن تدخين “التمباك” أو”الشبك” سرا في حلقات صغيرة بالبيوت وأمام الدكاكين، مرورا بإنشاء المقاهي في شكلها القديم بآرائك وحصر، وصولا إلى شكلها الحالي في الكافتيريات والكافيهات.
بدأت علاقة المصريين بشرب الدخان في مطلع القرن السابع عشر خلال العهد العثماني، من خلال جلسات خاصة للأمراء والعلماء في منازلهم وقصورهم، أو سرا مع العسكر، واستمر التدخين يجرى سرا هكذا في الحلقات والمنازل وقتا طويلا، حيث كان المدخنون يتعرضون لمعارضة شديدة وساد فكرة حينذاك أن شاربيه من أسافل الناس، وفقا لدراسة هيام صابر “الدخان والمجتمع المصري” الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة تاريخ المصريين.
نشأة المقاهي
تشير العديد من المراجع والكتب إلى أن نشأة المقاهي بشكلها القديم كانت في القرن التاسع عشر، وكانت مجرد مصاطب وأرائك وحصر تقدم مشروبات ساخنة والدخان عبر التمباك، فلم يكن يعرف المصريون مشروب القهوة نفسه حتى هذه الفترة، ثم سميت الأماكن التي يحتسى فيها المشروب بالقهاوي.
وينقل جمال الغيطاني في كتابه “المصريون المحدثون” عن المستشرق الإنجليزي، إدوارد وليم لين، إن القاهرة كان بها أكثر من ألف مقهى، والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود، ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل مصطبة من الحجر أو الآجر، تُفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثة وعرضها كذلك تقريبًا، وفي داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة، ويرتاد المقاهي أفراد الطبقة السفلى والتجار، وتزدحم بهم عصرًا ومساءً، وهم يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية، ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه.
الأرجيلة علينا والتبغ على الزبون
وكان شعار المقاهي في القرن التاسع عشر “الأرجيلة علينا والتبغ على الزبون” فكان مدير المقهى يعد الأرجيلة للزبائن الذين يطلبونها في الوقت الذي كان كل زبون يحضر معه تبغه للمقهى. وتغيرت هذه الصورة في القرن العشرين، حيث أصبح الزبون يحصل على التنباك من المقهى ذاته.
حينما كانت المقاهي والأزقة تتنفس حشيشا
قد يبدو عجيبًا لك إذا قرأت عن المقاهي المصرية التي كانت تدخن الحشيش بكل أريحية، حيث عرفت العاصمة تدخين الحشيش على نحو واسع، وكانت معظم مقاهي بولاق تدخن الصنف، كما لم تخل المقاهي الوطنية من صنف الحشيش وشاربيه الذين جلسوا على المتكئات وتكيفوا به بحرية شديدة.
إلا أن تدخين الحشيش خلال العهد العثماني اتسم بالسرية في البداية قبل أن يدخن على مسمع ومرأى الجميع بالمقاهي العمومية في حي العطارين بالإسكندرية، وحاول الحشاشون الابتعاد عن أعين رجال البوليس آنذاك بالاختباء في قوارب النيل، التي صار مكانا لهم بدلا من المحاشش “مقاهي تقدم الحشيش”.
وبحسب الكتاب، لعبت الصحافة المصرية دورا كبيرا في إرشاد الوزارة على الأماكن التي تسمح بتدخين الحشيش خلال عام 1898.
وأدى تفشي ظاهرة تدخين الحشيش في المقاهي إلى مطالبة البعض الحكومة بمعاقبة أصحابها، وهو ما استجابت له الداخلية بمعاقبة المخالفين بغرامات مالية وتهديدهم بإغلاق المحال وحبسهم 6 أشهر، إلا أن رجال البوليس عانوا الأمرين في ملاحقة الحشاشين وضبط أدواتهم بسبب حيطتهم الشديدة من المخبرين، وسيطرة بعض الأجانب على ملكية هذه المقاهي، ما منعهم من أداء عملهم بجانب تساهل كثيرين في عمليات الضبط لانتشار الحشيش في كل حارات وأزقة القاهرة، بل كان هناك ضباطا يشاركون في جلسات التحشيش لإسكاتهم.
تقنين زراعة الحشيش
لذا لا تبدو المطالبات المستمرة بتقنين زراعة الحشيش وتدخينه جزءا من الخيال الخصب لمدخني الحشيش الذين يتجاوز عددهم في مصر 6 ملايين متعاط، بحسب الأرقام الرسمية، إنما امتداد لواقع عاشه المصريون أنفسهم في عصور مضت.
وتحتل مصر المركز 25 عالمياً في قائمة الدول الأكثر تعاطياً للحشيش، بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، بنسبة وصلت إلى 6.24% من عدد السكان، أي قرابة 6.2 مليون.
وسبق أن طالب رئيس رابطة تجارة السجائر في مصر، أسامة سلامة، الحكومة بتقنين الحشيش، لأن في ذلك تقنيناً لاستهلاكه وجلب ملايين الدولارات، موضحاً أن زراعته وتقنينه سيوفر قرابة 4 مليارات دولار للخزينة.
مواعيد الإغلاق.. معركة قديمة- جديدة
لا تبدو مخططات الحكومة لتبكير موعد إغلاق المقاهي والمحال التجارية بدعة في هذا العصر، فهي ليست بعيدة عن التاريخ وأفكار أسلافها، إذ شهد القرن التاسع عشر أيضا إغلاق مقاهي السويس في الحادية عشرة مساء، كما ألزمت حكمدارية الإسكندرية بالإغلاق في الثالثة صباحا، وهو ما قوبل باعتراضات أيضا حينها لرغبتهم في بقائها مفتوحة حتى الصباح، بحجة أن البواخر والقطارات لا تكف عن التوارد في الليل والفجر حاملة كثيرين من الغرباء الذين يقصدون المقاهي للاستراحة من عناء السفر.
وشهدت القاهرة في مطلع القرن العشرين إغلاق مقاهي الرقص عند منتصف الليل، لكن أصحابها لم يلتزموا بالأوامر الصادرة في 1901، وظلت تعمل حتى الساعة الثانية صباحا.
وفي وقت لاحق، رأي البعض ضرورة توحيد ساعة إغلاق المقاهي والمحلات العمومية في القاهرة والإسكندرية بحيث تكون الساعة الثانية عشرة، ثم تصبح في الساعة الثامنة أو التاسعة بعد فترة من تطبيق القرار الأول. وراج في تلك الفترة أسباب قريبة من التي تسوقها الحكومة حاليا للإغلاق المبكر وهي: القضاء على الاقتصاد بالنفقة، والإقلاع عن المسكرات، والزهد بالعواصم لقلة ملاذها الليلية، وعودة أهالي الأقاليم إلى أرضهم وقراهم وإلى منازلهم وذويهم.
السيجارة.. بدعة غربية
لم تكن السيجارة “لفافة التبغ” مألوفة في مصر حتى وقت متأخر من القرن الثامن عشر، فكانت الأرجيلة هي العنوان الأول للتدخين، حتى تسللت السيجارة إلى المجتمع من بوابة أبناء الطبقات الارستقراطية الذين استكملوا دراستهم في أوروبا، وكذلك رجال الأعمال الأوروبيين الذين استعانت مصر بهم في تلك الفترة.
وبحسب ما رصدته المستشرق الإنجليزي، فإن المصريين تعجبوا من رؤية السجائر في أيادي المدخنين في بداية ظهورها، حتى انقسموا إلى حزبين: حزب السيجارة وحزب الأرجيلة، ورأى البعض تدخين الأولى دليل على التقدم، وكثرة العمل، على أساس أن مدة تدخينها كانت لا تزيد عن عشرين دقيقة فقط، بينما الثانية تستغرق ساعتين مما يدعو إلى الكسل وترك العمل.
وارتبط تدخين الأرجيلة في مصر دائمًا بالطبقات الدنيا والتجار الذين لم يستطيعوا الاستغناء عنها واستبدالها بالسيجارة، فالتجار دائمًا هم العنصر المحافظ في مصر كما هو الحال في كل بلد آخر، أما الطبقات الراقية فهي الأكثر ميلا للتحرر من شرقتيها عاما بعد عام في عاداتها ومظهرها الخارجي.
فالتدخين لا يقتصر على طبقة دون أخرى، أو شريحة دون غيرها، وإنما كان لكل طبقة نوع خاص من الدخان يلائم أوضاعها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية، وكان لكل فئة تقاليد خاصة في التمتع بلذة التدخين التي كانت تشكل محورا مهما وأساسيا من تفاصيل حياتها اليومية.