الفشل الكلوي دم يصرخ بصمت في الجانب القصي من الجسد تنشف معه أحلام العمر وتدخل في رفوف الذاكرة.
وهنا حكايات لفتيات لم يتجاوزن الثلاثين. كانت حياتهم مليئة بالأحلام لكن أمام شبح المرض تتجمد الأحلام. كل شيء يدخل في إطار التأجيل والتسويف مع القدر. فقد تخلّى هؤلاء عن مشاريع الزواج والأمومة واستكمال الدراسة. ففشل الكلى لم يُبقِ لهن قدرة على التعايش مع متطلبات الحياة وأثقالها.
ضربة في مقتبل الحلم
للتو كُنَّ يفتحن أعينهن على حياة تبتدئ. ويلقين أشرعة سفنهن باتجاه الحياة العريضة. وها هي واحدة منهن. صفية ياسين من البحر الأحمر -اسم مستعار- تخرجت في كلية الحقوق. حاولت التقدم بأوراقها لتعمل في سلك القضاء أسوة بأفراد عائلتي. لكن وحشا ما يسكن بجنبها أعلن عن نفسه لينغّص عليها أول المشوار. تحكي “صفية”: “كنت باحلم أنجح جدا في شغلي وجوازي. بس عرفت بعد التعب أني هاقضي السنين الباقية من حياتي بين غرف العمليات وجلسات الغسيل الكلوي وأنا لسة 21 سنة. تنازلت عن حلم الزواج والدراسة غصب عني. مانا مش كل واحد هاقابله هاقعد أحكي له مأساتي”.
في عام 2012 كان القدر يخبئ لـ”صفية” ألمها الأزلي. فشلا تاما في الكلى. أرادت أن تستكمل دراساتها العليا في القانون الدولي. وبعدما قبلت رسالتها للماجستير بدأت تظهر عليها أعراض غريبة: “دوخة وترجيع”.
بعد عرضها على أطباء كثر قال غالبيتهم إنها سليمة وليس بها أي مرض وصلت أخيرا إلى محطة يقينها المؤلمة. تدهورت حالتها. وآخر طبيب قال لأسرتها: “دخلوها غسيل كلوي فورا”.
رحلة مع غسل الدم والهمّ
تقول “صفية”: “الصدمة سيطرت عليّا. ازاي يا دكتور؟ أنا عمري ما اشتكيت من جنبي قبل كده”.
لكن لا مفر من رحلة جلسات الغسيل الكلوي.
حاولت “صفية” أن تهون الكارثة على نفسها بالسفر والتعرف إلى أصدقاء جدد. ورغم معاناتها لم تشعر باليأس: “أهلي وقفي جنبي جدا”.
أجرت “صفية” عملية “الوصلة الشريانية” التي تكررت مرات بسبب معاناتها من الضغط المنخفض. ما سبّب لها انسدادا في الأوردة فأجريت لها قسطرة مستديمة في القدم. ونتيجة ظروفها الصحية “ضاع” عليها الماجستير والالتحاق بسلك القضاء.
سوق الكلى السوداء
فكرت “صفية” أن تجري عملية زراعة كلى: “لكن بعد ما شوفت اللي بيحصل في سوق السمسرة تراجعت”.
وتروي: “قابلت سمسار جاب لي متبرع. وفوجئت باستغلال السماسرة لأطفال الشوارع ومتعاطي المخدرات والفقراء. مستغلين حاجاتهم المادية. لن أنسى لقائي بشابة أرادت بيع كليتها من ورا جوزها لتنقذ أطفالها من الفقر. نصحتها ماتعملش كدا وقلت لها تشتغل أي مهنة حلال. فالفقر مع الصحة كنز”.
تحمّست “صفية” لمشروع الزواج في بادئ الأمر. لكن بعد مرور سنوات من “الغسيل والعمليات المتعددة” وجدت أن الزواج سيكون مسؤولية صعبة لمن في مثل حالتها. تقول: “دلوقتي باشغل نفسي بحفظ القرآن وتعليمه لأولاد أخواتي. حفّظت والدتي كمان القرآن. وسعيدة بحياتي وأصدقائي اللي عرفتهم في جلسات غسيل الكلى”.
ضغوط نفسية مبكرة
نسرين ياسر من الدقهلية -اسم مستعار. تروي لـ”مصر 360″ مأساتها: “أجهضت طفلين كانوا حلم عمري. لكن للأسف كل مرة لا يكتمل الحمل. عائلة جوزي -حب عمري- دفعته للزواج بأخرى لإنجاب أطفال. ولكن رغم ذلك لم يتخل عني”.
عن معاناتها مع أزمة الكلى تروي “نسرين”: “اكتشفت إصابتي بالفشل الكلوي بالصدفة. كنت أعاني من ضغوط نفسية شديدة في منزل عائلتي. لم أتخيل يوما أن صحتي ستتدهور إلى هذا الحد. فجأة اكتشفت مرضي قبل 10 سنوات. لم يحتمل والدي الصدمة وتوفي بعد 6 أشهر من إصابتي”.
بعد إنجابها طفلتها الوحيدة ذهبت “نسرين” لطبيب نساء وتوليد لتنجب مجددا: “حصلت على منشطات 3 أشهر ولم يحدث حمل. فاداني الطبيب منشطات وحقن تفجيرية وفجأة تورم جسمي مع اصفرار بشرتي. لأكتشف بعد فحوصات إصابتي بالفشل الكلوي”.
تقول نسرين: “جلسات الغسيل الكلوي شيء قاسي جدا على أي حد. للأسف نتيجة مرضي كل حمل يسقط أو يموت بعد ولادته. كما حدث في طفلي الثاني الذي ولد مبتسرا من الشهر السابع ليموت بعد 12 يوما من ولادته. فيما سقط الأخير من الشهر السادس”.
تحت ضغوط حماتها تزوج زوجها لكنه عاد إليها مجددا.
تختتم “نسرين”: “كنت هاعمل عملية زرع كلى بعد موافقة والدتي على التبرع لي. لكن تراجعت نظرا لارتفاع الأجسام المضادة نتيجة نقلي المتكرر للدم. وبعد وفاة والدي ونظرا لخوف والدتي من الأدوية خشيت عليها من العملية وسحبت ملفي من مركز غنيم بعد 3 سنوات متابعة”.
أعراض إصابة الفشل الكلوي
الدكتورة أسماء حيدر -استشاري باطنة وكلى- تقول لـ”مصر 360″: “أعراض الإصابة بالفشل الكلوي هي انخفاض كمية البول أو انقطاعه. غثيان وقيء وضعف شهية. إحساس بالضعف وصعوبة في النوم. شد عضلي. تورم الكاحلين والأرجل والحكة”.
وأكدت أن الإصابة بالفشل الكلوي في الإناث قد ترتبط بأمراض المناعة وحدوث نزيف بعد الولادة. ما يؤدي إلى الجفاف الشديد والإهمال في ضبط مستوى السكر بالدم.
وعن مدى تأثير جلسات الغسيل الكلوي على الحوامل تقول “حيدر”: “يحتاج الحمل إلى إجراء جلسة غسيل كلوي يوميا لإزالة السموم من الجسم. والمعتاد أن جلسات الغسيل ثلاث مرات أسبوعيا.
أما عن علاقة الحقن التفجيرية أو الاكتئاب بالإصابة بالفشل الكلوي فتقول إن هذا الارتباط يحدث حال أدى ذلك لارتفاع شديد بضغط الدم أو الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني .
الدعم النفسي
تؤكد “حيدر” أهمية الاستعانة بفريق دعم نفسي لمساعدة مرضى الفشل الكلوي. مشيرة إلى وجود محاولات علمية لزرع جهاز غسيل كلوي صغير داخل جسم المريض. ولكن لا تزال تلك المحاولات في طور التجربة.
كما ترى أن عمليات زرع الكلى لا تزال بديلاً لمن يعانون الضغط المنخفض أو يحتاجون إلى إجراء عمليات وصلات شريانية. حيث يتطلب الزرع وجود متبرع من أقارب الدرجة الأولى والتوافق في التحاليل والأنسجة. لذا لا يزال الغسيل الدموي هو الاختيار الشائع والأمثل لمعظم المرضى.
وتقول الدكتورة هبة عيسوي -أستاذة الطب النفسي بكلية الطب جامعة عين شمس والمختصة المعتمدة لعلاج اضطرابات الغذاء النفسية لـ”مصر 360″. بعض الحالات يحدث لها تأقلم وتكيف مع مرضها. فهناك من يتقبل وضعه ويتكيف مع حياته ويحاول يعيشها بشكل طبيعي. يشتغل ويمارس أنشطة خيرية. وآخرون لا يستطيعون التكيف وهم الأكثر تأثرا من الناحية النفسية. هؤلاء يصابون باكتئاب وقلق واضطرابات تتسبب في أوجاع”.
الاحتضان الأسري يسهل التعامل مع الصدمات
وتعتبر الشبكة الاجتماعية من أفراد أسرة المريض أحد أهم الأسباب لتجاوز أزمة الإصابة. فضلا عن دور المكتمع المدني المتمثل في جمعيات مثل جمعية مرضى الفشل الكلوي بمدينة عزبة البرج في دمياط.
ويلقي عبده القشاوي -رئيس الجمعية- الضوء على جهودهم مع مرضى الكلى. فيقول: “نوفر لهم وسائل انتقال من منازلهم للمستشفيات ذهاباً وإيابا. مع صرف مبالغ مالية وأدوية وإجراء التحاليل الخارجية أيضاً على نفقة الجمعية. مع إقامة رحلات ترفيهية لهم وإفطار جماعي للمرضى وأسرهم. فضلا عن رحلات عمرة للمرضى بمعدل من ٣ لـ٥ سنوياً مع إجراء جلسات الغسيل الكلوي لهم بالمملكة العربية السعودية.
ويضيف أن الجمعية تتحمل تكلفة مستلزمات عمليات “الوصلة الوريدية الشريانية”. والتي تجرى للمريض بالمستشفيات الحكومية على نفقة الدولة. كما نقوم بتوزيع العصائر المناسبة لهم أثناء إجراء الجلسات وتزويد كل عنبر بشاشة تليفزيون كبيرة للترفيه عنهم.
الجمعية أنشئت منذ عام 1992 وتقدم خدماتها لـ92 مريضا مسجلين لديها. جميعهم من أبناء محافظة دمياط. فضلا عن تحملها تكلفة إجراء جلسات الغسيل الكلوي للمغتربين من أبناء الدول الأخرى كـ”سوريا واليمن” بما يتراوح من 3 لـ10 جلسات.
وبحسب آخر إحصائية صادرة عن الجمعية المصرية لأمراض وزراعة الكُلى في 2018. فإن أعداد مرضى الفشل الكلوي تبلغ نحو 60 ألف مريض. بينما ترى وزارة الصحة أن الرقم يقع بين 90 ألفا و115 ألفا.
وكشفت الجمعية أن 25% منهم يموتون سنويا في حين لا تتجاوز النسبة العالمية للوفاة بهذا المرض من 7 إلى 10%.
وفي يناير 2020 أعلنت وزيرة الصحة أن هناك 60 ألف مريض يغسل كلى على نفقة الدولة. و 45 ألف مريض بهيئة التأمين الصحي. ويجري المريض نحو 13 جلسة شهريا بمعدل 3 أسبوعيا. مشيرة إلى أن تكلفة الجلسة لا تقل عن 500 جنيه تتحمل الدولة منها 325 جنيها.
من جانبها تحاول الدولة مكافحة كل أشكال استغلال الجسد البشري. ومعاناة الغير.
لذا أعلنت وزارة الداخلية في نوفمبر الماضي ضبط تشكيل عصابي تخصص في إجراء عمليات الاتجار بالأعضاء البشرية ونقلها بالطرق غير المشروعة. حيث يستقطب أعضاء العصابة الراغبين في شراء أعضاء عبر إعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي لإقناعهم بنقل إحدى الكليتين لبعض المرضى الذين يعانون الفشل الكلوي. وذلك مقابل مبلغ مالي يتراوح بين 20 و30 ألف جنيه للمتبرع.