في الآونة الأخيرة انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام مقاطع فيديو لفتاة تدعى “قمر”. اشتهرت “قمر” ببيع منتجات تجميل بأسعار شديدة الرخص وتدعي أنها أصلية.
دار الجدال على مواقع التواصل الاجتماعي بشأنها. بين من يتهمها بأنها تضر بصحة المستخدمين لمنتجاتها. وبين مؤيديها الذين يرون بأن لا ضرر فيما تفعله. ولكن يبقى السؤال: “كيف استطاعت الحصول على كل هذه الشهرة في فترة قصيرة وجذب هذا العدد الهائل من الزبائن؟”.
“قمر” والمساومة البطريركية
ظهرت “قمر” وهي ترتدي عباءة سوداء. وتظهر جزءا من شعرها الأشقر المصبوغ. ويغطي وجهها طبقة كثيفة من مواد التجميل. على الأرجح مظهرها كان جاذبا لزبائنها من النساء من الطبقات الأفقر. حيث إنها تظهر معايير الجمال السائدة بين زبائنها. لكن “قمر” اعتمدت على أكثر من مظهرها لجذب زبائنها وبيع منتجاتها.
يمكن فهم استراتيجيات التسويق التي اعتمدها “قمر” عبر مفهوم المساومة البطريركية. مفهوم المساومة البطريركية من ابتكار الباحثة دينيز كانديوتي. ومصطلح المساومة البطريركية يشير إلى أسلوب تنتهجه النساء في المجتمعات الأبوية للحصول على مكاسب دون تشكيل تهديد للنظام البطريركي. فتعتمد هذه الاستراتيجية على الامتثال للنظم المعادية للمرأة وقبول الأدوار النمطية للمرأة للحصول على مكاسب.
هذه الاستراتيجية تستخدمها النساء في المجتمع المصري للحصول على بعض الفوائد. و”قمر” بالطبع تدرك هذا الذي كان من أسباب انتشارها.
تقول “قمر” في أحد اللقاءات: “خلي النسوان تتدلع لجوازاتها وظبطي نفسك. دلعي نفسك. تبقي نزيهة جدا. عشان يديكي تجيبي اللي إنتي عايزاه. مش هتبقي نزيهة وهتفكري في نفسك هيبص عليكي واحدة واتنين وثلاثة وأربعة”.
بهذه الجمل استطاعت “قمر” جذب العديد النساء لشراء منتجاتها.
تدرك “قمر” جيدا كيف تحصل النساء في مصر على بعض المكاسب من خلال قبول وضعهن كمعتمدات اقتصاديا على الزوج. في ظل غياب الفرص أمام النساء لتحقيق الاستقلال المالي. فيلجأن إلى قبول الصورة النمطية للنساء كأشياء أو سلع لأخذ بعض حقوقهن من الزوج عبر استغلال مظهرهن الخارجي والدخول في منافسة مع الأخريات على اهتمام وأموال الرجل.
تحذر “قمر” النساء في خطابها بأنه إذا لم يشترين منها فلن يحصلن على تلك الأموال من الزوج. وبالطبع في ظل فقر هؤلاء النساء ومع الظروف الاقتصادية الصعبة قد يصبح هذا تهديدا حقيقيا على حياتهن ومعيشتهن.
قد تبدو مواد التجميل للوهلة الأولى كرفاهية. لكنها في واقع الأمر تحمل معاني اجتماعية كثيرة.
“قمر” في المدينة النيوليبرالية واللا حركة
ظاهرة “قمر” هي أيضا جزء من سياق أكبر مرتبط بالباعة الذين يبيعون منتجاتهم على الأرصفة والشوارع. وقد وصف عالم الاجتماع “آصف بيات” هؤلاء الباعة بـ”اللا حركات الاجتماعية”.
واللا حركات الاجتماعية ليست حركات منظمة أو ذات أيديولوجية موحدة. بل هي مجموعة من الممارسات غير المنظمة التي يمارسها عدد كبير من فقراء الشرق الأوسط للبقاء وتحسين أوضاعهم. وذلك عن طريق استخدام طرق غير رسمية.
ومن أشهر نماذج اللا حركات الاجتماعية في مصر العشوائيات وباعة الأرصفة والشوارع. واعتبر “بيات” أن صعود المدينة النيوليبرالية والمجتمعات المسيّجة في الشرق الأوسط أدى إلى إقصاء عدد كبير من الفقراء. ما نتج عنه استخدام هؤلاء الفقراء مساحات المدينة مثل الأرصفة والشوارع -بشكل غير رسمي- للبقاء ولمحاولة تحسين حياتهم.
وانتشرت تلك الظواهر الاجتماعية في مصر منذ عقود طويلة نتيجة سياسات الرئيس الأسبق حسني مبارك الاقتصادية والاجتماعية التي همّشت الفقراء.
تجسّد “قمر” جزءا آخر من تلك الظواهر والشبكات الاجتماعية التي استمرت لعقود.
خلفية “قمر” ليست معلومة ولكنها على الأرجح فتاة فقيرة عادية تحاول البقاء وكسب الأموال. فهي مثلها مثل باقي الباعة في الشوارع وعلى الأرصفة تحاول تحسين ظروفها. ولكنها ليست مجرد ضحية لظروف اجتماعية فقط. فـ”قمر” ماهرة في التسويق لمنتجاتها من خلال استغلال احتياجات النساء. كما أنها تبيع منتجات قد يكون لها العديد من الأضرار الصحية الخطيرة على مستهلكيها. وقد يكون لها أخطار أبعد من هذا.
“قمر” وأيديولوجيا البضائع المقلدة
يقول عالم الاجتماع كريس روجيك إن ديناميات تجارة واستهلاك البضائع المقلدة ليست بعيدة عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي. فتجارة واستهلاك البضائع المقلدة في الأسواق السوداء تعبر عن شكل طفيلي للاستهلاك يعكس المنطق الاقتصادي الرأسمالي التقليدي. وآلياته تشبه آليات الاقتصاد الرأسمالي بشكل كبير.
“قمر” في جذبها للزبائن تعتمد بشكل كبير على استغلال الرغبات الاستهلاكية للنساء اللائي يبحثن عن “البراند”.
تؤكد “قمر” مرارا بأن “مفيش أسعار. كله براندات”.
تستغل الهوس بالبراندات والاستهلاك وتوهم زبائنها بأنهن يحصلن على “البراندات” الأصلية دون دفع أسعارها الباهظة.
وهم “رائد الأعمال”
كما أن “قمر” تمثل النسخة الطفيلية من نموذج “رائد الأعمال” الذي تدعو إليه الأيديولوجيا النيوليبرالية. إذ تسيطر أوهام النيوليبرالية بأن الجميع بإمكانه النجاح وتحقيق الأموال الطائلة على قطاعات كبيرة من الناس.
وتروج النيوليبرالية لهذا من خلال نموذج “رائد الأعمال”.
تشكل “قمر” الانعكاس غير الرسمي والطفيلي من تلك الأيديولوجيا. ففي نظر كثير من النساء المهمّشات هي رائدة أعمال. فليس من الغريب أن يدافع عنها عدد من النساء. فعند ملاحظة قسم التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي للمنشورات المهاجمة لقمر. تظهر مجموعة من النساء يدافعن عنها بدعوى “سيبوها تسترزق”. فربما ترى تلك النساء -اللائي على الأرجح مستهلكات لمنتجاتها- في “قمر” قدوة وكفتاة مثلهم استطاعت جني الأموال وتحقيق نوع من الاستقلال الاقتصادي.
دار الجدل في مواقع التواصل الاجتماعي حول طبيعة منتجاتها. فالبعض رأى أنها منتجات مقلدة ومعبأة بطرق غير شرعية. بينما البعض الآخر تكهن بأنها قد تكون منتجات منتهية الصلاحية وغير صالحة للاستهلاك قادمة من الخارج. حتى الآن من الصعب التكهن بما هو أصل تلك المنتجات.
الأكيد أن تلك المنتجات ضارة وغير صالحة للاستخدام الآدمي.
وبشكل عام المخاطر المرتبطة بالبضائع المقلدة ليست صحية فقط. تنتشر البضائع المقلدة بمختلف أشكالها في مصر. ولكن الأغلبية العظمى من المصريين لا يدركون مدى خطورتها. ترتبط تجارة البضائع المقلدة في العالم بتمويل العمليات الإجرامية الدولية مثل الإرهاب والاتجار بالبشر والمافيا. كما أن العديد من تلك البضائع يتم صنعها في مصانع بدول نامية حيث يتم استغلال العمال والأطفال في تلك المصانع ومعاملاتهم معاملة شديدة القسوة.
مصدر منتجات “قمر” ليس معلوما بعد. ولكن بشكل عام فالتجارة في المواد المقلدة هي تجارة عالمية شديدة الخطورة. لا يجب الاستهانة بها. ولكن لا يزال الكثير من المصريين من الطبقات الفقيرة يعتمدون على البضائع المقلدة. في ظل عدم قدرتهم على شراء البضائع الأصلية.
ضحية أم نصابة؟
يتبقى في النهاية سؤال: “هل قمر ضحية لظروف اجتماعية أم نصابة تستغل حاجة ورغبات النساء؟”. ليست هناك إجابة قاطعة على هذا السؤال ولكن على الأرجح أنها هذا وذاك في الوقت نفسه.
هي ليست ظاهرة فردية. فعقب ظهورها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ظهرت أيضا مجموعة فتيات يفعلن ما تفعل “قمر”. يبعن أيضا منتجات مقلدة بسعر زهيد. يشير هذا إلى أنه يتوجب معالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجت كل “قمر”. وإلا ستستمر أقمار أخرى بالظهور وإن تم خسوف “قمر” الآن.