بالمعايير المكيافيللية للسياسة فإن محمد علي باشا الكبير 1769 – 1849م هو من عظماء السياسة وأكابرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحالف مع الجميع ضد الجميع، لعب بالشيء ونقيضه، مع الشعب وضد الشعب، مع المماليك وضد المماليك، مع العثمانيين وضد العثمانيين، مع الأوروبيين وضد الأوروبيين، مع الحداثة وضد الحداثة، يشبه نفسه بالإسكندر الأكبر، ويلقب نفسه نابليون الشرق، ويقول أنه يشارك الإسكندر في مسقط رأسه، ويشارك بونابرت في عام ميلاده، يقول لولا فرنسا ما كان بنى مجده ثم يعود ليقول لولا نصائحها المضللة ما كان انتهى مهزوما في خاتمة عمره، حارب العثمانيين وكادت قواته تدخل عاصمتهم ثم يذهب ليلقي نفسه تحت قدمي السلطان يطلب العفو والسماح والقرب والمغفرة لولا أن رفعه السلطان وأكرمه وأجلسه إلى جواره في احترام وتوقير.
بنى في مصر دولته الخصوصية في عشرين عاما من 1805 – 1825، ثم شاد إمبراطورية مترامية الأطراف من 1825- 1840، ثم مثل كل مغامر شديد الذكاء وشديد الطموح وعالي الهمة -لكن بدون مبادئ- فقد إمبراطوريته، ثم فقد دولته، وتمت قصقصة أظافره وتخليع أنيابه وإحالته إلى التقاعد مع مكافأة نهاية خدمة تتمثل في منحه وذريته من بعده مصر كضيعة خصوصية يتوراثونها فيما بينهم، كضيعة وليس كإمبراطورية فقد تم إكراهه على الانسحاب من الشام والأناضول والعراق والحجاز واليمن، وكضيعة وليس كدولة إذ تم تدمير آلته العسكرية -أساس دولته- بتقليصها في حدود ثمانية عشر ألف جندي، وترتب على ذلك تقويض كل ما بناه من دعائم الدولة الحديثة، تم تقويضها في حياته، ولم يتبق منها غير مشروعات الري وما أدخله من تحديث في منظومة الزراعة.
مات محمد علي باشا الكبير في الثاني من أغسطس 1849، ولم يترك في مصر دولة حديثة ولا غير حديثة، ترك فقط ضيعة للتوريث في ذريته، كما ترك قصة واحدة من أعظم مغامرات التاريخ الحديث، طال حكمه حتى صعد ذروة المجد، ثم طال عمره حتى انحدر إلى قاعه، مجرد شيخ طاعن في السن انتهت مغامراته إلى سراب، ولم يبق له من شواغل غير شكوكه ثم صراعات شيخوخته مع نجله الأكبر وقائد جيوشه ومفتاح انتصاراته إبراهيم باشا 1789 – 1848، ويموت النجل قبل الأب بعدة أشهر، يموت النجل المقاتل بصدر ينزف الدم، ويموت الأب المغامر بعقل يصرعه الخرف.
ثم تنتقل الضيعة منزوعة السلاح ومدمرة المؤسسات ومتهدمة المشاريع إلى أكبر الأحفاد عباس حلمي الأول 1813- 1854 وهو الوريث الذي تكفل بإطفاء نور كل ما بقي من حداثة جده.
النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث محمد علي باشا ونجله الأكبر ابراهيم باشا شيء، والنصف الثاني من القرن ذاته شيء مختلف تماما، في النصف الأول من القرن التاسع عشر تكونت دولة قوية في الداخل ثم توسعت الدولة القوية إلى إمبراطورية واسعة في الخارج، لكن في النصف الثاني تقلص كل ذلك إلى مجرد ضيعة وراثية منزوعة السلاح ثم تحولت الضيعة إلى مجال مفتوح وفاقد للمناعة الذاتية ومستباح من الجاليات والنفوذ والمصالح الأوروبية المتنافسة والمتصارعة في عهود عباس وسعيد وإسماعيل، ثم تحولت الضيعة الوراثية منزوعة السلاح إلى مستعمرة بريطانية من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
*********
حداثة محمد علي باشا، مثلها مثل دولته الحديثة، لم تكن أكثر من مملوكية – عثمانية قديمة لكنها مطعمة ومزودة ومطورة بما اقتبسه من أوروبا من نظم حديثة بالذات في العسكرية ولوازمها من تعليم وصناعة وطب وإدارة.
ثم إن هذه المملوكية – العثمانية المزودة باقتباسات أوروبية لم يكن للشعب فيها مكان، لم ينتفع منها الشعب، ولم يطرأ أي تحسن على حياته ومعيشته، بل حدث العكس، تم تسخير الشعب لما يقرب من نصف قرن في تمويل طموحات الباشا، تسخير لا صلة تربطه بأي حداثة من أي نوع، إلا أن يكون استعبادا حديثا في أوضح وأجلى صور الاستعباد.
حداثة محمد علي باشا قامت على استئصال فكرة الشعب الحديث من جذورها، الشعب بما هو فاعل سياسي، الشعب بما هو صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الحاكم، الشعب بما هو صاحب الحق في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم ونقدهم ومساءلتهم بل ومحاكمتهم وعزلهم عندما تقتضي المصلحة العامة محاكمتهم ثم عزلهم، في العامين 1803 و1804 وقبل تولية محمد علي باشا في 1805، كان هذا المفهوم الحديث للشعب قد بدأ يتبلور في عاصمة البلاد وكثير من مناطقها الحضرية، كانت روح ثورية حديثة تسري في الوعي الحضاري للمصريين، في أعقاب سنوات قليلة من ثورة الفرنسيين ، ثم في العقب المباشر لفشل غزوهم واحتلالهم لمصر 1801، وذلك كله بعد أكثر من نصف قرن عاصف -النصف الثاني من القرن الثامن عشر- حيث شهدت مصر تجربة استقلال حقيقية عن الدولة العثمانية على يد علي بك الكبير، ثم شهدت صراعات روسيا وفرنسا وبريطانيا على استقطاب الفرق المتصارعة على الحكم من المماليك.
هذه الروح الثورية المصرية بين رحيل الفرنسيين وتولية محمد علي باشا 1805، جسدت الولادة الأولى لمفهوم الشعب بالمعنى الحديث النقيض التاريخي لمعنى الرعية بالمفهوم المملوكي – العثماني القديم، هذا الشعب الحديث هو من وقف في وجه الفرنسيين، ثم بعد رحيلهم ثار ثورتين معا، ثورة ضد المماليك، وثورة ضد العثمانيين، هاتان الثورتان أثبتت كل منهما وجسدت الحضور التاريخي الحديث للشعب المصري كصاحب الحق في عزل وتولية الحكام، دون استسلام للأمر الواقع ممثلا في المماليك، ودون استسلام لشرعية فقدت شرفها الأخلاقي ممثلة في حق السلطان العثماني المطلق في تعيين وعزل الولاة، هذا الحراك الثوري المبكر هو الذي جاء بمحمد علي باشا إلى الحكم، وهو الذي وضع القاعدة الدستورية: “أن يحكم بالعدل وإلا عزله المصريون”.
كمكيافيللي عتيد، كان محمد علي باشا هو المستفيد الأول من ثورة المصريين على المماليك (البرديسي) ثم من ثورتهم على العثمانيين (خورشيد)، لكنه أيضا كمكيافيللي ماكر خبيث لئيم كان يعلم -بالغريزة- أن مثل هذا الشعب لا أمان له، فيمكنه في وقت لاحق الثورة عليه وخلعه مثلما ثار على من سبقوه وخلعهم، لهذا رفض -بعد توليته- أن تتم مصادرة أموال خورشيد المنهوبة من الشعب، ثم اجتهد -طوال حكمه- في دفع روح الثورة للانطفاء ثم دفع مفهوم الشعب الحديث للارتداد والانتكاس ثم العودة إلى مفهوم الرعية المملوكي – العثماني ثم ابتكر ما هو أسوأ، ابتكر علاقة الاقطاعي الوحيد بشعب من العبيد المسخرين لخدمته دون مقابل، لقد جعل الباشا من نفسه الإقطاعي الوحيد وجعل من الشعب أدوات مسخرة في خدمته دون أدنى حق لهم ودون أدنى واجب عليه.
*********
جاء محمد علي باشا للحكم بإرادة الشعب، ثم استعبد الشعب، ثم استحق تجاهل الشعب، حدث هذا عند وفاته في الثاني من أغسطس 1849، مثلما سبق أن حدث قبل ذلك بعدة أشهر في 25 نوفمبر 1848 في وفاة ذراعه اليمنى وقائد جيوشه ونجله الأكبر إبراهيم باشا.
1 – في صفحة 106 وما بعدها يحكي نوبار باشا في مذكراته -دار الشروق- لحظة احتضار ثم موت ثم جنازة إبراهيم باشا، وقد كان حاضرا وشاهدا عن قرب، يقول: ” كنت أظن أن كبار رجال الدولة سوف يهرعون ويتسابقون من أجل المجيء للعزاء، لكن يبدو أني أخطأت التقدير، فلم يهرع أحد، ولم يتسابق أحد، بل لم ينزعج أحد، وتساءلت ما الضرورة حتى يزعجوا أنفسهم ويقطعوا نومهم والدنيا ليل؟ إن من كان يرهبهم مات ولم يعد له وجود!”.
ويقول: “في السابعة صباحا اكتظ القصر بكثير من الناس، لكن علامات الرضا تكسو الوجوه!، لم أبك، كان احمرار عيني من السهر والإنهاك وليس من الدموع والبكاء، كانت السعادة تكسو الوجوه، وقد أثارت هذه السعادة في داخلي أحاسيس غريبة لا وصف لها”.
ويقول: “كان كبار رجال الدولة يدخنون الغليون، ويركبون خيولهم منصرفين من الجنازة قبل أن تصل المقابر، كانوا ينصرفون في العلن دون محاولة للخفاء، وقبل أن تصل الجنازة جامع السلطان حسن كان الباقون قد انصرفوا، ولم يصل مع النعش إلى مقابر الأسرة إلا صنفان: الفلاحون الذين يحملون النعش، والنساء النادبات”.
ويختم نوبار بالقول: “كان مشهدا قاتما وحزينا تغلفه الوقاحة والانحطاط، لأن هذه كانت نهاية الرجل الذي أضاء اسمه الشرق وهز عرش السلطان محمود ولم ينقذ السلطان العثماني سوى تحالف القوى الأوروبية العظمى ضد إبراهيم باشا وأوقفت زحفه صوب عاصمة العثمانيين”.
2 – في كتابه “مصر في القرن التاسع عشر” -المركز القومي للترجمة- يصف “دونالد أندرياس كاميرون” نهاية محمد علي باشا، في ص 180، يقول: “ويتوفى محمد علي باشا وحيدا في قصر شبرا الكئيب، الذي لا يزال ظله يخيم عليه، مات بعد أن نسيه الجميع وهو على قيد الحياة، نسيه قناصل الدول الأوروبية، ونسيه الشعب المصري.
لكن نوبار باشا له رواية مختلفة، يقول في ص 110 من مذكراته، إن “محمد علي باشا تحول -بخرف الشيخوخة- إلى مجذوب يطوف شوارع القاهرة في حراسة مماليكه، تطارده لعنة الإحساس بأنه محبوس، حبسه نجله الأكبر حتى مات، ويخشى أن يحبسه حفيده عباس، يقول للحفيد: لعنت إبراهيم لأنه حبسني فلا تحبسني مثله، فيرد عليه الحفيد بتقبيل يده ويعطف عليه ويطمئنه ويقول له أنت سيدنا وسوف تظل كذلك”.
لم يحضر نوبار الجنازة، لكنه ينقل عمن حضرها وحكى له أن: “مشاعر الحزن عليه كانت عميقة، ومن القلب، حيث اصطحب سكان القاهرة جميعا موكبه الجنائزي المهيب إلى مسجده، الذي شيده في القلعة، وحدد مكان قبره بنفسه”.
رواية نوبار أقرب للمنطق من رواية دونالد أندرياس كاميرون، شخصية إبراهيم ارتبطت بالقسوة رغم أنه كانت له ميول مصرية وعربية لم تكن عند أبيه، وفي مقابل ذلك كان عند محمد علي باشا من الحيطة والمرونة والمكر والدهاء ما يقلل من كراهية الناس له رغم ظلمه وجبروته.
*********
عاش محمد علي باشا طوال فترة حكمه مناضلا ضد الشعب المصري بمفهومه الحديث الذي كان تجلى أول مرة عند مطلع القرن الثامن عشر وكان من ثمرته عزل حاكم لا يرضاه الشعب ثم تولية محمد علي باشا ذاته وفق شروط الشعب، لقد أسس محمد علي باشا الدولة الحديثة كدولة مناضلة ضد الشعب، الدولة ذاتها تقوضت وانهارت ووقعت بين مخالب الاستعمار، لكن وظيفتها النضالية ضد الشعب بقيت تنتقل جيناتها الوراثية من مطلع القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا في 2022، دولة غير مطمئنة لفكرة الشعب، تقلق منه، وتتوجس فيه، ولا تبادله الثقة ولا الطمأنينة ولا الأمان.
هذه العلاقة بين الدولة الحديثة والشعب، أعاقت نمو الدولة، مثلما أعاقت نمو الشعب، فلم تنجز الدولة حداثتها، ولم يتحرر الشعب من طوق الرعية المملوكية – العثمانية حتى اليوم، فالحكم خليط من تراث المملوكية والخديوية، والشعب محل للسيطرة ومجال للتحكم والضبط، ومازالت فكرة الحرية بالمعايير الحديثة مجرد نصوص في الدساتير والوثائق من ثورات المصريين في وجه المماليك والعثمانيين عند مطلع القرن التاسع عشر حتى ثورتهم المجيدة عند مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
*********
مملوكية الدولة الحديثة، ونضاليتها ضد الشعب..
هذا وذاك موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.