بعد شهر أو أكثر قليلاً من الآن تبدأ إثيوبيا الملء الثالث لسد النهضة.
مع بداية يوليو/تموز المقبل نغدو قاب قوسين أو أدنى من إسدال الستار على قصة أكبر تهديد وجودي شهدته مصر طوال تاريخها الحديث، في يوليو حيث يبدأ موسم الأمطار، تسعى إثيوبيا إلى الملء الثالث للسد لتصل المياه المخزنة إلى 18مليار متر مكعب.
المعلومات المتواترة تشير إلى أن السد يحتوي حتى الآن على نحو 7 مليارات متر مكعب، وأن إثيوبيا تخطط لملء أكثر من 10مليارات متر مكعب خلال أشهر الصيف؛ لينتهي بذلك الملء الثالث وتنتهي معه أي فرصة لتدخلات عسكرية ضد السد الذي سيصبح مع اكتمال الملء الثالث في يوليو قنبلة موقوتة تهدد السودان بالغرق في حال تعرضه لأي هجوم عسكري.
هي أصعب الأزمات التي واجهت مصر على الإطلاق.
كل نظريات الأمن القومي لهذا البلد كانت يتصدر بنودها الأولى رفض إقامة سدود على النيل تؤثر على مصر وحصتها التاريخية.
حتى اللحظة الحالية لا جديد على صعيد الدبلوماسية والدعوات المتواترة للحوار، وليست هناك مؤشرات حول إمكانية الوصول لاتفاق قانوني ملزم تطلبه مصر منذ سنوات، صحيح أن هناك جهوداً قامت بها بعض الدول العربية كالإمارات والجزائر خلال الأشهر الماضية في محاولة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين والوصول لاتفاق قانوني إلا أنها لم تحرز، حتى اللحظة، تقدماً يذكر أو إطاراً قانونياً أو سياسياً لحل الأزمة.
القراءة الكاشفة لعمق الأزمة يمكن رؤيتها ببساطة في رفض إثيوبيا “المبدئي” لمبدأ الحق التاريخي لمصر، وعدم اعترافها بكل الاتفاقيات الملزمة والتاريخية التي تنظم وتوزع الحصص المائية، وتمنح مصر نحو ٥٥ مليار متر مكعب من المياه.
برفض إثيوبيا لكل الاتفاقيات التاريخية وبإصرارها غير الطبيعي على إقامة السد بدون اتفاق قانوني نستطيع أن نفهم ما هو الهدف الرئيسي من إنشاء السد وما هي القصة التي وراءه: محاولات لخلق تغييرات جغرافية وسياسية على طول مساحة دول حوض النيل، وحصار مصر من الجنوب بقنبلة موقوتة لا مثيل لها في تاريخنا كله.
الدبلوماسية المصرية استخدمت كل أوراق الضغط والتفاوض، بداية من التفاوض المباشر بين مصر وإثيوبيا والسودان ومروراً بالذهاب إلى مجلس الأمن وطرح الموضوع وتفاصيله بين أعضائه، وانتهاء بإشراك أطراف عربية ودولية كوسيط سياسي، كل تلك الجهود لم تسفر عن حل جذري لأزمة وجودية تهدد هذا البلد بأضرار جسيمة، تعنت إثيوبي ورفض كامل لأي تفاهم دبلوماسي وأي التزام قانوني.
بحسابات دقيقة تبدو مصر أكثر المتضررين من سد النهضة باعتبارها دولة المصب، وباعتبار أن أي تهديد للنيل الأزرق سينعكس بالتبعية على مصر.
الضرر المصري سيغدو هو الأكبر على الإطلاق، وسيفوق كل الأضرار التي يمكن أن تلحق بالسودان بحساب أن الأخيرة هي دولة معبر ولن يطالها نفس التأثير الذي سيصل لمصر عاجلاً أو آجلاً بعد أن تقل المياه في بحيرة ناصر وتتأثر الزراعة بشكل خطير.
معظم المتخصصين أجمعوا ليس فقط على خطورة هذا السد وأضراره الفادحة على مصر، بل أكدوا أنه لا نية لدى إثيوبيا للوصول لاتفاق، ولا يمكن لمصر أن تسمح بمرور الكارثة على هذا الوضع الذي يهددها بشكل مباشر، وأن هناك بدائل سياسية، أو غيرها، إذا أردنا التعامل مع الأزمة بما يناسب تهديدها الوجودي.
فبحسب الدكتور محمد نصر علام وزير الموارد المائية والري الأسبق فإنه “لا جديد ولا أمل فى موقف إثيوبي معتدل” وليس هناك إمكانية في” الوصول لحل سلمي أو تنفيذ ماجاء فى إعلان المبادئ من ضرورة التوصل لاتفاق حول قواعد ملء وتشغيل السد وبما لايسبب أضراراً جسيمة لدولتي المصب”.
كلام يضيف قلقاً جديداً لا سيما أن علام هو أحد الخبراء في مجال الري والموارد المائية وقد كان مطلعاً على أدق التفاصيل منذ أن كان وزيراً يتابع نفس الملف المزعج، وهو حديث يجب أن يضعه المسئولون في مصر في الحسبان وهو صادر من مسئول له خبرة كبيرة مثل علام الذي يضيف: “أكثر الدول تضرراً من هذا السد هى مصر، لأنها هى آخر مسار النيل الأزرق، وتأخذ السودان حصتها كاملة أثناء المرور ومايبقى يصل لمصر، وبالتالى ستكون مصر هى المتأثرة مباشرة بأطماع أثيوبيا فى النهر”
ويواصل:” الأطماع الأثيوبية ليست أحلام أبي أحمد ومن حوله، أو زيناوي ومن قبله، بل هى أحلام قديمة جداً طمعاً ومعاداة لمصر، وقد ساندها الغرب على مدى عدة قرون ماضية وما زال، بل ويساعدها فى ذلك حاليا” ويكمل: “هذه الأزمة ليست أزمة قيادة إثيوبية، بل هي أزمة عقيدة واستراتيجية إثيوبية راسخة، ونفذتها حرفياً قبل ذلك مع كينيا والصومال وجيبوتى وجنوب السودان، والآن تحاول مع مصر والسودان” ويختتم علام رؤيته لحل الأزمة بالقول: “ضرب سد النهضة الخرسانى ليس هو الوسيلة الوحيدة لتدمير السد، فهناك بدائل عديدة ولها آثار متعددة وتحقق أهدافاً مختلفة، ولن تتأثر مصر سلباً بها منها تدمير السد الجانبي، ومنها تدمير محطات الكهرباء وأخرى كثيرة ومتعددة من الممكن اختيار أنسبها للظروف المسرح السياسي والعسكري، وللأسف فى رأيي فإن المشهد الدولى والإقليمي ليس ممهدًا الآن بشكل مناسب لتحرك استراتيجى، وذلك وسط المعارك الدائرة بين المشرق والمغرب، والتوازن الدولى الحالى المهتز والذى لن يتغير قبل عدة سنوات، وديون مصر المتزايدة والتى تقلل بشدة من مناورات الدولة على المستويين الإقليمي والدولي، ذلك بالإضافة لزيادة احتمال حدوث مفاجأت اقليمية ودولية قريبا”
هي الأزمة الأخطر على هذا البلد، ولذلك تحتاج إلى إجراءات وتحركات تليق بخطورتها وفداحة نتائجها، وبشكل سريع وبلا تردد، فليس هناك متسع من الوقت وشهر واحد فقط سيكون فارقاً في حاضر هذا البلد ومستقبله.