بعد الدعوة التي أطلقها الرئيس السيسي إبريل/نيسان الماضي للحوار حول “أولويات الأجندة الوطنية في المرحلة الحالية”، فإن التساؤل عن معيار النجاح فيه من أصعب الأسئلة جميعًا. ففيه تختلف الأفهام، وحوله تتباين أهداف المشاركين والممتنعين والممنوعين والمتشككين. كما أن تحديده يساهم في ضبط التوقعات، وبه تظهر موازين القوى بين الأطراف جميعا. فقوتك تدفع بمستهدفاتك قدما على طاولة الحوار. كما أن تحديد معيار النجاح يساهم في معالجة المزايدات التي عادة ما تحيط بأية عملية حوار.
يدعونا الحديث في معيار نجاح الحوار في مصر -الذي بالمناسبة يختلف الناس في برها العامر في تحديد طبيعته: هل هو حوار سياسي أم وطني، والفرق بين الاثنين ليس مماحكة لفظية. لكنه الغموض غير الخلاق الذي يزيد الخلاف استعارًا. نعود لسؤال المعيار الذي هو حديث في المستقبل -مستقبل المصريين جميعا، لذا فمعيار النجاح عندي -ولدى المختصين- والذي سأراقب من خلاله عملية الحوار تكمن في قدرتنا على بناء “الممانعة الذاتية” لإدارة صراعاتنا بطريقة سلمية لا تقصي أحدًا -أو على أقل تقدير بداية الطريق في هذا النهج، وهي عملية ليست سهلة. ولكنها ليست مستحيلة، ليست سهلة لأنها تتطلب ثقافة سياسية تشيع بين الناس وبين مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومدرسة ومؤسسات دينية، ونخب سياسية مؤمنة بذلك، وهياكل سياسية وتقاليد في الدولة والمجال السياسي بنيت على إدارة الصراع في المجتمع بطريقة سلمية لا تقصي أحدا.
إن دعوة الرئيس لحوار شامل هو بصراحة إعلان في الوقت نفسه أن النهج الذي سرنا فيه جميعا منذ يناير/كانون الثاني 2011 قد ثبت فشله. ويمكن أن تكون هذه الدعوة بداية طريق جديد لمعالجة الأزمات التي تمر بها البلاد، لكن في نفس الوقت فإن الإعلان وحده لا يكفي ليجعلنا نطمأن أن هناك نهجا جديدا يقوم على الحوار وعدم الإقصاء في “الجمهورية الجديدة”.
دعاني الحديث في معيار النجاح إلي مراجعة ثلاثة أمور: مؤشرات مصر على المقاييس الدولية بما يعكس عمق الأزمة التي أوصلنا إليها هذا النهج، نهج القمع/العنف والإقصاء/الاستقطاب، وتقويم لمسارات الانتقال السياسي بعد يناير، وأخيرا الطريقة التي أديرت بها البلاد في السنوات الثماني الماضية التي كانت قمة التجسيد لهذا النهج والذي تأسس على ما أطلقت عليه بعض الدراسات “عقيدة دولة الدولة” التي قامت على رؤية لعالم خالٍ من المصالح المتضاربة أو الحلول المتعددة للمشاكل الملحة، وأن الأسرار في السياسات العامة هو من عقيدة الدولة، وقد خصصت للنقطة الأخيرة مقال سابق نشر على هذا الموقع.
مؤشرات الفشل
في دراسة رائدة لأنتوني كوردسمان حملت عنوان: “الشرق الأوسط الكبير: من “الربيع العربي” إلى “محور الدول الفاشلة“، تتبع فيها بنظرة شاملة، وعبر مسار تاريخي امتد لعقد الربيع العربي مؤشرات فشل بلدان المنطقة (نشرت أغسطس ٢٠٢٠). ميزة هذا المقال المتميز أنه ينظر إلى ما وراء أزمة اليوم أو الشهر أو السنة، ويفحص التصنيفات والاتجاهات طويلة المدى في تقارير التنمية العربية للأمم المتحدة، وتقارير المادة الرابعة لصندوق النقد الدولي، وتصنيفات البنك الدولي “للحوكمة وسهولة ممارسة الأعمال التجارية”، والبيانات الديموغرافية، وتقارير عن الفساد من قبل منظمة الشفافية الدولية ومنظمات أخرى، بالإضافة إلى تدقيق استطلاعات الرأي العام، والبيانات المقارنة حول التقدم البشري من تقارير الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة العمل ووكالة المخابرات المركزية.
الخلاصة التي يقدمها لنا كوردسمان لحالة مصر هي: “انجرفت مصر بثبات نحو الاستبداد والقمع. هناك تقدم غير مؤكد في الإصلاح الاقتصادي ودور عسكري مفرط في السياسة والاقتصاد. الضغط السكاني مرتفع ويعتمد بشكل مفرط على المساعدات ودخل السياحة غير المؤكد.”
ويضيف: لقد تحسنت الحسابات المالية للبلاد، لكنها لا تزال تحت الضغط، ويرجع ذلك أساسًا إلى ضعف أداء الإيرادات الضريبية. انخفض عجز الميزانية إلى 8.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2019، من 9.7٪ قبل عام. بينما استمر الفائض الأولي في الزيادة في أوائل السنة المالية 2020، تشير البيانات الأولية إلى أن نسبة الإيرادات إلى الناتج المحلي الإجمالي قد انخفضت، لا سيما من ضريبة القيمة المضافة، مما يعكس ضعف الاستهلاك الخاص… وكان خلق الوظائف ضعيفًا إلى حد ما، لا يزال الأفراد من السكان في سن العمل منخفضين عند 39٪، وقد يتعرضون لمزيد من العوائق بسبب التأثير السلبي لوباء COVID-19 على الاقتصاد المصري، لا سيما من خلال تأثيره على الإنتاج المحلي والتجارة والسياحة والتحويلات المالية. ويشير إلى أنه على الرغم من سجل مصر المتباين في جذب الاستثمار الأجنبي على مدار العقدين الماضيين، إلا أن الظروف المعيشية السيئة ومحدودية فرص العمل ساهمت في استياء الرأي العام، كما أدى الضغط السكاني الحاد إلى زيادة عدد السكان إلى أكثر من 20 مليونًا وخلق مشاكل كبيرة في تمويل البرامج المدنية وخلق فرص العمل. كان هناك بعض التقدم في تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، ولكن لا تزال هناك مشاكل كثيرة في إنشاء وتشغيل الأعمال التجارية الخاصة. إثر Covid-19 أيضًا على دخل السياحة. ارتفع معدل الفقر -استنادًا إلى خط الفقر الوطني- من 27.8٪ في عام 2015 إلى 32.5٪ في السنة المالية 2017/2018. اتخذت مصر عددًا من تدابير شبكات الأمان الاجتماعي، بما في ذلك توسيع نطاق برنامج التحويلات النقدية الحالي، لكن التأثير غير مؤكد.
مصر في التصنيفات الدولية
كان ترتيب الأمم المتحدة للتنمية البشرية في عام 2019 منخفضًا: 116 من أصل 189. وقد وضع تصنيف البنك الدولي للحوكمة في عام 2018 مصر عند 30.8 وهو ترتيب منخفض أيضا. مصر لديها فساد متوسط إلى مرتفع حسب المعايير الإقليمية (المرتبة 106 من 198 دولة) ويصنف البنك الدولي مصر في مؤشر “ممارسة الأعمال” في المرتبة 114 فقط من بين 190 دولة.
وبناء على هذه المؤشرات جميعا -التي توقفت عند ٢٠١٩ ويمكن تتبع تدهورها في السنوات التالية، فإن كوردسمان يتوقع لمصر في السنوات الخمس التالية لـ٢٠٢٠ أن تكون في الفئة c من مؤشر من خمس درجات للدولة الفاشلة، وينتهي إلى خلاصة صادمة: “تظل مصر دولة فاشلة ما لم يتم تخفيف القمع، ويحدث إصلاح اقتصادي جاد بالفعل.”
هذه كانت مؤشراته وخلاصاته، ولو أضفنا إليها مؤشرات أخرى لازداد الوضع سوءا، فمصر الآن تحتل المركز 136 من أصل 139 دولة في مؤشر سيادة القانون لعام 2021، والمركز الثامن والأخير على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي تحتل مواقع متأخرة في معظم العوامل الفرعية التي يعتمد عليها المؤشر العام. فهي في المرتبة الأخيرة في العامل الذي يقيس إتاحة المعلومات والمشاركة في الحكم وإمكانية مساءلة الحكومة (139 من 139)، وفي المرتبة قبل الأخيرة (138 من 139) في العامل الذي يقيس وجود قيود أو كوابح على السلطة، وكذلك في العامل الذي يقيس الحقوق الأساسية، وفي المرتبة 130 من 139 في القدرة على انفاذ اللوائح والقوانين، وكذلك في العدالة المدنية، وفي المرتبة 113 من 139 في النظام والأمن، والمرتبة 109 من 139 في العدالة الجنائية، والمرتبة 104 من 139 في غياب الفساد. وليس هناك أسوأ من مصر سوى ثلاث دول هي: الكونغو الديمقراطية وكمبوديا وفنزويلا، وهناك دول ضعيفة وأنهكتها الحروب أو الأزمات الطاحنة لكنها تسبق مصر، مثل أفغانستان وهاييتي وميانمار وهندوراس وإثيوبيا والكاميرون وبنغلاديش.
عمليات الحوار في عقد
في دراسة رائدة لصديقنا عبد الفتاح ماضي -أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية والمختص بالانتقال الديموقراطي- قام فيها بتقييم شامل ومقارن لعمليات الحوار التي جرت في أربع دول في المنطقة بعد الربيع العربي (اليمن وليبيا ومصر وتونس)، انتهي فيها ماضي إلى عدد من النتائج التي تخص الحالة المصرية أبرزها:
-لم تظهر بمصر محاولات حوارية حقيقية تسهم في انقاذ البلاد، وأضيف أن الحوار باتت لفظة قبيحة لاستخدامها في إدارة الصراع وليس لحله.
-في ليبيا ومصر، كان التدخل الخارجي من العوامل المعرقلة للحوار.
-اتسمت المحاولات التي جرت في مصر بسيطرة الطرف الداعي للحوار (المجلس العسكري والرئيس المنتخب) على مجريات الأمور، وأضيف مع غياب جهات مستقلة تدعو له.
– شكلية الحوار بشكل عام.
– ساعدت خارطة الطريق على ترسيخ التنافس الحزبي خلال مرحلة البناء الديموقراطي، فمنذ استفتاء مارس 2011 على التعديلات الدستورية، دخلت البلاد في جدالات عقيمة حول قضايا ليست من صلب النظام السياسي البديل، فتعاظمت المشكلات والأزمات بدلا من الشروع في عملية حوار حقيقية حول جوهر الثورة المصرية وهو الانتقال من حكم الفرد إلى النظام الديمقراطي وتغيير نمط ممارسة السلطة وتمكين الشعب.
-تحويل الثورات العربية من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية إلى صراع بين الإسلاميين من جهة والليبراليين أو المدنيين من جهة أخرى.
-أخطأت القوى السياسية وفق كل مرحلة عندما صّعدت من مطالبها وذهبت إلى الحد الأقصى دون رؤية متكاملة أو استعداد حقيقي، ودون تقدير لكافة الآثار المحتملة.
-تصور أنه يمكن لمسار سياسي أن ينجح في إقصاء تيار بالكامل، وهذا لم يحدث من قبل في أي مكان. فلم يحدث، مثلا، أن قضى اليساريون على اليمينيين ولا اليمينيون على اليساريين في أي دولة في العالم. وكل ما يترتب على محاولات إقصاء الخصم هو الدخول في صراعات سياسية حادة أو حروب أهلية، وفي كل الحروب الأهلية لم يختف التيار الذي استهدف برغم تصور كل طرف أنه سيقضي على الآخر. (بالمناسبة لايزال حديث الإقصاء جاريا لدي البعض حتى الآن).
-عدم إدراك القوى الدولية والإقليمية الداعمة للأنظمة المتعاقبة بعد ٢٠١١ أن مصر والمنطقة كلها لن تستقر إلا بتغيير حقيقي يتعامل مع العوامل الهيكلية التي تنتجه.
– تسييس ما لا يجب تسييسه كالجيش والدين والقضاء والإعلام والجهاز الإداري، وغير ذلك.
تطول القائمة وتتعدد الدروس لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ويمكن لكاتب هذه السطور أن يحكي بالتفصيل عن محاولاته المتعددة للحوار بعد يناير مباشرة حول حوكمة المؤسسات السياسية في الفترات الانتقالية، وبناء آلية للإنذار المبكر في التوترات الطائفية، وقبيل ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لمنع إعادة إنتاج التسلطية مرة أخرى، وبعده مباشرة للمصالحة الوطنية ومنع الانزلاق للعنف، وقد استمرت محاولاته حتى أكتوبر ٢٠١٥ حين ألقي القبض عليه بتهمة الدعوة للحوار والحض عليه ولتتجنب مصر عواقب المصير الذي أوصلنا إليه النهج المضاد والذي قدمنا فيه كمصريين ولا نزال آلاف الضحايا، ناهيك عن أزمة الضمير الوطني والأخلاقي التي نعاني منها نتاج آلاف سجناء الرأي والغائبين والمهاجرين قسريا عن أهليهم وأوطانهم.
علمتني تجارب الحوار هذه أن خيارات الجميع -أقول الجميع وأنا مطمئن- كانت خاطئة.
أعود إلى ما بدأت به فأقول إن عملية بناء “المنعة الذاتية’ أو “المقاومة الذاتية” لإدارة الصراعات بطريقة سلمية لا تقصي أحدًا عملية طويلة ومستمرة، نقطة البداية فيه أمران: الأول، أن يعترف كل طرف -من غير مكابرة سياسية وعبر عملية نقد ذاتي- بأخطائه وكيف شارك عبر خياراته الخاطئة في الوصول إلى هذه النتيجة. الثاني: أن المستقبل لا يمكن أن يتأسس على شرعية الاتجاه الواحد والصوت الواحد.
أختم بما تنبأ به الفريق محمد العصار -رحمه الله- في الشهور التي تلت أغسطس/آب ٢٠١٣ مباشرة (لا أذكر التاريخ تحديدا) وقد كان لايزال عضوا بالمجلس العسكري حين قال لأحد القيادات الحزبية -والذي لايزال حيا ويمكن سؤاله: “يجب ألا نحتاج في مصر إلى عشرية كعشرية الجزائر السوداء حتي نعود للوئام المدني”، وقد صدق حدسه وإن اتخذ ذلك شكلا مختلفا عن الجزائر.
وكتبت وأنا في ضيق السجن أن: “مصر يجب أن تتصالح مع نفسها” ببناء هذه المنعة الذاتية الحافظة لجوهرها المتسامح.