تعتبر المنطقة العربية واحدة من أكثر مناطق العالم تأثرا بتحديات المناخ والظروف الجيولوجية والجغرافية المتعلقة بوفرة المياه. حيث تقع في أشد مناطق العالم جفافا وتصحرا بمساحة تفوق 9 ملايين كم مربع.
وتؤثر اختلالات توزيع الماء بشكل مباشر على العديد من الدول العربية. حتى في الدول التي تمتلك أنهارا. فلدى هذه مشكلة تعوق استدامة الماء وتقلل فرص الحصول عليه مثل إنشاء سدود بقرار منفرد من دول المنبع. ما يؤثر على حصة دول المصب من المياه المتدفقة. إضافة إلى تلوث مصادر المياه وندرة سقوط الأمطار. ما يزيد نسبة الجفافة وملوحة التربة.
في تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية في العالم “المياه وتغير المناخ” -الصادر 22 مارس/أذار 2020- كشف أن التغير المناخي سيؤثر على إمكانية توافر ماء لازم لاحتياجات البشر الأساسية. وحذر التقرير من أن يفقد 52٪ من سكان العالم بحلول 2050 فرص الحصول على حقهم في مياه شرب آمنة.
العالم مقبل على مرحلة شح مائي في ظل تزايد عدد سكانه إلى 8 مليارات ومن المتوقع أن يصل إلى 9 مليار بحلول 2050.
نقص المياه والتغيرات المناخية
يبين الدكتور عباس شراقي -أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بكلية الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة- أن التغير المناخي الحالي ليس التغير الوحيد الذي حدث للكرة الأرضية البالغ عمرها 4600 مليون سنة. فنحن نعيش فترة حارة من عمر الأرض. حيث تتبادل العصور عليها. عصر جليدي ثم عصر دافئ. وليس للإنسان دخل فيها لكن قد يكون دوره منشطا أو مساعدا على ارتفاع الحرارة التي ازدادت بمعدل 8 درجات عن العصر الذي قبله -الجليدي- منذ 11 ألف سنة. فيما زادت الحرارة درجة واحدة خلال الـ100 سنة الأخيرة.
وفسر “شراقي” الجزء الأكبر من ارتفاع الحرارة بطبيعة الشمس. لأن الأرض انعكاس لما يحدث في الشمس وما يصلنا منها من تغيرات وفقا للانفجارات الشمسية. فحياة الأرض تكون في مدارات دائرية وأحيانا بيضاوية تأخذ في الدورة 90 ألف سنة. وهي مسؤولة عن تكوين العصور الجليدية أو الدافئة.
أيضا تدور الأرض على محور مائل بزاوية تتغير كل 41 ألف سنة. هذه التغيرات الطفيفة في الدوران -حسب “شراقي”- مسؤولة عن تغير المناخ من حيث بعد أو قرب سطح الأرض عن الشمس.
وذكر “شراقي” لـ”مصر 360″ أن من بين أسباب تغير المناخ عملية “إزاحة القارات” وتفتتها. فمنطقة مثل البحر الأحمر نشطة لذلك فإن دولة السعودية تبعد عن مصر بمعدل 2.5 سنتميتر سنويا.
عمليات الإزاحة
وتتعرض قارات العالم كلها لهذه العمليات من الإزاحة في أثناء الحركة تتراوح بين 1 و15 سنتميتر سنويا. فيما يعرف علميا بـ”الحركات التكتونية”. والتي يصاحبها أنشطة زلزالية ضخمة تغير من محور الكرة الأرضية فتتغير درجات الحرارة طبقا لدرجة القرب والبعد عن الشمس. كما تساعد أبخرة غازات مثل ثاني أكسيد الكربون والانبعاثات التي تخرج من باطن الأرض بفعل البراكين في ارتفاع الحرارة وذوبان الجليد.
وأشار إلى أن تلك التغيرات المناخية أظهرت تأثيرا على نهر النيل منذ آلاف السنين. فعلي مدار تاريخه اعتدنا منه الجفاف في سنوات والفيضان في سنوات أخرى. فيضانات تضرب حوض النيل وأفريقيا. ففي سنة 1988 جاء فيضان هو الأقوى لكن مصر لم تشعر به بسبب السد العالي. أيضا سنوات الجفاف السبعة التي بدأت من 1981 إلى 1987 لم نشعر بها. وكانت البحيرة شبه فارغة. فزيادة الأمطار وضعفها نتيجة دورانات الأرض وما ينتج عنها من مظاهر الجفاف الشديد أو الفيضان الكبير.
اختلالات توزيع المياه على الأرض
تبلغ نسبة الماء العذب على الأرض -وفق “شراقي”- 2.5% من حجم المياه على الأرض. نصفها تقريبا متجمد على هيئة جليد في القطبين الشماليين -نحو 1.8%. ونسبة مياه الأنهار المتدفقة تبلغ 0.0001% والباقي مياه جوفية.
هذه النسبة رغم ضآلتها إذا تمت قسمتها على عدد سكان العالم نجد أن نصيب الفرد أكثر من 6 آلاف متر مكعب في السنة. لكن المشكلة الحقيقة في إدارة هذه المياه وحسن استخدامها.
فنسب توزيع الماء غير متجانسة على الأرض. فهناك مناطق غنية ومناطق قاحلة. ما يتطلب التعاون بين جميع سكان الأرض. بمعنى أن الدول التي لديها إمكانيات بشرية ومالية وتقنية يجب أن تتعاون مع الدول التي لديها أمطار ولا تستغلها.
ومن المفارقات التي أشار إليها “شراقي” في اختلال توزيع الماء أن الدول الأكثر ثراء في المياه هي الأكثر فقرا.
ففي أفريقيا تمتلك دولة مثل الكنغو ثلث ماء القارة التي تضم 55 دولة. نصيب الفرد في الكونغو من المياه 16 ألف متر مكعب سنويا. فمياه نهر الكنغو البالغة 1300 مليار متر مكعب -أي 15 ضعف نهر النيل- تصب كلها في المحيط الأطلنطي. وتعتمد الدولة في الزراعة على مياه الأمطار. ورغم ذلك فإن الكونغو من أفقر دول العالم مع كينيا وإثيوبيا وأوغندا.
العالم العربي ومشكلة المياه
تشكل الصحارى ما يزيد على 80% من مساحة الوطن العربي. ولا يتعدى متوسط إجمالي كميات المياه الساقطة سنويًّا على تلك المناطق 200 مم. ما يضعها ضمن أكثر أقاليم العالم جفافًا.
وتعد مصر الأعلى في نسبة الجفاف تليها السعودية ثم ليبيا فالإمارات والكويت. ويظهر تأثير الجفاف بشكل أكبر في أحواض الأنهار كحوض النيل في أفريقيا ودجلة والفرات في العراق.
ويمثل سكان الوطن العربي 9% من سكان العالم. ورغم ذلك فإن حظه الإجمالي من المياه العذبة لا يتجاوز 0.7%.
وردّ “شراقي” ندرة المياه في الوطن العربي لوقوع معظم الدول العربية في أشد المناطق تصحرا وجفافا. فأكثر 11 دولة في العالم في نسب الجفاف بالمنطقة العربية. ما يتسبب في تبخر 80% من المياه إضافة لعامل ندرة الأمطار.
في حين تستحوذ ثلاث دول عربية على النصيب الأكبر من المياه. هي مصر والسودان والعراق، 65%. فيما 19 دولة تعاني نقص المياه. حيث يبلغ نصيب الفرد في دول الخليج العربي من المياه 100 متر مكعب. وتقل في الكويت 10 أمتار والإمارات 16 مترا.
مخزون المياه الجوفية
كون العالم العربي خزانات مياه جوفية كبيرة من العصور المطيرة تمثل ملاذا آمنا يمكن الاعتماد عليه أوقات الجفاف. لكن هذه الخزانات تواجه بعض التحديات التي تهدد استمرارها. من ناحية أخرى فإن ارتفاع مستويات سطح البحر بفعل ارتفاع درجات الحرارة يؤثر على تغذية الخزانات الجوفية. ومن المتوقع أن يرتفع مستوى سطح البحر ما يقارب 19 إلى 58 سنتيمترا في نهاية القرن الحادي والعشرين.
يقول “شراقي”: “كل متر مكعب يخرج من المياه الجوفية إلى سطح الأرض بالمنطقة العربية لا يتم تعويضه بفعل الجفاف وندرة الأمطار”. لافتا إلى أن هناك مناطق يتم استنزاف المياه الجوفية فيها باستخراج كميات أكبر من المعدل الآمن. ما يزيد تغير خصائص المياه وزيادة نسبة الملوحة والضغط. لذا هذه الخزانات تحتاج إلى استخدام رشيد حتى لا ينخفض هذا الاحتياطي كثيرا وتتعرض للتلوث أو النضوب.
السدود والتوزيع العادل للمياه
هناك أكثر من 310 أنهار مشتركة عابرة للحدود في العالم. وفي الوطن العربي نصف مياه الدول التي تمتلك أنهارا تأتي من الخارج. أو كلها من خارج حدودها كمصر. وتعاني مناطق كثيرة بالوطن العربي من إقامة سدود من دول المنبع أثرت على حصصها في المياه. منها فلسطين التي تستحوذ إسرائيل علي ثلثي حصتها من المياه الواردة من الجولان السورية.
وقد قامت تركيا بإنشاء سبعة سدود على نهري دجلة والفرات تؤثر على منسوب المياه المتدفق إلى العراق لتبلغ درجة الإجهاد المائي بها 3.7 من 5 وفق مؤشر الإجهاد المائي.
ويتوقع المؤشر العالمي أنه بحلول 2040 ستصبح بلاد الرافدين أرضًا بلا أنهار بعد أن يجف نهرا دجلة والفرات تمامًا.
أيضا فإن مصر والسودان والصومال وجيبوتي تواجه مشكلات مع إثيوبيا في إقامة سدود تؤثر على حصة المياه الواردة إليها. وقد أنشأت السنغال سدا على نهر السنغال. ما أثر على حصة موريتانيا من المياه.
وذكر “شراقي” أن إثيوبيا تنتهك حقوق 9 دول تشترك معها في الأنهار. وأن مشكلة مصر والسودان تكمن في إقامة سد “النهضة” لأن 85% من مياه النيل تأتي من إثيوبيا. لذلك فالسد يؤثر مباشرة على حصة المياه القادمة لدولتي المصب. كما أنشأت إثيوبيا أربعة سدود حجبت بها المياه عن الصومال منها سد “ملكا” و”كينا” على الروافد العليا لنهر شبيلي.
وقد شهدت الصومال حالة جفاف تسببت في نقص حاد في مياه الشرب. ما ينذر بكارثة حقيقية تؤثر على حياة الإنسان والمواشي والبيئة.
التمدد السكاني واستهلاك المياه
يعد النمو السكاني في مصر أحد أكبر التحديدات التي تواجه استدامة المياه. حيث تضاعف عدد السكان والمشروعات. بينما حصة المياه ثابتة 55 مليار متر مكعب. فمنذ 50 سنة كانت مساحة الأراضي الزراعة 6 ملايين فدان. تضاعفت المساحة الزراعية حاليا لتصبح 11 مليون فدان. ما أدى لانخفاض نصيب الفرد من المياه. ففي سنة 1960 كان نصيب الفرد 2000 متر معكب انخفض في 1990 إلى 1000 متر مكعب. ووصل حاليا إلى 500 متر تقريبا. ويرجع ذلك إلى التوسع في المشروعات واستصلاح الأراضي خلال التسعينيات. والتي أضافت 3.5 فدان للمساحة المزروعة فضلا عن التطور العمراني والتوسع في بناء المدن. فهناك 14 مدينة جديدة والفيلات وحمامات السباحة وزيادة الأنشطة الترفيهية وارتفاع معدل استهلاك الغذاء. خاصة إنتاج اللحوم الذي يكلف استخدامات مياه عالية.
لكن “شراقي” أكد أن هذا الانخفاض غير مقلق لأن هناك دول نصيب الفرد فيها 200 متر مكعب وتصدر غذاء بسبب حسن إدارة استخدام المياه بالاعتماد على تكنولوجيا الري.
كفاءة استخدام المياه
وفرة المياه ليست دليلا على تحسين حياة الأفراد. بل حسن استخدامها وإدارتها في العالم العربي واستثمارها في أنشطة ذات عائد اقتصادي كبير هو ما يحقق عائد الاستدامة والتنمية.
وطبقا لـ”شراقي” فإن 81% من نسبة الماء في الوطن العربي موجهة للزراعة. ورغم أهميتها لكن توجيه المياه نحو الزراعة وإهمال الصناعة يجعلها دولا فقيرة اقتصاديا. فالمتر مكعب من الماء عائده الزراعي يبلغ 10 جنيهات بينما المتر معكب من المياه المستخدم في الصناعة عائده الاقتصادي يقدر بآلاف الجنيهات. مطالبا بتقليل توجيه الماء للأنشطة الترفيهية وتحقيق التوازن في استخدام تكنولوجيا ري المحاصيل. فضلا عن اختيار محاصيل ذات عائد اقتصادي كبير -فسعر طن العنب يوازي 5 أطنان من القمح- فضلا عن ترشيد زراعة المحاصيل الشرهة للماء كالأرز وقصب السكر والموز. ومن ثم التوجه نحو محاصيل أقل استهلاكا له كالموالح والزيتون والعنب ونخيل البلح.
وقال إن مصر صدّرت العام الماضي 5.6 مليون طن محاصيل زراعية كان العائد منها 2.3 مليار دولار استهلكت 6 مليارات متر مكعب مياه. بما يعني أننا صدّرنا هذا الرقم من المياه بعائد 2 مليار دولار. في حين أن القطاع الزراعي يسهم بـ11% من الدخل القومي فقط. وهو ضعيف للغاية اقتصاديا في الوقت الذي نقوم فيه بإنفاق عشرات المليارات في محطات التحلية لرفع حصة المياه من 55 مليار إلى 80 مليارا مستقبلا.
التلوث وأثره على استدامة المياه
يبين الدكتور أبو بكر التهامي -أستاذ مشاركات البيئة بجامعة أم درمان- أن إزالة الغابات والغطاء النباتي بالهضبة الوسطى الإثيوبية وحوض النيل خلال السنوات الأخيرة أدي إلى زيادة معدل الفيضانات التي تتعرض لها السودان. والتي تحمل معها كميات كبيرة من الطمي تتسبب في عكارة المياه لفترات طويلة نتيجة الرواسب الطينية العالقة.
وأوضح: “إضافة إلى تدهور الغابات في السودان التي يمر بها النيل الأبيض والأزرق ونهر النيل ودلتا القاش وطوكر. وانتشار السكن العشوائي على حواف الأنهار الذي تسبب في تلوث المياه وعدم الاستفادة منها وإهدرها”.
وقال إن نصيب الفرد من المياه النظيفة في الحضر السوداني 20 لترا يوميا. في حين نصيب الفرد في الريف 8 لترات فقط. وهناك مناطق بالمدن الرئيسية مثل العاصمة الخرطوم وأم درمان لا تحصل على مياه آمنة صحيا.
وأشار إلى أن إقامة السدود كـ”النهضة ومروي وخزان الروصيرص” وضيق المجرى الرئيسي بالنيل الأزرق تزيد مخاطر الجفاف. الذي يتسبب في هجرة السكان من مناطق الجفاف إلى مناطق أخرى جديدة ليسوا على دراية بها. فتزيد نسبة الإصابة بالأمراض المتوطنة جراء تلوث المياه بالبلهارسيا والملاريا والتيفود. إضافة إلى ضعف العظام. فمنطقة “اللشمينيا” تسببت الآفات في الفتك بآلاف القطعان من الماشية وانتشار الأمراض المعدية.
مواجهة الجفاف والملوحة
وقال الدكتور خالد غانم -أستاذ البيئة والزراعة الحيوية بجامعة الأزهر ورئيس مجلس أمناء مؤسسة وطن أخضر- إن من آثار تغير المناخ ارتفاع نسبة الجفاف والملوحة بالتربة. ما يؤثر على الأمن الغذائي.
ويرى أننا في حاجة إلى تعديل نوعية النباتات بحيث تتحمل نسبة الملوحة. خاصة بالمناطق الساحلية والزراعية الجديدة. مثل نبات “الكنوة” الذي تم تجريبه وأثبت نتائج ناجحة. فهو يحتوي على نسبة بروتين مرتفعة. أيضا نبات “الأنديز” من الأغذية مرتفعة القيمة ويعتبر مكملا لمحصول القمح ويواجه آثار تغيرات المناخ.
كما يمكن زراعة نبات “الشيا” بالنوبارية. فضلا عن الأعلاف التي تتحمل الملوحة مثل حشائش “الرولس” -غير معروفة في مصر- لكنها تصلح كعلف حيواني.
ودعا إلى التوسع في الزراعة العضوية والاستفادة من 100 ألف طن من المخلفات النباتية والحيوانية لتحويلها إلى أسمدة طبيعية. ووضعها في الأراضي الزراعية للحد من استخدام الأسمدة والمبيدات التي تزيد تلوث المياه.
تحويل طرق الري الزراعي
وذكر الدكتور أحمد أبو كنيز -رئيس الاتحاد النوعي للبيئة- أن طرق الري التقليدية التي نعتمدها تمثل 95% من الزراعة رغم أن كفاءتها منخفضة وتسبب إهدار ٢٥ مليار متر مكعب من المياه سنويا.
وقال لـ”مصر 360″ إن عملية التحول تحتاج إلى تكلفة مادية خارج قدرات الأغلبية الكاسحة من المزارعين. ما يتطلب تدخل الدولة وعمل البنية التحتية اللازمة أو أن تتحمل وزارة المالية الفوائد على القروض المقدمة لدعم المزارعين للتحول لنظم الري الحديثة حفاظا على المياه. مطالبا بأن يتم تحويل جميع الترع المكشوفة إلى أنابيب بها مياه الري. تحت ضغط يكفي للضخ في شبكة بكل حقل دون الحاجة إلى معدات ضخ مياه. وأن تكون هناك محطة تنقية عملاقة في بداية كل ترعة.